إذاً، هذا كل ما في الأمر. لم نتخلّص من "كوفيد" على الإطلاق. ولم يتحقق النصر على هذا العدو الفتاك الخفي. ولن نبذل قصارى جهدنا لإلحاق الهزيمة بكورونا، على الرغم من كل شيء، إذ يعلن بوريس جونسون الاستسلام.
لم نضغط على الفيروس إلى حد يكفي لردعه وتقليل خطره على الصحة، وهو هدف أُسيء توصيفه بعبارة "تصفير كوفيد" التي تفتقر إلى الواقعية. وبدلاً من ذلك، نحن نقبل أننا هُزمنا أمام "كوفيد"، ويتوجب علينا أن "نتعلم كيف نتعايش معه" تماماً وفق ما نفعل مع الإنفلونزا، ونتوقع أن نمرض، أو بالأحرى أن نعاني من المرض بشدة، ربما لوقت طويل، وربما نموت قبل الأوان.
هل يليق هذا الموقف كثيراً بتشرشل ومن كانوا من طينته؟ يُعرف عن رئيس الوزراء إعجابه البالغ بسلفه العجوز. لكن، بدلاً من أن نطلق كلمات عن ذرف الدم والعرق والدموع (على غرار ما فعل تشرشل في مناسبة شهيرة إبان الحرب)، مهما كانت الأعباء ثقيلة، وبصرف النظر عن مدى طول المعركة، بدلاً من ذلك، تجدنا لا نبالي بالمعركة ونمضي في طريقنا لأن أعضاء حزب المحافظين أخذوا يشعرون حالياً بالملل منها. والمفارقة أن هذا يحصل الآن، أي قبل نحو شهرين من استكمالنا برنامج التلقيح بالقدر الممكن، ومع حلول ذلك الوقت، ربما يكون لدينا نظام سريع في الفحص والتتبع. وتشكّل تلك الأمور كلها أفضل سبل الوقاية على المدى البعيد.
في المقابل، بدلاً من ذلك، يُخبر الشباب حالياً أن عليهم أن يحققوا مناعة القطيع من خلال تعرّضهم للمرض بشكل جماعي. ويقال لهم إن ذلك التعرض يعني انتزاع الهزيمة من بين فكَّي النصر. ولكن، يشبه الأمر أن يكون تشرشل قرر التوقف عن متابعة الحرب غداة يوم إنزال قوات الحلفاء المنتصرة على شواطئ نورماندي، ثم يبرّر ذلك بأن الناس، بحسب ما تعرفون، انتابهم الملل من تقنين الغذاء ومن القنابل الألمانية.
يشير ساجد جاويد، وزير الصحة الجديد إلى أننا سنكون في وضع صحي أفضل نتيجة التخلي عن معظم القيود المتبقية والقواعد المتعلقة بالكمامات والتباعد الاجتماعي.
من جهة أخرى، إن الضغوط التي شغلت "خدمة الصحة الوطنية" عن العناية بحالات لا تتصل بـ"كوفيد"، كانت حقيقية تماماً، وكذلك الحال بالنسبة إلى الصعوبات الناجمة عن تصاعد وتيرة العنف المنزلي وتردّي وضع الصحة العقلية، علاوة على ضياع دروس كثيرة على الطلاب. مع ذلك، فإن "الإغلاق" بالمعنى الكامل للكلمة، انتهى منذ أسابيع، وصار بوسعنا ممارسة معظم أعمالنا بحرّية تامة (أو ربما بقدر أكبر مما ينبغي من الحرية، نظراً إلى التزايد المتسارع في الإصابات).
ليس هناك حالياً من هم قيد الإقامة الجبرية وليست هناك حاجة للقنوط والضيق بسبب المعاناة من حبس طال أمده. نحن نتمتع سلفاً بحرّيتنا، فعلياً، ويمكن أن تُستكمل استعادتها مع نهاية فصل الخريف. ومن الممكن تقديم الدعم إلى القطاعات الأكثر تأثراً كالسفر والترفيه، ريثما يحين ذلك التاريخ. ستغلق المدراس أبوابها قريباً. وستتوافر عندها فرصة مثالية لـ"الانتهاء من التطعيم" وتصويب الأخطاء التي ارتُكبت في إطار برنامج الاختبار والتتبع، وإصلاحه بشكل نهائي. لكن بدلاً من الانتظار، نحن نستعجل الأمر ونريح أنفسنا قبل الأوان. ونكرر بذلك ما فعلناه سابقاً.
متى يجب أن يحلّ "يوم الحرية"؟ سيأتي حين يكون الوضع آمناً وقابلاً للاستمرار، وليس قبل ذلك، أو لنقُل حينما يكون 85 في المئة من مجموع السكان تلقّوا اللقاح وصرنا نتمتع بمناعة القطيع. ويمثّل ذلك معنى القول إننا نتحرك وفق البيانات وليس التواريخ الاعتباطية. لم يحدد تشرشل تاريخاً معيناً لنهاية الحرب العالمية الثانية، والصراع الذي نخوضه اليوم ليس مختلفاً عن صراعه ذاك. وعلى غرار ما حصل معه، يجب أن يبقى الصراع مستمراً حتى النصر، فأنت لا تفوز إلا حين تحقق النصر في أي وقت كان.
وحتى الآن، لم يصل التحصين المزدوج (بالجرعتين) إلى مستوى كافٍ بين جميع السكان، لا سيما أن عدد الشباب ممن تلقّوا اللقاح لا يزال أقل مما يجب، والمجتمع لا يزال حذراً بحق حول إعطائه إلى الأطفال. صحيح أن الأطفال والشباب أقل تأثراً من غيرهم، بيد أنهم معرضون للإصابة بالمرض، إضافة إلى قدرتهم على نقل العدوى إلى آخرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى أي حال، لا يقي اللقاح دائماً من الإصابة بالعدوى. لقد قلل من وقوع إصابات ربما تؤدي بأصحابها إلى دخول المستشفى أو الموت، لكنه لم يضع حداً نهائياً لذلك. كذلك لا تمنع اللقاحات الإصابة بـ"كوفيد" الطويل الأمد، وهنا يكمن التهديد الأكبر للشباب الذين تلقّى معظمهم جرعة واحدة، أو ربما لم يأخذ أي واحدة حتى الآن. وربما يظهر متحور جديد من فيروس كورونا في الوقت المناسب ويهاجم الشباب، علماً أنهم يتمتعون حالياً بدفاع محدود في أحسن الحالات. ويجب على هؤلاء أيضاً أن يتلقّوا اللقاح ويتّبعوا الإجراءات الاحتياطية من قبيل ارتداء الكمامات، وذلك كي يحموا أنفسهم. كذلك تساعدهم مناعة القطيع على البقاء في مأمن من الفيروس.
هل هذا تخويف؟ لا أعتقد أنه كذلك. والواقع، لو امتلكنا مزيداً من "التخويف"، أي مزيداً من الواقعية، مع قدر أقل من الرضا عن النفس واللامبالاة خلال الأشهر الـ16 الأخيرة، لعمدنا إلى فرض الإغلاق في وقت سابق على الموعد الذي أغلقنا فيه، وتركناه مستمراً لفترة أطول مما فعلنا، ولما كنّا خسرنا آلاف الأرواح بلا مبرر (ولما سجّلنا واحداً من أسوأ معدلات الوفيات في أوروبا).
تقتضي طبيعة الفيروس التريث في تقييم "كوفيد" الطويل الأمد لأن من السابق لأوانه الحكم عليه الآن. لكن الحديث عنه ليس مجرد هراء لا قيمة له، وفق ما ذكر أحد المعلقين أخيراً. فلقد أبلغ حوالى 962 ألف شخص في المملكة المتحدة أن لديهم أعراض "كوفيد" من النوع الذي تستمر تداعياته وقتاً طويلاً، بحسب "مكتب الإحصاء الوطني" في 10 يونيو (حزيران) الماضي. وذكر 400 ألف من هؤلاء أنهم عانوا من هذه الأعراض منذ ما يزيد على عام. هذه حالات أبلغ عنها أصحابها ذاتياً، لكن إذا جرى تشخيص جزء ضئيل منهم سريرياً ووُجد أنهم يعانون من تعب مزمن وضيق في التنفس وآلام المفاصل والعضلات وما يُسمّى بـ"ضباب الدماغ"، فإن ذلك سيكون بمثابة كارثة كبيرة.
يؤثر "كوفيد" في كبار السن والنساء والأشخاص من أصحاب الخلفيات الفقيرة أو من يعانون أمراضاً مرافقة، أكثر من سواهم. وبات يؤثر حاضراً في عدد أكبر من الشباب ممن لم يتلقّوا اللقاح. صحيح أن هؤلاء لن يموتوا بسبب الإصابة بـ"كوفيد"، إلا أنهم ربما يضطرون إلى "التعايش معه" عقوداً من الزمان، بحسب ما يُذكر على سبيل التخفيف من هول المشكلة. وسنكتشف قريباً كم من هؤلاء سيعانون إعاقات تغيّر حياتهم، وكذلك مدى الزمن الذي ستستغرقه معاناتهم تلك. وعلى أية حال، سيكون عدد أولئك الضحايا أقل بالمقارنة مع ما ربما يحصل إذا انتظرنا فترة أطول بقليل حتى ننتهي من برنامج التحصين (بالجرعتين).
هل هذا ما يعنيه "التعايش مع كوفيد"؟ بالنسبة إلى خبراء الصحة العامة وأمثالهم، تعني تلك العبارة اليقظة والتنبه، والتخفيف بشكل دوري من تمدّد المرض من خلال فرض القيود أو حتى الإغلاقات، والإبقاء على التباعد الاجتماعي والكمامات والمسح الضوئي للراغبين بدخول المرافق المختلفة. إن عبارة "التعايش مع الفيروس" تعني اتخاذ الاحتياطات اللازمة وتلقّي اللقاح بهدف التقليل من تفشي الإصابة. لكن، خلافاً لذلك كله، لم نعُد الآن بصدد محاولة التقليل من انتشار "كوفيد"، بل بتنا نسعى إلى تحمّله.
وثمة سؤال يفرض نفسه عن سبب عدم ارتداء الكمامة عندما نكون على متن حافلة أو في مخزن سوبرماركت، لا سيما أن متحورة "دلتا" تنشر العدوى أكثر كثيراً من بقية المتحورات؟ ألن نفضّل جميعاً أن نحتمل نحن والمواطنين الآخرين بعض الإزعاج بضعة أشهر أخرى، إذا كان هذا يضمن لكل منّا بقاء رئتيه سليمتين تعملان بشكل طبيعي؟
ربما صار "تصفير كوفيد" بعيد المنال، غير أن هدف السياسة يجب أن يبقى حماية الحياة والصحة إلى أقصى درجة ممكنة. ومن الواضح أن الحكومة قررت ألا تفعل ذلك، وستكون هناك كارثة مع حلول عيد الميلاد، مرّة أخرى، ووصولاً إلى عام 2022، إذا واصل الفيروس تغلغله السريع ناشراً الموت في المجتمعات المختلفة. ستكون رقعة تفشيه واسعة إلى حد يجعل ارتفاع حالات "كوفيد" الطويل الأمد والموت جراء الإصابة به حتمياً، على غرار ما نجم عن الإصابات حتى الآن. ويُرجّح أن لا تقوى "خدمة الصحة الوطنية" على تحمّل الموجة المقبلة التي ربما تجعل من الضروري فرض إغلاقات متأخرة بشكل مذعور، مع ما ستسببه من أضرار اقتصادية جسيمة.
وكخلاصة، تستعد الحكومة لإصدار حكم لا مبرر له على الآلاف من أبناء الجيل الشاب، بأن يصيبهم "كوفيد" الطويل الأمد الذي يحتمل أن يتسبب بإعاقة مدى الحياة. وعندها، فإن الجثث "ستتكدس" تماماً وفق ما ذكر جونسون ذات مرّة لأنه يفهم العواقب. وفي المقابل، إنه يغامر بحياة الآخرين الآن، على غرار ما فعل دائماً.
لا يبدو أي أمر من تلك الأمور مناسباً ليكون أساساً متيناً في مطالبة الناخبين بولاية أخرى على رأس السلطة. لن تنتهي الجائحة في 19 يوليو (تموز) الحالي، ولن تتوقف الوفيات التي يسببها "كوفيد"، وكذلك لن تنتهي متاعب الحكومة. وينبغي ألا يسامحوا أبداً.
© The Independent