Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مسيو كروش المناوئ" لديبوسي كتابات موسيقي مولع بالجدال

حوارات صاخبة لإيصال مواقف وأفكار مفعمة بالتناقض... الخلاق

كلود ديبوسي (غيتي)

في عام 1921 صدر في باريس كتاب كان من المفترض أصلاً أن يصدر قبل ذلك بسبع سنوات، لكن اندلاع الحرب عام 1914 أجل صدوره فلم يستمتع مؤلفه به هو الذي كان يحلم بإصداره وربما منذ طفولته. عنوان الكتاب "مسيو كروش المناوئ" واسم مؤلفه كلود ديبوسي. وديبوسي رحل عن عالمنا قبل ثلاثة أعوام من صدور كتابه فمُجّد مع وضع الحرب أوزارها، ليس ككاتب مؤلف طبعاً، وإنما كواحد من أكبر الموسيقيين الفرنسيين في ذلك الحين.

الموسيقي ناقداً مبتكراً

نعرف طبعاً أن معظم الموسيقيين كانوا من عادتهم ذات حقبة من حياتهم أن يجدوا فسحة من وقت ينصرفون فيها إلى الكتابة بغير لغة "النوتة"، لكنهم في معظم الأحيان اكتفوا بكتابة يوميات أو مذكرات أو رسائل أو شروحاً لأعمالهم الإبداعية. نادرون منهم أولئك الذين كفاغنر وليست ورامو وشوينبرغ انصرفوا إلى أكثر من ذلك، أي إلى الكتابة في الموسيقى وحولها. والحقيقة أن ديبوسي لو أن كتابه صدر وهو بعد على قيد الحياة لكان له شأن آخر. وهو أمر يرهص به على أية حال، الاستقبال الذي كان لفصول الكتاب حين كان الموسيقي ينشرها بصورة متفرقة لخمس أو ست سنوات عند بدايات القرن العشرين، جاعلاً إياها مادة خصبة تمكنه من أن يفرض نفسه في الساحة الفنية ناقداً موسيقياً إضافة إلى كونه مؤلفاً موسيقياً كبيراً. لكن ديبوسي لم يختر سبيل المباشرة لتحقيق ذاته كناقد، بل فضل سلوك طريق مواربة، ابتكر شخصية سماها "مسيو كروش" جاعلاً من هذا السيد محاوراً له في شؤون الموسيقى وشجون الموسيقيين... لكنه صوره محاوراً عنيداً متعنتاً، كما يدل عنوان الكتاب، لا يتوقف ديبوسي عن محاولة تهدئته ودفعه إلى الاعتدال في أحكامه وتقييماته لمعاصريه.

بين المتعنت والمتسامح

يتضمن الكتاب نحواً من خمسة وعشرين مقالاً نشرها الموسيقي في صحف ومجلات كانت ذائعة الصيت في ذلك الحين، مثل "المجلة البيضاء" (1901) أو "جيل بلا" (1903) أو "موزيكا" (1905)، يصور فيها الكاتب، ديبوسي، تلك "الحوارات" الصاخبة التي تدور بينه وبين أناه/ الآخر مسيو كروش حول الجديد في الأحداث الموسيقية. ولئن كان مسيو كروش يبدو صارماً مناوئاً لكل شيء، فإن ديبوسي يبدو أكثر وضوحاً وتساهلاً، إذ نجده يدافع حتى عن أعمال موسيقية لعدد من كبار خصومه ومنافسيه، لكنه في الوقت نفسه لايبدو ويا لغرابة الأمر! معجباً بفاغنر على الرغم من دفاعه الشرس عن الموسيقى الألمانية، كما سوف نرى بعد سطور، ويبدو أحيانا شوفينيا شرساً في معرض تبنيه لجميع مجايليه من الموسيقيين الفرنسيين، معلناً رعبه إزاء كل الذين يكتفون بمحاكاة المؤلفين الأجانب... وبشكل عام يبدو ديبوسي موضوعياً مقابل صخب محاوره الذي "لا يعجبه العجب" وقد يحدث أحياناً لديبوسي وبشكل جدلي أن يخضع في النهاية لرأي مسيو كروش... وإن على مضض!.

رغبات من عهد الطفولة!

لقد أتى بالغ الطرافة في نهاية الأمر هذا الكتاب الذي سيقول كثر أن فكرته كانت تداعب خيال كلود ديبوسي (1862 – 1918) منذ وقت مبكر. بل حتى كما يبدو منذ صباه الأول هو الذي كان و"منذ بلغ الثامنة من عمره، كما ستكتب أخته لاحقاً، يجلس ساعات وساعات على كرسيه صامتاً يفكر وهو ينظر بعيداً". بماذا كان يفكر؟ "لم تكن تدري" قالت الأخت، وأضافت "ربما هو نفسه لم يكن يدري". ولعل قراءة الكتاب الذي صدر بعد موته يعطينا الجواب. لاحقاً خلال فترات النضوج من حياته، لم يرتبط ديبوسي بالفن الفرنسي، وهو نفسه كان فرنسياً، بقدر ارتباطه بالفنين الروسي والألماني، لا سيما الألماني حيث اعتبر مكملاً لعمل ريتشارد فاغنر الموسيقي الرومانطيقي، ووريثه من ناحية ثانية بأخباره الفضائحية على صفحات الصحف الشعبية. ولسوف يعرف ديبوسي، بكونه من أشد المعجبين بكل ما هو ألماني ذات حقبة ما انعكس في بعض فصول الكتاب، لكنه حين توفي في عام 1918، لم يفته وهو في غاية المرض الذي أودى به، أن يلاحظ كيف أن القذائف الألمانية كانت تتساقط فوق باريس بعنف ووحشية. ويزعم البعض أنه قال في لحظاته الأخيرة ضجراً، أيمكن أن يكون هذا العنف البدائي كله آتياً من بلاد فاغنر؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أوطانه الموسيقية الثلاثة

بالنسبة إليه كان الهوى الروسي قد زال ليحل محله هوى ألماني منذ سنوات. ومع هذا كان تأثره بكبار الموسيقيين الرومانطيقيين الروس واضحاً. كانت راعية تشايكوفسكي، السيدة فون ميك، أول من وجهه إلى روسيا وهي تأمل منه أن يكمل ما بدأه صاحب "بحيرة البجع"، لكن ديبوسي ما إن وصل إلى موسكو حتى كشف أنه يفضل بورودين وموسورغسكي على تشايكوفسكي. ظل هذا التفضيل واضحاً في أعماله، وإن كان هو، ذات مرة حاول أن يخوض التجربة الإيطالية، وعاش ردحاً في روما، وحين شاء أن يتقرب من معلّم الأوبرا الكبير فردي، خاب أمله، لأنه خلال الزيارة الأولى لاحظ أن صاحب "عايدة" مهتم بالحديث عن الخضار والفواكه التي يزرعها في حديقة بيته، أكثر من اهتمامه بالحديث معه عن الموسيقى، كما يقل له مسيو كروش في أحد فصول الكتاب.

موسيقى وشعر حديث

إذاً، وكما يمكن لما يرد في الكتاب على لسان مسيو كروش ويناهضه ديبوسي فيه أن يفيدنا، فإن علاقات ديبوسي بالبلدان "الموسيقية" الثلاثة، أسفرت عن خيبة وعن زوال هالة السحر. فرنسا وحدها، وطنه، لم تخيب أمله أبداً، وإن كان هو جحدها دائماً. ومهما يكن في الأمر، فإن أعمال ديبوسي الكبيرة التي بقيت، كانت تلك التي ارتبطت بفرنسا، وبالأنواع الفنية الأخرى، من مسرح وأوبرا، وشعر. وفي هذا الإطار يمكننا القول إن عملاً لديبوسي، هو الأقل شهرة بين أعماله، كان الأفضل دائماً في رأي الباحثين والمتخصصين، وأيضاً الشعراء، لأنه كان الأكثر تعبيراً عن موهبة هذا الموسيقي الكبير المتنوعة، وعن توقه الدائم إلى وضع موسيقى تغلف كل شيء، بما في ذلك الشعر الحديث الذي اشتهر في ذلك الحين بكونه عصياً على الارتباط بالموسيقى. ديبوسي كذّب ذلك، وتحديداً عبر الموسيقى الرائعة التي وضعها بين 1887 و1889 لخمس قصائد من الشاعر شارل بودلير، التي عرفت باسم "خمس قصائد من بودلير".
حين لحن كلود ديبوسي ذلك العمل كان في أواسط العشرينيات من عمره، ولم يكن حقق، بعد، تلك الشهرة التي ستجعل منه واحداً من أكبر الموسيقيين الفرنسيين في زمنه. لكنه كان قد غاص بعيداً في قوة التعبير والقدرة على التنويع، كما على التسلل إلى لب اللب من موضوعه، حيث "أعاد خلق الموسيقى الفرنسية في بعدها الأوروبي" بحسب تعبير واحد من كتاب سيرته. "بل إنه أعاد خلق كوزموبوليتية الموسيقى الفرنسية" كما قال آخر، إذ عرف عن ديبوسي في ذلك الحين مزجه بين التعابير الروسية والألمانية، وموسيقى كانت تأتي من جزيرة جاوا في إندونيسيا، متوجاً ذلك كله بأنغام عربية، كان يتعرف عليها بخاصة من طريق" شرقية"  عديد من المؤلفين الروس.

ضوء وفراشات وعزلة
ولد كلود ديبوسي عام 1862، وأبدى منذ طفولته ولعاً بالضوء والفراشات الملونة والعزلة، وهي أمور لم تفارقه طوال حياته لاحقاً. دخل الكونسرفاتوار في باريس، وكان في العاشرة، حيث توقع أهله منه أن يصبح عازف بيانو ماهراً، غير أن أستاذه هناك سرعان ما لاحظ شغفه بالتأليف الموسيقي أكثر من شغفه بالعزف على البيانو. لاحقاً درّس العزف لواحد من أبناء أسرة فون ميك الثرية، ما عرّف عليه السيدة فون ميك فأرسلته إلى موسكو ليتعمق في الموسيقى الروسية. وفي موسكو كتب أول أعماله الجدية. لاحقاً أمضى سنتين في إيطاليا ونال جائزة روما 1884 بعد ذلك عاد إلى باريس، حيث فشلت حياته الزوجية، لكنه ارتبط بصداقة مع زميله اريك ساتي، وبدأ يكتب أعماله الانطباعية الكبيرة، ومنها أوبراه الوحيدة "بيلياس وميليساند" التي ستثير سجالاً. وكتب كذلك، بعد زيارات عدة إلى ألمانيا، مقطوعات للبيانو ولحن قصائد. واشتغل كثيراً خلال سنواته الأخيرة على الرغم من مرضه. ومن أشهر أعماله "البحر" و"صور" و"زاوية الأطفال" و"الليليات" و"مقدمة لبعد ظهر ضار"... الخ.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة