Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا يحن الجزائريون لسياسييهم "التاريخيين"؟

رحيلهم وتهميشهم لم يحجبا أقوالهم عن التداول وذكراهم لا تغيب عن الأذهان

متظاهرون جزائريون يشاركون في مظاهرة مناهضة للحكومة بالعاصمة  (أ ف ب)

عندما تتحدث عن السياسة في الجزائر تطفو على السطح من دون منازع أسماء بارزة ظلت ترسم المشهد حتى في الغياب، يحن إليها الشعب، ويتوقف عند أقوالها المأثورة، فهي التي جعلت من السياسة فناً ممكناً، ودعت إلى ممارسة ديمقراطية غير مشوهة، تحتوي الجميع بمختلف المشارب والتوجهات الأيديولوجية، في بلد يميزه الاختلاف، وتحكمه قواعد التنافر.

الراحل عبد الحميد مهري (1926-2012) واحد من الشخصيات التي جمعت بين الأشياء وأضدادها؛ السياسة والأخلاق، والمعارضة والسلطة، والصلابة والليونة، ما جعل منه شخصية بارزة محفورة في الذاكرة الجماعية للجزائريين، إذ بات نموذجاً يقتدى به، ومحط اهتمام الشباب الناقم على السياسيين، الذين رفعوا صوره عالياً في حراك 22 فبراير (شباط) 2019، واستنجدوا بأقواله الخالدة التي جهر بها بكل جرأة، وأبرزها "نحن في زمن الرداءة، وللرداءة أهلها"، وكذلك "تغيير رئيس برئيس لا يحل مشاكل الجزائر"، و"ديمقراطية الدبابة ديمقراطية مريضة".

وفي الـ30 من يناير (كانون الثاني) 2021، استحضر جزائريون الذكرى التاسعة لرحيل السياسي والمفكر عبد الحميد مهري، عام 2012، فرثوه مطولاً على مواقع التواصل الاجتماعي، وصنعت مشاهد تلفزيونية من تصريحاته الحدث، كأنه حاضر يلقي خطبه على الجزائريين في الظرف الراهن.

كان مهري من أهم السياسيين خلال الثورة (1830-1962)، وقد تولى قيادة حزب "جبهة التحرير الوطني" أواخر الثمانينيات، وفي تلك الحقبة كان الحزب في أوجه، فكان قوة فاعلة في المعادلة في زمن الأحادية. هزيمة حزبه (الأفلان)، لم تمنع الراحل مهري من معارضة توقيف المسار الانتخابي بعد إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية في 11 يناير 1992، بتدخل من الجيش، بعد أن فازت بدورها الأول "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، التي تم حلها فيها بعد. كما شارك الراحل في مؤتمر "سانت إيجيدو" بروما عام 1995، ووقع على "العقد الوطني" الذي دعا للمصالحة الوطنية في الجزائر.

هذا الأنموذج يتشابه إلى حد ما مع قامة سياسية أخرى، هي شخصية الراحل حسين آيت أحمد (1926-2015) التي لم تهادن الحكم، ولم تغتر بالامتيازات، ولا حتى بالمناصب، وهو الذي أسهم بمعية قادة آخرين، في تحرير الجزائر من قبضة الاستعمار الفرنسي، كما شارك في معارك بناء جزائر الاستقلال كمعارض سياسي منذ عام 1963، وهو مدرسة في السياسة يطول الحديث عنها، كما يراه محبوه على كثرتهم.

الحكيم والزعيم

منبع اعتزاز الجزائريين بسياسيين رحلوا ليس وليد الصدفة، أو ضربة من الحظ، إذ يقول الإعلامي فاروق معزوزي "القامتان السياستان السامقتان بمكانة ورمزية مهري، الذي يلقب بـ(الحكيم)، وآيت أحمد، الذي يطلق عليه ليومنا هذا اسم (الزعيم)، تركتا كنوزاً من المواقف العقائدية، تتجلى يومياً في الحياة السياسية، وبخاصة ما تعلق منها بعفة النضال، وشرف المواقف، التي أبرزت طينة هؤلاء الرجال الذين ما بدلوا تبديلاً، لا سيما منها نقدها البناء لبنية النظام والعمل على تغييره، وإيمانهم بالتعددية السياسية الحقيقية وليست الصورية، وبالديمقراطية الجادة، وليست ديمقراطية الواجهة".

وفق تصريحات معزوزي لـ"اندبندنت عربية" فإن "هذا نابع من قناعتهم السياسية التي تؤمن بالتنافس السياسي انطلاقاً من الرجال والبرامج، والاحتكام لشفافية الصندوق واحترام خيار الشعب فيمن يحكمه، بهدف تكريس مبدأ التداول السلمي على السلطة. وكلا الرجلين كان ينبذ الوصاية والأبوة، ويمقت الوصول للسلطة أو البقاء فيها بالعنف، وكلاهما يؤمن بالجزائر في أبعادها الثلاثة: العروبة، والإسلام، والأمازيغية، وهي ما جلبت لهما حب الجماهير واحترام الشعب، لكن في المقابل جنت عليهما الويلات، وبخاصة منها الصداع المزمن من طرف النظام والتخوين من لدن السلطة، وخير مثال على ذلك توقيعهما عقد روما (سانت إيجيديو) كخريطة طريق تتيح للجزائر الخروج من أزمتها السياسية التي تحولت إلى أمنية صرفة".

الماضي لانتقاد الحاضر

ويرجع الإعلامي فاروق معزوزي استحضار الجماهير، نخباً وعامة على حد سواء، ذكرى وفاة الرموز والقادة بحجم ومعيار هامات وقامات مثل عبد الحميد مهري وحسين آيت أحمد، إلى ما وصلت إليه العملية الحزبية والفعل السياسي، من ترهل وعجز، مقرون بالانتهازية والوصولية وعبادة الشخصية وممارستها لسياسة وفق النفاق لا الأخلاق، وغرقها في وحل التكلس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبرأيه "لم تعد قوى قادرة على إيجاد الحلول، لأزمة مختلفة الجوانب ومتعددة الأبعاد، وقصور رؤيتها فيما تعلق بالقضايا الدولية والإقليمية ومواقفها الباهتة وفقدانها دور القدوة والرسالة في ممارسة السياسة ليس وفق قاعدة السياسة خدمة العمومية، بل مصلحة شخصية، ما جعلت الجماهير تطلق السياسية وتنفر من الأحزاب وتهجر المنابر السياسية".

لكن في المقابل، نجد تلك الشخصيات التي غادرتنا في صمت وظلم من طرف السلطة وضيم النظام، تسطع قواميسها السياسية التي أثرت بها الساحة السياسية لعقود، وحافظت على مكانتها النضالية والسياسية، من خلال تقدير الجماهير واحترام الشعب، الذين يحنون لتلك المواقف والمبادئ، ولو بأثر رجعي، وتتحسس من خلالها مدى صدق رؤية تلك الزعامات التي كانت تنشد التغيير، من أجل جزائر متماسكة داخلياً ومؤثرة إقليماً وفاعلة دولياً.

محطات مضيئة

تأثير السياسيين التاريخيين كبير، وتعكسه أجواء الحزن على رحيلهم، وهم الذين ارتبطت أسماؤهم بكثير من الأحداث والمراحل المهمة التي مرت بها أوطانهم؛ وهنا تصفهم الإعلامية الجزائرية، فتيحة زماموش، بـ"المحطات المضيئة من التاريخ السياسي للبلاد، الذين يمثلون مرجعيات ومدارس سياسية مختلفة في مقابل أن الناس تتعلم منهم وتستلهم من تجاربهم".

تقول "السياسيون التاريخيون قدموا شهادات فيها مغزى ورسالة للممارسة السياسية التي باتت مشوهة اليوم، كما أنهم منحوا معلومات جديدة أو تصحيح معلومات مغلوطة، وفي النهاية هم يعتبرون فصلاً من فصول التاريخ الذي وجب أن يكون كشمعة تضيء حاضرنا وتعبد لنا مسارات المستقبل".

هل ستشهد الجزائر رجالاً مثلهم؟ سؤال تجيب عنه زماموش بالقول "لكل حقبة سياسيوها، وهؤلاء جاءوا في ظروف وسياقات خاصة، ويمكن أن تشهد الجزائر نوعاً آخر من السياسيين، أو بروز جيل آخر، لكن جيل الأمس كان محكوماً بفترة ما بعد الاستقلال 1962، وما ورثوه من مخلفات وتركة ثقيلة من الفقر وانعدام التنمية والبحث عن الهوية الجزائرية المحضة، والبناء لم يكن بالسهل عليهم ما داموا هم القادة، بعدها عاشت الجزائر حقبة طويلة تربو على 30 عاماً، من الأحادية الفكرية النظام لأحادي، ميزها الانغلاق السياسي، وصولاً إلى دستور 1989 الذي أسس لعهد جديد وهو انفتاح وتعددية حزبية وإقرار حرية التعبير".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير