لماذا تأخرت جائزة كافكا التشيكية في الوصول إلى الروائي التشيكي –الفرنسي الكبير ميلان كونديرا؟ هذا السؤال لا بد من طرحه غداة إعلان فوز صاحب "كائن لا تحتمل خفته" بهذه الجائزة العالمية التي تمنحها مؤسسة كافكا وبلدية براغ، خصوصاً أن كونديرا هو الكاتب الرقم عشرون الذي يفوز بها، وقد سبقه إليها روائيون عالميون وتشيكيون بعضهم دون مكانته، ومنهم: الأميركي فيليب روث، البريطاني هارولد بنتر، التشيكي فاتسلاف هافل، الكندية مارغرت اتود، الألماني بيتر هاندكه، الإيطالي كلوديو ماغريس، الياباني هاروكي موراكامي، الفرنسي بيار ميشون... وعلى رغم تأخرها هذا رحب كونديرا في الحادية والتسعين (مواليد 1929) بها عبر المكالمة الهاتفية التي أجراها معه رئيس هيئة الجائزة غيلزني فلاديمير، قبل أيام، ليطمئن من أن كونديرا لن يرفضها، بعد إعلان فوزه بها. ولئن كانت الجائزة التي أسست العام 2001 متواضعة في قيمتها المادية (10 آلاف دولار) فهي ذات بعد رمزي وصدى عالمي. إنها تحمل أولاً اسم كاتب كبير شغل الساحة الأدبية العالمية وما برح يشغلها، بأدبه وشخصيته والأسئلة التي طرحها، ثم هي جائزة طليعية تتمتع بطابع مستقبلي، ولا تمنح إلا للكتّاب الذين تجمعهم بكافكا صلة معينة، أثر أو هوى أو اهتمام نظري أو نقدي.
لا يمكن طبعاً التغاضي عن مسألة "شائكة" هنا، قد توضح تأخر الجائزة في الوصول إلى كونديرا. لم تُمنح الجائزة له إلا بعدما استعاد جنسيته التشيكية العام الماضي، ما يعني عودته إلى هويته الأم وانتمائه الوطني الأول. أي إنه فاز بها بصفته تشيكياً أولاً وفرنسياً ثانياً. ومسألة الهوية تعني الكثير لكونديرا ولمؤسسة كافكا وسائر مواطنيه التشيكيين. ومعروف أن كونديرا كان متعصباً لانتمائه الفرنسي لا سيما بعد حصوله على الجنسية عام 1980، وكان لجأ إليها العام 1975 هرباً من الاضطهاد والملاحقة الاستخباراتية له وتضييق الخناق على حريته. ويذكر البعض كيف ثارت ثائرته مرة حين صنّف في فرنسا نفسها، ككاتب تشيكي فرنكوفوني بعد حصوله على الجنسية الفرنسية. ولم يكن رفضه لذاك التصنيف إلا رفضاً لفكرة المنفى و"الانشقاق"، خصوصاً بعد سقوط المعسكر الاشتراكي. كان يصر على أن يسمى كاتباً فرنسياً من أصل تشيكي وعلى الكتابة بالفرنسية، وعمد إلى نقل كتبه التشيكية إلى الفرنسية.
ربيع براغ
وقد يُستغرب هذا الموقف الذي يعلنه كاتب تشيكي مناضل ساهم في الثورة ضد النظام الشيوعي المفروض على بلاده بالقوة، وكان له دور مهم في إحياء ربيع براغ على طريقة ربيع باريس، لكنّ اجتياح الآليات السوفياتية مدينة براغ سرعان ما قضى على هذا الربيع وثورة الحرية. وقد كتب كونديرا عن فترة نضاله وعن براغ والنظام الشيوعي في روايات عدة منها: "كائن لا تحتمل خفته"، "غراميات مرحة" و"كتاب الضحك والنسيان" وسواها. وفي مطلع مسيرته الأدبية والسياسية (1947) انضم كونديرا إلى الحزب الشيوعي ثم لم يلبث أن طرد منه وكانت مقولة "الواقعية الاشتراكية" تثير حفيظته هو الذي قرأ عيون الأدب العالمي المعاصر والقديم وفي مقدمها "دون كيخوته".
لا يزال اسم كونديرا يتردد كل سنة في أروقة الأكاديمية السويدية ويرد على لائحة الكتّاب المرشحين لجائزة نوبل. وحتى الآن، وقد تجاوز التسعين، لم يفز بها، وهذا ما يثير استغراب القراء والنقاد والصحافيين. فهو يستحقها حتماً، فبعض رواياته باتت تصنف ضمن "كلاسيكيات" أدب القرن العشرين، وترجمت معظم أعماله إلى نحو أربعين لغة، ووضعت عنه كتب وأبحاث في لغات شتى. علاوة على أنه يكتب بلغتين، التشيكية والفرنسية، وثقافته لا حد لها. لكنّ كونديرا الذي يعيش في عزلة باريسية حقيقية في السنوات الأخيرة، لا يبالي بمسألة الجوائز، ولا يسعى إليها، فهي التي تصل إليه، وإن لم تصل فلا همّ. فهو لا يسعى إلى "نادي نوبل للخالدين" ولا يهمه الخلود أصلاً، وفي رواية له بعنوان "الخلود" يؤكد أن الصورة التي يصنعها المرء لنفسه هي أشد خلوداً من المرء نفسه، فإذا كان الشخص فانياً، فإن صورته قد تكون مهيأة للبقاء.
وصلت جائزة كافكا إلى ميلان كونديرا أخيراً، ولعلها من أغلى الجوائز في نظره، فهي تحمل اسم مواطنه ومعلمه فرانز كافكا، الذي تأثر به وكتب عنه ومازال مفتوناً به وبعالمه وأسراره. وكتب مرة يقول:"كم أحب أن أصف جمالية كافكا، وأعلم أنني لن أتمكن من وصفها".