Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المفكر تيري إيغلتون لا يتفاءل أمام أحوال الثقافة الراهنة

كتاب "ما بعد النظرية" يطرح سؤال الانتكاسة وتراجع الأخلاقيات

المفكر البريطاني تيري إيغلتون (غيتي)

ملخص

يطرح المفكر والناقد البريطاني تيري إيغلتون (1943) في كتابه "ما بعد النظرية" (ترجمة ثائر ديب، المركز العربي لدراسة السياسات 2025)، إشكالية راهنة في صيغة سؤال: ماذا بقي من عصر النظرية الثقافية؟ وما هي دلالات ذلك الانحسار الثقافي؟

 قبل الدخول في أهم مضامين الفصول الثمانية التي يتألف منها الكتاب، لا بد من تعريف النظرية الثقافية. إنها المجال المتعدد الميادين (الأنثروبولوجيا، علم الاجتماع، اللسانيات، السيمياء، وعلم الدلالة وغيرها)، الذي بات يدرس المعتقدات والقيم والأزياء والفنون والتقاليد والأدب، والخطاب السياسي والتربوي والطبي وغيره، مما يدخل في عداد السلوك والتفكير البشريين. وهذان مما كانت الفلسفة الغربية - النظرية بطبيعتها - استأنفت النظر فيهما لمجرد إثبات فرضياتها، ليس إلا.

لماذا "ما بعد النظرية"؟

يفرد المفكر إيغلتون الفصل الأول من كتابه للحديث عن نهاية العصر الذهبي للنظرية الثقافية، فيعدد أسماء كبار الباحثين والمفكرين من أمثال جاك لاكان ولوي ألتوسير ورولان بارت، وميشيل فوكو وبيار بورديو وجاك دريدا ويورغن هابرماس وإدوارد سعيد وغيرهم، ممن تركوا بصمات لا تمحى في العلوم الإنسانية، ووضعوا أسساً نظرية وعملية لمجالات جديدة ولوجهات نظر جديرة بالاعتبار. وبناءً عليه، يسعى الكاتب إلى أمرين: أولاً تبين الآثار الإيجابية والبناءة التي خلفتها هذه النظرية في سائر ميادين العلوم الإنسانية القائمة اليوم، وثانياً تتبع الظواهر السلبية التي ترتبت عن غياب هذه النظرية، وأفول نجمها.

 

ومن الآثار الإيجابية التي خلفتها النظرية الثقافية أن لم تبق ظاهرة اجتماعية أو يومية عابرة إلا وباتت عرضة للبحث والمعالجة، حتى "الثقافة الشعبية نفسها عدت جديرة بالدراسة"، بل أكثر من ذلك صارت تعني الثقافة خلال ستينيات القرن الماضي "السينما والصورة والأزياء، ونمط الحياة والتسويق والإعلان ووسائط الاتصال". وهكذا اتسع نطاق البحث لدى أصحاب النظرية الثقافية، نظير ما قام به رولان بارت وكريستيان ميتز وجورج مونان وغيرهم.

هذا بخلاف النظرة الغربية التقليدية التي كانت ترى الثقافة الشعبية غير جديرة بالدرس لخفتها وعدم تعقيدها، بيد أن سلبية رئيسة تكمن في هذه الآثار اعتبارها أن لا لزوم للمعايير، في حين أن الأخيرة ضرورية لدوام النهج وضبط نتائجه. ولئن حققت الموجة الثقافية المطعمة بنزعة سياسية يسارية في الغالب ما تجاوزت به قيود اليسار التقليدي على موضوعات مثل اللذة والجندر والجنس والجنون والرغبة، والروحانية والجسد والأسرة والبيئة واللاوعي والإتنية وأسلوب الحياة، فإنها عجزت عن صد الموجة الاستهلاكية للعالم الرأسمالي، فتضاءل حضورها بعد عام 1980 من القرن الـ20، تزامناً مع تقهقر "الآمال الثورية" وانهيار الطبقة الوسطى، حاملة القيم وحامية الثقافة ونصيرتها الكبرى.

ما بعد الحداثة والطوباوية

 

في الفصل الثالث، يعالج المفكر تيري إيغلتون، ومن وجهة نظر ماركسية طبعاً، أفول النظرية الثقافية وبروز اتجاه ما بعد الحداثة، ويعزو الكاتب هذا الأفول إلى زوال الإنتاج الصناعي (التقليدي) وصعود الأعمال التحويلية الضخمة وتنامي قطاع الاتصالات والتمويل وغيرها. وأجرى الكاتب موازنة منصفة، برأيه، بين ما أضافته كل من الماركسية والاشتراكية إلى النظرية الثقافية، وما بالغت به وأسهم في انطوائهما وتقهقر سلطانهما الفكري، قائلاً إن للماركسية فضلاً على النظرية الثقافية لكونها حملت إلى الأخيرة النزعة إلى السلام والتحرر الجنسي، و"ضروباً من الارتقاء بالوعي وتغييرات صارخة في أسلوب العيش". وهذه جميعها تجلت في أعمال أدبية، من مطلع القرن الـ20، باتت ذات شهرة عالمية، من مثل أعمال أوسكار وايلد وويليام موريس ومود غون وويليام بتلر ييتس وغيرهم. ولاحقاً ورثت الستينيات من القرن الـ20 من الاشتراكية ميلها الطوباوي في السياسة، والجنس، والتشرد الروحي، وأناجيل السلام والوئام والاستشراق الزائف، والعودة إلى الطبيعة وإطلاق العنان للاوعي. والحال أن الثقافة على هذا النحو، كانت سبيلاً للإبقاء على جذوة السياسات الراديكالية، بعامة. وهذا ما أدركه الزعيم الصيني ماو، ولكن على نحو منحرف ورديء، إذ جعل الثقافة عنواناً لخضوع "الأعداء الطبقيين" للسلطة الثورية!

ولكن ماذا جرى للحداثة وما بعدها؟ وكيف يرى الكاتب التحولات الحاصلة في زمن ما بعد الحداثة؟ للإجابة عن السؤال الأول يعد إيغلتون أن الحداثة عكست الشرخ الموجود في حضارة بأكملها، تنطوي على مثالات كثيرة ولا تقوى على تحقيقها في الواقع. وهذا ما تجلى في معتقدات الطبقة الوسطى منذ الثورة الصناعية خلال القرن الـ19، من مثل الليبرالية والديمقراطية والفردانية والبحث العلمي وسيادة العقل والنزعة السلمية وغيرها. ولما تقدمت الحداثة عبر أعمال أدبية وفنية بارزة، أواسط القرن الـ20 وقبيل الحرب العالمية الثانية، ورحبت جموع الطبقة الوسطى بجيمس جويس وفرانتز كافكا وبرتولد بريخت وأرنولد شوينبرغ، تبين للناظر في مسار هذه الحركة أن الحداثة فُرغت من قوتها الهدامة بل المزلزلة، وأنها ستخلي الساح لحركة أقل تطلباً نظرياً بكثير وقيمياً، وأكثر ارتباطاً بالرأسمالية على حد قول الكاتب إيغلتون.

صورة ما بعد الحداثة

في الفصول اللاحقة يجهد الكاتب في تبيين صورة لما بعد الحداثة التي لا نزال نحيا تحت خبائها الداكن، أقل ما يقال فيها إنها "انتقال إلى اللانظرية بعد هدم النظريات السابقة، ولا سيما الماركسية". مع أن ما بعد الحداثة باتت تغالي في تقدير الثقافة قيمة الثقافة، حتى لتجعلها بمكانة "صناعة للثقافة" تدر الملايين من الدولارات، نظير أية سلسلة إنتاجية في عالم الرأسمال أو الأعمال. ليس هذا فحسب، بل إن النظرية الثقافية التي تعني من وجهة نظر إيغلتون لزوم انغراس الأدب في تربة سياسية وصدوره عن خطاب سياسي بين، زمن الحداثة، كانت تطرح أسئلة عن الأسئلة، في ما يسمى "ميتا" أسئلة. كأن يسأل "ما الرواية أصلاً"، بدل السؤال عما إذا كانت حبكة الرواية بعيدة الاحتمال وغير قابلة للتصديق". وبهذا المعنى، يبدو اللامنظرون في زمن ما بعد الحداثة مفتقرين إلى الفضول فلا يطرحون الأسئلة العميقة، ولا يذهبون أبعد من سطح المنهج التقليدي الذي يهتدون به لتحليل النص الأدبي.

مفاهيم النظرية الثقافية

وفي هذا الشأن، يطرح المفكر إيغلتون عدداً من المفاهيم المنسجمة مع تفكيره النقدي الجذري، التي تجسد لديه تصوره الفكري في نفاذ الأدب إلى السياسة، والصدور عنه، وتفاعل القارئ معه تفاعلاً يأخذ بحسبانه الأبعاد والقيم والحقائق والمصائر التي يتكون منها الأدب حكماً، برأيه، والتي ينبغي للنقد أن يكشف عنها. ولهذا يحسن بالمفاهيم النقدية، أياً تكن، أن تعين القارئ على النفاذ إلى العمل الفني أو الأدبي، فتضعه "ضمن سياق دال".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي مقابل عجز النظرية الثقافية عن التصدي لبعض المشكلات الأساس، وبالدرجة الأولى حيال الأخلاق والميتافيزيقيا والحب والبيولوجيا والثورة والموت، والألم والحقيقة والموضوعية والتجرد وغيرها، عمد إيغلتون إلى الإضاءة على بعض من هذه المفاهيم رابطاً إياها بالسياق الأدبي الممكن، فعلى سبيل المثال يرد على من يدعي بأن "الحقيقة عقائدية" بالقول إن الحقيقة المطلقة ليست كذلك بمعزل عن الزمن والتغير. ويذكر في هذا الصدد مثالاً مستمداً من أعمال هنري فيلدينغ عن واقعة "قتل الأطباء الذين يجهضون الحوامل"، إذا كان القاتلون يعدون أنهم ينفذون المشيئة الإلهية في ما يقترفون.

وفي موضع آخر، يعاود إيغلتون النظر في الطبيعة البشرية التي يعدها الأدب مادة له جديرة بالدرس والمعالجة. ولئن كانت ميزة الطبيعة البشرية، بحسبه، لا هدف لها، وبمعنى آخر من طبيعة حيوانية، فإن فكرة تحقيق الإنسان طبيعته تستلزم، وفق المجتمع الرأسمالي، وجود غاية وغرض يسعى إليهما. وبخلاف ذلك يرى أرسطو أن على المرء أن يبلي البلاء الحسن في حياته، فيكفيه ذلك فضلاً ومكافأة. وبناءً عليه يغدو النظام الرأسمالي، بنظر إيغلتون، على الضد من الطبيعة البشرية، إذ يطلب من المرء أن يزداد غنى ويمعن في تجاوز نفسه، أو رغباته الروحية العميقة. وبهذا يقترب من نموذج "ماكبث" في مسرحية "ماكبث" لشكسبير عبر حوار دال بين ماكبث والليدي ماكبث، لدى شروعهما في قتل الملك، وفيه يظهر الصراع بين إيمان تقليدي بالطبيعة البشرية ورفض تقدمي له.

أما في مفهوم الأخلاق فيعد أن النظرة إليها خاطئة بالأساس. فهي كما بات معروفاً تدور برمتها حول المتعة وسعة العيش، ولزوم التقيد بالحدود المرسومة بين الأفراد وعدم تجاوزها في ما تعلق بالزنا أو بالوفاء بالعهود، والتقيد بموجبات التراخيص التلفزيونية. إلا أن الأخلاق غالباً ما كانت، في نظر الكاتب، سبيلاً إلى التملص من المسائل السياسية الصعبة، بإضفاء طابع شخصي عليها، فيما يجعل بعض الأديان (العهد الجديد في الدين المسيحي، على سبيل المثال) السلوك الخير النابع من الأخلاق، كإطعام الجوعى وزيارة المريض والسجين وتفقد الأيتام ومواساة الحزانى سبيلاً للخلاص، الذي يبدو لإيغلتون سياسياً أكثر من كونه دينياً بحتاً.

وفي ختام الكتاب يجرد الكاتب حملته على الأصولية والأصوليين، فيقول إن الأصولي أياً يكن منطلقه ودينه وفلسفته لا يفكر بالموت، بل يمسك بالحياة من عنقها. وفي هذا الشأن، يعطي الكاتب أمثلة مستمدة من الأدب الإنجليزي، هو البروفيسور الفوضوي المجنون في رواية جوزيف كونراد "العميل السري"، أول مفجر انتحاري في الأدب الإنجليزي. ويضيف أن الأصولية تجد بين المعذبين والمستلبين الأرضية الخصبة لتكاثرها. ولنا في عالمنا القريب أمثلة لا حصر لها.

وأياً يكن الأمر، يطرح كتاب تيري إيغلتون عدداً من التحديات على النقد الأدبي وعلى الفكر والعلوم الإنسانية، ولا سيما الحرص على معاودة النظر في أبعاد النص الأدبي السياسية، وفي مكانة القارئ وقيمه وانتظاراته من الأدب.

 

اقرأ المزيد

المزيد من كتب