ملخص
في الثامن عشر من ديسمبر (كانون الأول) من كل عام تحتفي منظمة "اليونيسكو" بـ"اليوم العالمي للغة والعربية"، فتقام ندوات وحلقات دراسية، تطرح خلالها قضايا اللغة العربية وما تواجه من أزمات راهنة ومشكلات لا سيما العلاقة بين الأجيال العربية الشابة ولغتهم الأم، والعلاقة بين اللغة ووسائل التواصل والإعلام الحديثة والفضائيات.
قد لا تحتاج اللغة العربية إلى من يدافع عنها، أفراداً أو جمعيات أو مجالس. إنها اللغة العربية الأم، بالغريزة والعقل. إنها روح الجماعة والأفراد الذين ينطقون بها، انطلاقاً مما قاله فلاسفة الوجود بأن اللغة هي الكائن. بل إنها ماضي الجماعة والأفراد وما قبل هذا الماضي، إنها المستقبل وما بعده. ألا يتعرف الجنين إلى لغة أمه قبل أن يولد؟ العلماء يجيبون بالإيجاب، متحدثين عن المعرفة الغريزية للغة الأم قبل أن "يفجرها" الطفل بعد سنة أو أكثر.
اللغة العربية هي نحن، ولا خوف عليها لا من العولمة، ولا من غزو المصطلحات الإنجليزية، أو الأميركية تحديداً، ولا من ثقافة الإنترنت التي تحتل الواجهة الآن. المأزق ليس في اللغة نفسها. لغتنا العربية تطورت كثيراً وتمدنت أو تعصرنت رغماً عن صلابة العلماء اللغويين المحافظين والمعجميين "الأصوليين" وسدنة التراث، الذين لم ينفتحوا على القرن الحادي والعشرين وما شهد من ثورات لغوية. إننا نكتب الآن لغة تختلف كثيراً عن لغة الأسلاف، القدامى والنهضويين. اللغة هي وحدها تطورت، لم تحتج إلينا، نحن أهلها وعشاقها. الصحافة طورتها، والإعلام المرئي والمسموع، والإنترنت و...الحياة أيضاً. مأزق لغتنا ليس في قدرتها على الحياة، اللغة العربية ستظل حية، هذا قدر إلهي مثلما هو بشري. كان الشاعر الفرنسي جان غروجان، أحد مترجمي معاني القرآن إلى الفرنسية، يحسد العرب على لغتهم، لأن المقدس تجلى فيها. ومع أن هذا التجلي منحها خصالاً عدة، بلاغية وإعجازية، فهي كانت، وستظل، لغة الحياة، لغة البشر في حياتهم اليومية.
مأزق اللغة العربية اليوم، يتبدى في طريقة استخدامها، في سلامتها النحوية، في الاضطراب الذي زرعته فيها اللغات الغربية، وبخاصة الإنجليزية أو الأميركية. ليست اللغة العربية وحدها التي تعرضت لغزو لغة العالم الأول، اللغة الأميركية، فحتى اللغات الأوروبية لم تسلم من هذا الغزو، وكم من مرة سعى علماء اللغة الفرنسية إلى "تطهير" لغتهم من آثار اللغة الأميركية، وعجزوا حتماً. في العالم العربي، لم يسع علماؤنا هذا السعي إلى "تطهير" العربية من آثار الغزو، فهم يعلمون جيداً أن الأمر غير سهل، إن لم يكن مستحيلاً. لقد سبقتهم ثقافة العصر، ثقافة الإنترنت... وباتت اللغة الأميركية كأنها تقضم أجزاء من لغتنا، كما من ثقافتنا وعلومنا ومعارفنا.
الإغتراب اللغوي
هذا ما يجب الاعتراف به. الشباب، طلاباً ومثقفين و "مواطنين"، باتوا بمعظمهم يؤثرون اللغة الإنجليزية وسيلة معرفة وتخاطب. إنها اللغة التي تقصر نفسها على مبدأ الوسيلة. لم تعد اللغة في نظرهم غاية. والأمر ليس وقفاً عليهم فقط، هم الشباب، الأبناء الجدد، أبناء الأجيال الجديدة، بل يشمل أيضاً الأساتذة والمعلمين، في المدارس والجامعات، ناهيك عن المثقفين الجدد... لم تعد اللغة- وفق احترافهم إياها- غاية، لم تعد هي الكائن أو الوجود، إنها اللغة المستعارة، اللغة "المولفة" و "الممنتجة"، اللغة- الكولاج، التي لا هوية لها، بل التي لا تحمل هوية صاحبها أو كائنها.
هل من شعب يتحدث بلغة ليست لغته؟ هل يتحدث الفرنسيون مثلاً، بعضهم مع بعض، بالألمانية؟ والإنجليز، هل يتحادثون بالإسبانية؟ في عالمنا العربي تكاد هذه الظاهرة تصبح قاعدة. في المغرب وبضعة بلدان مشرقية تحضر اللغة الفرنسية وكأنها شقيقة العربية، وفي بلدان عربية أخرى، تنافس الإنجليزية اللغة الأم. هذه الظاهرة تستشري الآن أكثر فأكثر، وتكاد تهيمن على لغة التواصل العربي... إنها ظاهرة غير سليمة، ظاهرة تدل على حال من فقدان الهوية، وربما على "عقدة" نقص إزاء اللغة الإنجليزية، لغة العالم الأول.
التراجع اللغوي
ومن مآزق لغتنا العربية- وما أكثرها- مأزق "القواعد"، صرفاً ونحواً. تعاني العربية في الصحافة والإعلام، في المدارس والجامعات، في الأدب وفي الحياة اليومية، حالاً من التراجع اللغوي، حالاً من الركاكة والضعف والهزال. ولئن ربط العلماء اللغويون قوة ابتكار اللغة بما سموه "نتاج القواعد"، متحدثين عن "ملكة القواعد" و "ملكة اللسان"، فاللغة العربية اليوم لا تبالي البتة بهذا البعد الذي تضمره اللغة البشرية. ورد علماء لغويون على المقولة الإغريقية الشهيرة "الإنسان حيوان ناطق" قائلين إن الإنسان "حيوان قواعدي"... هذه الظاهرة غير السليمة التي تهيمن على لغتنا العربية تحتاج فعلاً إلى قراءة رصينة وفاعلة، وليس إلى النظريات، فأمراض القواعد، أمراض الصرف والنحو والإملاء وسواها، تحتاج إلى جراحة حقيقية، قبل أن ينهار استخدام العربية ويبلغ الحضيض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما العلاقة بين اللغة العربية ووسائل التواصل الحديثة فهي معقدة وغير متوازنة، وتحتاج فعلاً إلى ندوات ولقاءات تلقي عليها الضوء وتناقش الظروف التي تشهدها، وهي غالباً ظروف ملتبسة تسودها حال من عدم التناغم والاختلاف وسوء التفاهم. ولا بد من طرح مثل هذه القضية بإلحاح بعدما راجت اللغة العربية "الإلكترونية" إن جاز القول، عبر هذه الوسائل والتي يمكن وصفها بـ "اللغة الهجينة" التي تكاد تفقد هويتها الأصيلة. فلا هي لغة عربية صرف ولا عامية بحت، بل مزيج معتكر من العربية والعامية مضافاً إليها القليل من اللغات الأجنبية وفي طليعتها الإنجليزية التي تغزو العالم تحت شعار العولمة. يحدث هذا في زمن تتراجع فيه اللغة العربية في حقول التعليم والكتابة والإعلام، تراجعاً معلناً.
هل أسهم الإعلام الجديد في إعادة الشباب العربي إلى لغته؟ لا سيما أن وسائل الإعلام الجديد، مثل "فيسبوك" و"تويتر" والإنترنت، باتت تحمل شعاراً شبه مستهجن لغوياً: اكتب ما تشاء وكيفما تشاء وحيثما تشاء بلا رقيب ولا حسيب وبلا لغة عربية سليمة وربما بلغة هي عربية وعامية وإنجليزية أو فرنسية.
أما السؤال الذي يجب طرحه أيضاً، فهو: هل أسهمت الفضائيات العربية في نشر لغة الضاد خارج الحدود؟ يرى البعض أن الفضائيات أسهمت فعلاً في نشر اللغة العربية وفي جعلها في متناول المغتربين العرب، وبعض آخر يرى أن هذه الفضائيات لم يكن لها كبير أثر في نشر العربية لا داخل الحدود ولا خارجها. ترى، ما المقصود بعبارة "خارج الحدود"؟ هل المقصود الجاليات العربية أم الأجانب الذين بات لديهم فضول في تعلم العربية لا سيما حيال صعود التيارات الإسلامية وبعيد حصول حادثة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)؟ الجاليات العربية أفادت كثيراً من الفضائيات فهي جعلتها على تماس يومي مع إعلام بلدانها وإيقاع الحياة في الوطن الأم، أما في شأن اللغة العربية نفسها فهي لم تساعد على ترسيخها كلغة تواصل، بخاصة أن الأجيال الاغترابية الجديدة باتت شبه مقتلعة عربياً. ولعل وجود فضائيات عربية في بلدان الاغتراب يشعر المغتربين بمقدار من الحنين إلى بلدانهم ولغتهم، لكن هذه الفضائيات لن تتمكن من جعلهم يتقنون العربية إن كانوا لا يتقنونها أصلاً. والدليل على عدم ترسخ العربية لغة قراءة أو كتابة هي حال الانحسار الذي يشهده الكتاب العربي في المغتربات.