Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معضلة النفط والتنمية وضرورة دراسة آثار "الثنائية" في جدوى المشاريع

أجرت حكومات الدول النفطية تجارب كبيرة بهدف تنويع الاقتصاد سواء في مجال الزراعة أم الصناعة

الدول النفطية لجأت إلى التجارب في حل مشكلة الثنائية عن طريق تقديم الدعم للقطاع الخاص (أ ف ب)

نظرة سريعة إلى بيانات الدول المختلفة خلال العقود الماضية توضح ما يلي: معدلات النمو الاقتصادي في الدول النفطية بشكل عام أقل من مثيلاتها من الدول التي لا تتوفر فيها موارد نفطية، الأمر الذي نتج عنه عدد من البحوث الأكاديمية التي تحاول أن تشرح هذه الظاهرة.

كما أن الدول النفطية حاولت خلال العقود الماضية تنمية اقتصاداتها ومجتمعاتها بحيث تلحق بركب الدول المتقدمة، وتتخلص من الآثار السيئة لتقلبات أسعار النفط، إلا أنها لم تستطع حتى الآن. وهذا أيضاً محل تركيز الباحثين: لماذا؟ وكيف يتم حل هذه المعضلة؟ 

وقد درج على لسان الناس، وفي وسائل الإعلام استخدام تعابير مثل "المرض الهولندي"، و"نقمة النفط"، و"لعنة النفط"، وغالباً ما تتم المقارنة بالنرويج، وأن على الدول النفطية أن تقوم بما قامت به النرويج. 

لا ينطبق "المرض الهولندي" على دول الخليج؛ لأن أساس الفكرة كلها تعتمد على حرية أسعار صرف العملات وآثارها في التجارة الخارجية والتدفقات الاستثمارية، بينما عملات دول الخليج مرتبطة بالدولار. والكل يعرف أنه لا يمكن استخدام تعبير "نقمة النفط"، أو "لعنة النفط" بمفهومها العامين؛ لأن دول الخليج ليست كنيجيريا، أو أنغولا، أو ميانمار، والنهضة التي حصلت لا يمكن وصفها إلا بأنها "نعمة"، على الرغم من بعض المساوئ التي جاءت معها. دول الخليج حالة خاصة؛ لأنها تتمتع بميزات تختلف عن الدول الأخرى: عدد سكان منخفض، ومتوسط دخل عالٍ، وانفتاح اقتصادي، وبنية تحتية. 

في الجانب الآخر، لا يمكن مقارنة دول الخليج بالنرويج، أو مطالبة دول الخليج بتبني خطوات النرويج. فالنرويج كانت متقدمة قبل اكتشاف النفط، وكان دخلها عالياً قبل اكتشاف النفط مباشرة. وخففت النرويج من آثار "المرض الهولندي" عن طريق إنشاء صندوق سيادي مستقبل تذهب إليه إيرادات النفط. وعلى الرغم من هذا، فإن اقتصاد النرويج ما زال يعاني تقلبات أسعار النفط حتى يومنا هذا. 

مشكلة "الثنائية" الاقتصادية

أساس المشكلة في كل الدول التي تعتمد على تصدير مصدر طبيعي هو "الثنائية" في الاقتصاد، ولكن تظهر آثار هذه الثنائية بأنصع صورها في الدول النفطية بسبب التقدم التكنولوجي الهائل في قطاع النفط. تتمثل هذه الثنائية في وجود قطاع تقني متقدم ومتطور هو قطاع النفط، وقطاعات تقليدية أخرى في الوقت نفسه. يقوم القطاع المتقدم بـ"مص دم" الاقتصاد التقليدي عن طريق سحب كل الكفاءات منه، ويحظى برأس المال والعقول البشرية، وبرعاية الحكومة، وذلك لأن الأجور والرواتب فيه أضعاف ما هو موجود في القطاع التقليدي، ولأن عائد رأس المال أعلى بكثير من عائد رأس المال في القطاع التقليدي. فيزداد القطاع المتقدم تقدماً، ويزداد القطاع التقليدي تخلفاً، حيث يصبح القطاع التقليدي معتمداً اعتماداً كاملاً على القطاع المتقدم. 

الآن، الحكومات في ورطة: إنقاذ القطاعات الأخرى يعني توفير الإعانات، وهذه الإعانات تأتي من القطاع المتقدم، وهذا يعني أن القطاع التقليدي يعيش على ما قدمه له القطاع المتقدم، فإذا عانى القطاع المتقدم بسبب انخفاض أسعار النفط العالمية، ولم يستطع أن يقدم الإعانات للقطاعات الأخرى، انهار كل شيء! بعبارة أخرى، أصبحت الحكومة تعاقب المنتج، وتكافئ العاطل، فإذا لم تكافئ العاطل، انزعج وَلامَ الحكومة والمنتج! 

حل مشكلة الثنائية أجبر حكومات الدول النفطية على القيام بتجارب كبيرة بهدف تنويع الاقتصاد، سواء في مجال الزراعة أم الصناعة. لماذا تجارب؟ لأن ما حدث فيها، خاصة أثناء الطفرة الأولى، لم يحدث سابقاً في أي دولة أخرى بالمستوى نفسه. 

أغلب هذه التجارب فشلت بسبب ارتفاع التكاليف لأسباب عدة، منها أن جذب القيادات من القطاع المتقدم يتطلب دفع أجور وتعويضات أعلى من القطاع المتقدم، ولكن القطاع التقليدي لا يتحمل ذلك بأي شكل من الأشكال. هذه المشكلة لا توجد بالنرويج، خاصة أن الرواتب والأجور في القطاع السمكي مثلاً تضاهي الرواتب والأجور في القطاع النفطي، ولم يكن ذلك نتيجة سياسات حكومية. كما أن النرويج لم تعاني من مشكلة العمالة الوافدة بأعداد هائلة كما هي الحال في دول الخليج. 

وتمتد مشكلة الثنائية إلى الجامعات والموارد البشرية. القطاع المتقدم لديه أموال كافية لإرسال المبتعثين إلى أرقى الجامعات في العالم، كي يعودوا ويخدموا هذا القطاع، فيزيدوا من تقدمه، ويزداد الفارق بينه وبين القطاع التقليدي. وفي الوقت الذي تكمل فيه التركيز على القطاع المتقدم تاريخياً، كانت أغلب التخصصات في الجامعات المحلية ومخرجاتها لا تتواءم مع التغيرات الهيكلية التي تحصل في الاقتصاد، فكان خريجو العلوم الاجتماعية هم الأكثرية، في الوقت الذي يحتاج فيه القطاع المتقدم إلى المهندسين والفنيين. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ونظرة سريعة إلى جميع الدول النفطية نجد أن أغلب السياسات التنموية تتركز على فكرة "تنويع الدخل"، ولكن الآن، وبعد 50 عاماً من هذه المحاولات، نجد أن هذه المحاولات لم تُؤتِ أكلها حتى الآن، وقد يكون أحد الأسباب هو تصنيف الصناعات كثيفة الطاقة على أنها "تنويع"، وهي في الحقيقة جزء لا تجزأ من قطاع النفط. ولعل أحد الأسباب هو التركيز على "التنويع" من دون التركيز على فكرة "الثنائية". بعبارة أخرى، حل المعضلة التنموية يتطلب التركيز على مشكلة "الثنائية"، بحيث تتم دراسة جدوى كل خطة وكل مشروع من منظورها: هل يفاقم الثنائية؟ هل يستطيع العيش في ظل الثنائية؟ هل يسهم في حل مشكلة الثنائية؟ بعبارة أخرى، كما يتطلب في بعض المشاريع دراسة آثارها البيئية، يجب دراسة آثارها في "الثنائية"! 

من هنا نجد أن رؤية 2030 في السعودية تتضمن حلولاً منطقية تستلزم رفع الدعم من جهة، وتنشيط قطاعات مختلفة في وقت واحد للتخفيف من حدة الثنائية، وطبعاً التخفيف من آثار تقلبات أسعار النفط في الاقتصاد السعودي. والأمل أن يتم التركيز على مشكلة الثنائية بشكل أكبر في مرحلة التطبيق للتخفيف من أي آثار سلبية قد تنتج عنها. 

مظهر آخر للثنائية: سيطرة القطاع العام

بما أن قطاع النفط يخضع للدولة في كل الدول النفطية النامية، فكان من الطبيعي أن يتضخم القطاع العام ويسيطر بعد تقلص القطاع التقليدي في وجه القطاع المتقدم. ونتج عن ذلك تحول القطاع الخاص من قطاع قائد إلى قطاع ضعيف وخادم يعيش على فُتات القطاع العام. ونتج عن هذه الثنائية هجرة للكفاءات إلى القطاع العام، خاصة في الثمانينيات من القرن الماضي. وأصبحت الدورة الاقتصادية مرتبطة بأسعار النفط: ارتفاع أسعار النفط يؤدي غلى زيادة الإيرادات الحكومية، ومن ثم زيادة الانفاق الحكومي، ومن ثم تضخم القطاع العام، والذي يعطي المشاريع للقطاع الخاص ليعيش عليها. فإذا انخفضت أسعار النفط، انعكست الدورة، وخمد القطاع الخاص. 

ونظراً لطغيان القطاع العام تاريخياً، هربت رؤوس الأموال الخاصة، وتركزت خارج البلاد، وهو أمر يعني بالضرورة ضعف القطاع الخاص، حتى لو فسح له المجال. 

مرة أخرى، لجأت الدول النفطية إلى التجارب في حل مشكلة الثنائية عن طريق تقديم الدعم للقطاع الخاص في طرق شتى، ولكن فكرة الدعم نفسها عززت الثنائية، وانتهى الأمر بحلقة مفرغة. قامت الحكومات بمحاولة تنويع الاقتصاد، ولكن لو صنفت الصناعات تصنيفاً صحيحاً نجد أن التحسن كان طفيفاً خلال العقود الماضية. 

وتم اللجوء إلى عمليات التخصيص، ولكن مجرد تغيير الملكية لا يعني بالضرورة زيادة الدور الفعلي للقطاع الخاص في المجتمع، ولا يعني تقليص الدور القوي للقطاع العام. وعمليات التخصيص هنا تشبه تماماً ما حصل في فترة العولمة؛ حتى يتم تشجيع القطاع الخاص وتقليص دور القطاع العام وتعزيز التجارة الدولية وحماية الملكية الفكرية، نحتاج إلى حكومات قوية، وهذا يتناقض مع الهدف الأساسي، وهو إضعاف القطاع العام وتقوية القطاع الخاص!
هذا يعني أن حل مشكلة الثنائية التي تتفاقم يوماً بعد يوم يتطلب حكومات قوية، وقرارات حاسمة. إلا أن أهم ما في الموضوع، في رأيي، أمران، مضاعفة التركيز على مخرجات التعليم من جهة، والتركيز على فكرة تصدير الخبرة والخبراء من جهة أخرى. فتح المجال أمام تصدير الخبرات والخبراء كفيل بأن يخفف من مشكلة الثنائية بشكل كبير. طبعا ليس هناك قيود حكومية على تصدير الخبرة والخبراء، القيود أغلبها فكرية واجتماعية. 

خلاصة الأمر أن المشكلة الأساسية هي "الثنائية" ويجب اعتبار مشكلة "الثنائية في تقييم أي مشاريع خاصة أو عامة في دول الخليج لأن تعميق "الثنائية" في الدول النفطية من أهم معوقات التنمية الاقتصادية. 

اقرأ المزيد

المزيد من آراء