تظاهرة "يوم الحساب" في بيروت هي بداية الموجة الثانية من الثورة الشعبية السلمية. الموجة الأولى انطلقت يوم 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي من أجل التغيير الجذري. وهي كشفت عن أمرين: أولهما مدى العزلة الشعبية لسلطة غارقة في الفساد والنهب والمحاصصة، وعائمة على العصبيات الطائفية والمذهبية، ومستندة إلى قوة المافيا السياسية والمالية والميليشوية. وثانيهما ولادة جيل لبناني جديد يرفض أن يحكم لبنان في السلم الذين تحكّموا به في الحرب منذ عام 1975، جيل عابر للطوائف والمناطق، يحلم في بناء المستقبل على قيم العصر لا بحجارة الماضي، ويعطي للجميع أملاً بـ"عودة الروح" إلى الوطن الصغير. وهي موجة استمرت أشهراً، ثم اصطدمت بصخور عالية وواجهت ألعاباً احتيالية لاحتوائها وتسليط العصبيات عليها لإطفاء الجذوة المباركة في ليل مظلم من الظلم والظلامية التي يُراد دفعنا من خلالها إلى ما قبل العصر.
لكن الانفجار الرهيب في مرفأ بيروت التي تهدّمت بقوته من فوق 157 ضحية وأكثر من 6000 جريح جعل السلطة عارية بالكامل. ومن الطبيعي أن يقود هول الكارثة إلى الحزن والغضب والإصرار على محاسبة المسؤولين الكبار عن الكارثة بالإهمال أو بالعجز أو بالخضوع لقوة قاهرة فرضت الإبقاء على ما في العنبر 12 من نيترات الأمونيوم ومواد أخرى شديدة الانفجار. وهم أصلاً مسؤولون يحرصون على حساباتهم المالية والسياسية والطائفية ويرفضون أي محاسبة إلّا إذا بالاضطرار شرط أن تطال الصغار. وهذا ما نراه في التحقيق الذي أصرّ المسؤولون على طابعه الإداري رافضين التحقيق الدولي. والحجة أن الهدف من المطالبة به هو "تضييع الحقيقة" كما قال الرئيس ميشال عون، مع أن الحرص على الطابع الإداري البيروقراطي للتحقيق يقود إلى تضييع الحقيقة.
ومن الصعب تضييع الحقيقة بعدما واجه الشعب التحقيق الإداري بإصدار "الحكم السياسي" على المسؤولين، وأجبر حكومة حسان دياب على الاستقالة. فالسلطة التي في الواجهة أُصيبت باهتزاز "شرعيتها" حين قادت البلاد إلى أزمات نقدية ومالية واقتصادية وسياسية لا تملك حلاً لها، وهي بعد الكارثة فقدت الشرعية بالكامل. وصاحب السلطة أي حزب الله، خسر "شرعية" المقاومة عندما صار سلاحه يعمل في سوريا والعراق واليمن، ودوره الأمني في بلدان عدّة في المنطقة والعالم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن هنا تبدأ تحدّيات الموجة الثانية من الثورة. فالمشكلة الأساسية التي رافقت الثورة الشعبية السلمية مزدوجة: من جهة، مطالبة الممسكين بالسلطة والمال بالتخلي عن مصالحهم لتحقيق الإصلاحات، وهذه مهمة مستحيلة. ومن جهة أخرى، عدم القدرة على إسقاط السلطة لا مجرد الحكومة. الآن يبدو الثوار أكثر تحديداً للأهداف والوسائل. وليس احتلال عدد من الوزارات والمراكز، ولو عمل الجيش على إخلائها، سوى تطوّر مهم ورمز لما سيأتي. فالظروف الخصبة للثورة عبر الأزمات الخانقة والألعاب السلطوية والمصرفية، أسهمت كارثة المرفأ في "تخصيبها". والمنطق الثوري القائل إن الثورة الشعبية لا تخرج من الشارع إلّا إذا حقّقت مطالبها، وحين تخرج من دون ذلك فإنها تكون فشلت، يقابله منطق ثوري آخر. ما هو؟ إنه العمل على مراحل، بحيث يكون "تجذير" الثورة في النفوس أهم من النزول اليومي إلى الشارع. وهو أيضاً السعي لضمان كتلة شعبية وطنية كبيرة عابرة للطوائف والمذاهب والمناطق وقادرة على تغيير موازين القوى لفرض برنامج التغيير. وليس من الضروري أن تكون كل القوى في الكتلة الشعبية متفقة مئة في المئة على كل شيء باستثناء الحاجة إلى إسقاط التركيبة الحاكمة. لكن من الضروري تجنّب خطأ الرغبة في إبعاد هذا الطرف أو ذاك أو الابتعاد عنه بحجة "النقاء الثوري" وما سمّاه لينين "مرض الطفولة اليساري". وأحدث نموذج ناجح أمامنا هو ما جرى في السودان حيث التقت قوى متنوعة مع قيادات في الجيش على إسقاط الرئيس البشير ونظام الإخوان المسلمين. وهي قوى لا تزال بعد نجاح الثورة في حوار حول أفضل الطرق للانتقال الديمقراطي.
ذلك أن ما ينطبق على الثورة بشكل عام هو المبدأ الديالكتيكي القائل: "التراكم الكمّي البطيء يؤدي إلى تحول كيفي سريع". وحين تنضج ظروف التحوّل الكيفي، فإن الثورة في الشارع تتجاوز حسابات المعارضين الغائبين الذين لا يريدون الذهاب إلى النهاية.