Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فاجعة لبنان

"انفجار بيروت هو ناقوس الخطر الذي سمعنا صداه في كل أرجاء الوطن العربي"

في اللحظات الأولى التي تلت الانفجار المدوي في المخزن الذي كان يحوي كمية كبيرة من مواد قابلة للاشتعال داخل مرفأ بيروت، تعالت أصوات اللبنانيين بكافة انتماءاتهم الطائفية مطالبة بالمحاسبة والعقاب، داعية إلى الخلاص من الطبقة السياسية التي توالى كثيرون من قادتها بالوارثة على حكم البلد منذ استقلاله، وفي التوقيت ذاته كان زعماء الأحزاب يتقاذفون الاتهامات ضد بعضهم، كأنما جاء التفجير ليمنحهم فرصة لرفع أثقال عقود من الفساد السياسي والمالي وانتهاك قوانين الدولة عن كاهلهم، فيلقونها في وجه من لا يقفون في صفهم سياسياً.


استعمال القوة

الانفجار في حد ذاته شكّل رعباً وكارثة إنسانية واقتصادية، وكان مفجعاً في حجم آثاره التي ستزيد الأعباء على كاهل الناس البسطاء، في وقت يستمر فيه الجدل حول المسؤولية. ولا بأس هنا في التذكير بأن الطبقة الحاكمة في لبنان لم تتغير كثيراً قبل وبعد انتهاء الحرب الأهلية بالتوقيع على "اتفاق الطائف" في أغسطس (آب) 1989، ثم إصدار قانون العفو العام عن كل الجرائم التي اُرتكبت خلالها، ولكن "الطائف" أسّس لمرحلة جديدة في التاريخ السياسي والاجتماعي اللبناني، فعوضاً عن معالجة عمق الأزمة تم التعامل مع نتائجها، إذ تغاضى عن أهمية وحيوية احتكار الدولة وحدها من دون شراكة للقوة، فمنح "حزب الله" مشروعية حيازتها تحت شعار ما صار يُعرف بـ "سلاح المقاومة"، الذي لم يعد يمتلكه حينها على الأرض الا "الحزب"، الذي ما أنكر يوماً ارتباطه العضوي بالسياسة الإيرانية وأهدافها في المنطقة، ويعتبر نفسه امتداداً لها ومنفِذاً مخلصاً لما يخدم مصالحها أولاً.
ولم يكن صعود "الحزب" ممكناً من دون المرور ببيئة الفساد السياسي والمالي الذي كان الهمّ الشاغل لقيادات الأحزاب التي لا تعمل بعقيدة سياسية، بل بمنطلقات مذهبية وقروية ضيّقة إلى حد مذهل، يُظهر حجم التناقض الذي يختزنه المجتمع اللبناني في أعماقه، ففي الوقت الذي يعطي الانطباع بالتميّز الثقافي عن غيره من المجتمعات العربية، إلا أنه ما زال محكوماً بالعصبيات والانتماءات الضيقة، وشكّل هذا الفصام بين الظاهر والباطن وبين الرغبة والحقيقة، جذر المشكلة اللبنانية، لذا كان من الطبيعي أن يستيقظ مصدوماً على وقع كارثة مدمرة.


الانقسامات المذهبية


عاش اللبنانيون عقوداً طويلة مشدودين إلى إرث سياسي بخطوط مذهبية فاضحة، على رغم محاولات رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري تجاوز هذا المستنقع، معتمداً على إمبراطوريته المالية وعلاقاته الخارجية المتشابكة، إلا أن الموروث الاجتماعي كان أثقل من أحلامه، فعرقل تقدم رؤيته الوطنية، ودفع حياته ثمناً لذلك في 14 فبراير (شباط) 2005، ومعه سقط مشروع "مؤتمر الطائف" الذي كان كثيرون يظنون أنه سيتمكن من السير بلبنان نحو نموذج مغاير لما عاشه اللبنانيون وتعايشوا معه لعقود منذ انتهاء الانتداب، لكن الواقع الاجتماعي والسياسي المتجذر كان أقوى وأكثر حضوراً في أذهان الناس.

لم تكن الدولة اللبنانية يوماً قادرة على التصدي للتدخلات الخارجية، ولم تتمكن يوماً من إيقاف الارتباطات المالية الخارجية لقادة الأحزاب والشخصيات الكبرى. وإذا كانت هذه الكيانات استغلت الأموال لتكثيف مصالحها الشخصية، إلا أن "حزب الله" الذي لم يكن مختلفاً عنهم في مصادر التمويل والتسليح الخارجية، استخدم كل ما وصله لبناء قاعدة صلبة مسلحة، ومشاريع استثمارية ينفق منها على مسلحيه والمرتبطين به مذهبياً، وكذلك على حلفائه من خارج طائفته. وجرى كل ذلك تحت سمع وبصر الجميع داخل وخارج لبنان.


ضعف الدولة
 

لقد أدى ضعف وغياب المرجعية الوطنية للنظام السياسي اللبناني إلى استبدالها بمقاييس طائفية وقروية، وهو ما جعل المشهد داخل المنظومة السياسية في لبنان غامضاً، فلم يعد أحد يفرّق بين مَن يحكم ومَن يعارض، وتداخلت الخطوط فرأينا معارضين مشاركين في الحكومة ومؤيدين لها خارجها، وهي حال استثنائية مثيرة للحيرة، لأن ادعاء وجود نظام ديموقراطي يستوجب وجود معارضة حقيقية تسعى إلى الحصول على الأغلبية في مجلس النواب، بينما يمنع النظام العام الطائفي الوصول إلى هذا السقف من العمل السياسي التقليدي. وهناك مشهد ثانٍ مثير للانتباه، وهو الانتخابات التي تجري وفق توزيع طائفي معلن ومتفَق عليه. ويعلم الجميع سلفاً أنه سينتج فرزاً مشابهاً داخل منظومة الحكم، سواء أكانت في مجلس النواب أم مجلس الوزراء، وفي توزيع المناصب العليا بل والسفارات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


الدور العربي
 

واضح أن ما يجري في لبنان هو إعلان متكرر لفشل النظام العربي الجماعي الذي لم ينتبه إلى توالي سقوط أكثر من عاصمة عربية في براثن التداخلات الخارجية السافرة والواضحة، ولم يتحرك أحد لإنقاذها، بل على العكس سعى البعض الى إرباك كل محاولات التدخل الإيجابي لتدارك الأزمات التي كنا نشاهدها جميعاً، وما زاد عمق المشكلة هو غياب أو تغييب الجامعة العربية عن الحضور الفاعل والقوي، وصارت أقرب ما يكون إلى منظمة غير حكومية متضخمة بعدد ضخم من الموظفين، تُدار بناشطين سياسيين.

وتتابع خروج بغداد ودمشق وطرابلس الغرب وبيروت وصنعاء من إطار الاهتمام العربي، ودخلت الواحدة تلو الأخرى في نطاق نفوذ غير عربي، ولم يبدأ الصراخ إلا بعد أن اكتملت الصورة، وحينها بدأت الأصوات ترتفع منددة بالتدخلات الخارجية وضرورة مواجهتها والتصدي لها، وليس هذا بالجهد الكافي لاستعادة هذه العواصم نحو المسار العربي، فالقضية بلغت أعماقاً لا يمكن الخروج منها إلا بمشروع عربي يبتعد عن الخلافات البينية، ويسير نحو مصالحات تزيل تراكمات عدم الثقة والنزاعات الشخصية، وضمان تسوية الأوضاع الداخلية في كل بلد عربي لم يدخل حتى الآن ضمن المشاريع غير العربية القائمة.

لقد أثبتت المنظمات الإقليمية العربية عجزها عن مواجهة الأخطار، ولم تقدم الدراسات الجادة لتجاوز الآثار السلبية لهذا الوهن الجمعي، وقد يكون واجباً ربط هذه الكيانات تحت مظلة واحدة يكون غرضها الوحيد العاجل هو التعامل مع الحاضر ودراسة المستقبل، ومن الطبيعي المطالبة بإعادة النظر في كيفية عملها واختيارات القائمين عليها، وتحويلها إلى مراكز جادة لصنع القرارات العربية بعيداً عن التشوهات التي أضرّت بالجميع من دون استثناء.

انفجار بيروت هو ناقوس الخطر الذي سمعنا صداه في كل أرجاء الوطن العربي، ولكننا سمعنا انفجارات وحروباً أخرى وسط صمت الجميع، فهل من فرصة الآن لتدارك الأمر قبل سقوط المزيد؟ وإذا تمكن النظام العربي من انتشال لبنان من الهاوية التي يسقط فيها من دون كوابح، فلعل ذلك يشكّل أملاً لإنقاذ الجدران التي تحيط بنا.

المزيد من آراء