Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ألن باركر أحب الجمهور أفلامه ورحل من دون "أوسكار"

حرص على التنوع في أعماله فنكاد لا نجد شريطاً حمل توقيعه يشبه الآخر

المخرج البريطاني الن باركر (موقع المخرج)

نظرة سريعة على فيلموغرافيا ألن باركر التي تنطوي على 14 فيلماً، كافية لنعي مدى حرص هذا المخرج الإنجليزي على التنوع. نكاد لا نجد شريطاً حمل توقيعه يشبه الآخر. هل سعى فعلاً إلى هذا التنوع، أم انه وليدة المصادفة؟ نطرح هذا السؤال، غداة رحيله عن 76 سنة بعد صراع طويل مع المرض، وكلنا ثقة بأن الجواب غير مهم، فما يهم في الحقيقة هو ما بثّ فينا طوال حياته من مشاعر وما سيتركه بعد رحيله. 

تمتد مسيرة باركر السينمائية من منتصف السبعينيات إلى عام 2003، تاريخ إنجاز آخر أفلامه "حياة ديفيد غايل"، تلك اللحظة التي مضى فيها إلى صمت طويل استمر حتى نهاية حياته (يُقال إنه تفرغ للرسم). حتى الذين لا يعرفون اسمه كمخرج، أغلب الظن أنهم شاهدوا على الأقل فيلماً من أفلامه، فهو من السينمائيين الذين ذاع صيت أفلامهم من دون أن يسهم ذيوع الصيت هذا في جعلهم نجوماً. تقريباً، كل أفلامه ملأت الصالات وحققت إيرادات محترمة، وفازت بجوائز كثيرة، فكان نصيبها منها: 10 "أوسكار" و10 "غولدن غلوب" و19 جائزة "بافتا". إلا أنه، هو شخصياً، من موقعه كمخرج، لم ينل يوماً "أوسكار" أفضل مخرج.

جاء باركر من عالم الإعلانات، على غرار الإنجليزي الآخر الذي هو ريدلي سكوت. أول فيلم روائي طويل له هو "باغزي مالون" (1976)، باكورته الكيتش التي عُرضت في مسابقة مهرجان كانّ السينمائي. حاول باركر من خلاله أن يلقي تحية إلى الأفلام الأميركية التي ظهرت خلال الكساد الكبير (1929 - 1933). الفيلم باروديا ميوزيكالية على خلفية حرب عصابات. كافة الشخصيات أطفال يضطلعون بدور راشدين، ويرمون فطائر الكريما على بعضهم البعض بدلاً من تبادل الأعيرة النارية. نجد بين هؤلاء المراهقة جودي فوستر التي كانت خارجة لتوها من تجربة "سائق التاكسي" مع مارتن سكورسيزي. حقق الفيلم نجاحاً باهراً في بريطانيا، وفي عام 2003، حلّ في المرتبة 19 على قائمة مشاهدي "القناة الرابعة" لأعظم 100 ميوزيكال. 

"قطار منتصف الليل"

جيل السبعينيات لا بد أن يتذكّر فيلم باركر الصادم "قطار منتصف الليل" (1978) الذي كتب له السيناريو أوليفر ستون في بداياته. الشريط أفلمه لتجربة بيلي هايز الحقيقية (يلعب دوره براد دايفيس) التي رواها في كتاب سيرة، فاقتبسها ستون ببعض التصرف. كان هايز شاباً أميركياً تم القبض عليه في عام 1970 في مطار إسطنبول وفي حوزته كمية من المخدرات، فزُج به في السجن لمدة أربع سنوات في البداية، ثم صدر حكم آخر بالسجن مدى الحياة. حينها قرر الهرب ونجح. وصف باركر على نحو بالغ القسوة ظروف السجن، حيث تتغلب السادية على العقاب، ليتجاوز ما هو مقبول إنسانياً. اختار الفيلم تصوير كلّ هذا العنف الذي لا يُطاق لاستدرار العواطف. على رغم قوة السرد والأجواء المشحونة، واتقان باركر لكافة العناصر الدرامية، فالعلة الكبيرة فيه كانت المغالاة في نقل واقع السجون في تركيا. النتيجة: أحدث الفيلم أزمات ديبلوماسية كثيرة بين تركيا والبلدان التي عرضتها وأتُهم صنّاعه بالعنصرية، كون نرى هايز ينعت الأتراك بـ"أمّة الخنازير".

الفيلم رُشِّح لستة "أوسكارات" نال منها 2، ومع الزمن تحوّل إلى عمل culte تاركاً آثاراً سلبية في نظرة العالم إلى تركيا، ما يؤكد سلطة السينما على الناس. اعترف ستون في ما بعد أنه صنع عملاً مبالغاً في دراميته، فعاد اعتذر أثناء زيارة له إلى إسطنبول (2004). اعتذار لا يغير شيئاً ما دام الفيلم لا يزال موجوداً، وكلّ مشاهدة جديدة له، مهما مرت عليه السنوات، تدب في جسمك قشعريرة، وفي اعتقادي أن موسيقى جيورجيو مورودير هو المسؤول الأول عن هذا الإحساس. إلى ذلك، يمكن اعتبار الخاتمة المجيدة درسٌ سينمائي في ذاته.  

بعد هذا الفيلم، قدّم باركر عملاً آخر دخل معاجم السينما وخاطب جيلاً كاملاً: "شهرة" (1980). ميوزيكال يقطع كلياً مع المناخ القاتم لفيلمه السابق. تجري الحوادث في نيويورك وهي عن تجارب حفنة من الطلاب المراهقين الذين يدرسون التمثيل والموسيقى والرقص. يصوّر حياتهم مذ خضوعهم لتجربة الدخول إلى الجامعة حتى التخرج منها، فما بعده، علماً أن السيناريست كريستوفر غور استوحى القصّة من مسرحية برودواي "أي كوروس لاين"، ولكن باركر عاد صاغها معه لاضفاء مسحة سوداوية عليها. صعوبات جمّة اعترضت طريق باركر وهو يصوّر الفيلم، منها اصطدامه بنقابة العمّال، وفي النهاية، عندما خرج الفيلم إلى الصالات، جلب 5 مرات كلفته. أما الآراء النقدية فانقسمت في شأنه، ولكنه فاز بـ"أوسكارين" (أفضل أغنية وأفضل موسيقى تصويرية)، قبل أن يُعاد إنتاجه في العام 2009 في نسخة حديثة. 

بينك فلويد

فيلم آخر لباركر أصبح من الكلاسيكيات: "بينك فلويد: الجدار" (1982). يستند العمل إلى ألبومين للفريق الإنجليزي الشهير بينك فلويد، مازجاً مَشاهد حقيقية بمَشاهد تحريك. الفيلم مقل حواراً، أما الموسيقى التصويرية فتتألف من مقطوعات للفريق المذكور الذي أُعد بعضها خصيصاً للفيلم. القصّة: نجم روك يُدعى بينك يشعر بأن شخصيته تتداعى، فيشيد جداراً فاصلاً يختبئ خلفه، معتقداً أنه في ملاذ آمن، إلا أن الجدار سيحسسه بشعور العزلة والوحدة. حينها، سيراجع محطات من حياته: والده الذي قضى في الحرب، أمه المتملكة، زواجه الفاشل، تعاطيه المخدرات... الفيلم اعتبره البعض بورتريهاً دقيقاً للسكيزوفرينيا، فلا شيء تقليدياً فيه، بدءاً من الإخراج وصولاً إلى أسلوب السرد غير الخطيّ. أنجز باركر فيلماً يتأرجح بين ذكريات الطفولة والهروب إلى واحات الموسيقى والعنف والمخدرات. 

بعدها بعامين، عاد باركر بفيلم جديد، بعضهم يعتبره أروع أعماله. إنه "بردي" الذي فاز في عام 1985 بجائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان كانّ السينمائي. من الممكن الاعتراض على اعتبار "بردي" ذروة سينماه، ولكن يصعب ألا نتعاطف مع بطله ونحن نشاهد حكاية الصديقين اللذين يعودان من حرب فيتنام في حال يُرثى لها على المستويات كافة. أحدهما (ماتيو موندين) يدخل المستشفى ولا يعود يتفوه بكلمة. يعتبر نفسه طيراً، وكلّ ما يفعله هو البقاء جالساً في وضعية العصفور. لا يحلم بسوى التحليق. أما صديقه (نيكولاس كايج)، الجريح في وجهه، فلا يجد حلاً آخر سوى التواطؤ مع صديقه لعلّه يعود إلى عقله. الفيلم مقتبس من رواية "بردي" لوليم وارتون، التي استوحاها من تجربته خلال الحرب العالمية الثانية، لكن باركر نقلها إلى زمن فيتنام مع قصّة تدور فصولها في فيلاديلفيا. "بردي" تكريس للتيمات العزيزة على قلب باركر: الصداقة، الحرية، الجنون والحرب التي تترك آثاراً بالغة في النفوس. 

حريق الميسيسبي

الثمانينيات هي العقد الذي شهد تكريس باركر. إنها السنوات التي أنجز خلالها أكبر عدد من الأفلام التي لا تزال ماثلة في الوجدان السينيفيلي، وقد ختمها بعملين هامين: "قلب أنجل" (1987) و"ميسيسيبّي تحترق" (1989). عملان لا يشبهان كلّ ما جاء من قبلهما، وحملا سينما باركر إلى مستوى آخر من الجماليات. في "قلب أنجل" يضطلع ميكي رورك بدور محقق يعمل في نيوريوك الخمسينيات، يكلَّف ذات يوم بالتحقيق في اختفاء مطرب يُدعى جوني فايفوريت. إلا أن سلسلة التحقيقات هذه تقوده إلى نيو أورليانز حيث سيكون شاهداً على مجموعة جرائم وحشية، والضحايا من الشهود. الرجل الذي يكلّفه بالمهمة هو لوي سيفر ويلعب دوره روبرت دنيرو في واحد من أجمل أدواره. العمل ينتمي إلى السينما النوار، وقد أسهم مدير التصوير مايكل سيريزين في تعزيز المناخ القاتم. الفيلم اتهمه بعض النقّاد بالاستيتيكية المفرطة. 

في "ميسيسيبّي تحترق"، الذي تدور أحداثه في الستينيات، ويجمع ثلاثة من أهم الممثّلين (جين هاكمن، ويليام دافو وفرانسز ماكدورمند)، تتعلّق القصّة مجدداً باختفاء، ولكن هذه المرة اختفاء ثلاثة حقوقيين بدلاً من شخص واحد، وتحديداً في ولاية ميسيسيبّي، حيث ينشط جماعة الكلو كلوكس كلان العنصرية. فيكلَّف عنصران من الـ"أف بي آي" بالتحقيق، لكن الأخيرين سرعان ما يغرقان في وحول العنصرية والعنف. مع هذا الفيلم، قدّم باركر مسحاً شاملاً للتمييز العنصري في أميركا، من خلال تصوير فشل التواصل بين مختلف مكونات المجتمع. فيلم يُعتبر مرجعاً في المجال الذي نبش فيه. 

آخر فيلم مهم لباركر يعود إلى نحو ربع قرن إلى الخلف: "إيفيتّا". عمل ميوزيكالي آخر استعاد به أمجاد ماضيه، وأمجاد السينما التي تروي الحكايات بالغناء والرقص. "إيفيتّا" قصّة إيفا بيرون (مادونا)، زوجة الكولونيل بيرون الذي أصبح رئيساً للأرجنتين في عام 1946. بدايةً، نرى صعودها إلى بوينس أيرس مع عشيقها (أنطونيو بانديراس) ودخولها مجال السينما كممثّلة، فتعرفها على زوجها وتحوّلها إلى السيدة الأولى. لكن الشعب غاضب، وإيفا مريضة، مصابة بالسرطان وهي شابة في الثالثة والثلاثين. يظهر الفيلم حرفية باركر وقدرته على المسك بإيقاع السرد بيد بارعة.

حملت أفلام باركر حسّاً سينمائياً عالياً. كان الرجل يختار مواضيع إشكالية تخلق النقاش، ويملك موهبة الدفع بالأشياء إلى حدّها الأقصى، واضعاً الإنسان الهش داخل كلّ هذه المعمعة التي يتشكّل منها العالم، ولقد أجاد دائماً كيف يأخذ الأفضل من الممثّلين. كان صاحب طرح مباشر، هوليوودي بالمعنى السلبي أحياناً. أحبّه الجمهور ونبذه النقّاد.

المزيد من سينما