وصف جون كينيث غالبريث، سفير واشنطن الأسبق لدى نيودلهي، الهند بعبارة شهيرة كدولة "فوضى عاملة" لا يمكن حكمها، إنما استطاعت أن تستمر بمعجزة، على رغم تعقيداتها وعطالتها. اليوم، وفيما أشاهد من مقر سكني القريب من واشنطن دي سي، كبرى المدن الأميركية تلتهب احتجاجاً على مقتل جورج فلويد، يعود إلى البال تعليق غالبريث المؤسف عن البلاد التي ولدت فيها. فهل تحولت أميركا إلى هند أخرى وفوضى قائمة؟
قد يكون من السخف أن نقارن للوهلة الأولى الولايات المتحدة، القوة الاقتصادية والسياسية العظمى، بدولةٍ ذات دخل متوسط هو أدنى مستوى مثل الهند، على الرغم من الأرضية المشتركة بينهما، باعتبار أن الأخيرة هي أضخم الديمقراطيات في العالم وأميركا ثانيتها. لكن ثروات الولايات المتحدة وديناميتها الهائلة ساهمت في حجب إخفاقاتها، لا سيما لجهة تحقيق معيارٍ أساسي له أهميته الكبيرة ويتمثل في مدى استجابة ديمقراطيتها وفي قدرتها على تلبية تطلعات شعبها الذي تشكل الأقليات والجماعات الفقيرة نسبةً كبيرة منه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في ضوء هذا المعيار وحده، نجد أن الولايات المتحدة تشبه إلى حد كبير الهند في سلوكها، وتزداد هذه المقارنة وضوحاً عندما نتأمل القسوة التي ينطوي عليها إنفاذ القانون فيها، ونرى فساد بعض ساستها، والانقسامات الطبقية والعرقية التي تزداد حدة، علاوة على اللامبالاة لدى النخب التي تتمتع بالامتيازات في مجتمعاتها.
خلال نشأتي في الهند في سبعينيات القرن الماضي التي تخللتها موجة كبيرة من الاضطرابات، كنتُ أنظر بدهشة إلى المرونة والقدرة على البقاء اللتين يتمتع بهما النظام السياسي الأميركي. فبعدما تمكنت الولايات المتحدة من التعافي بنجاح من مخلفات حرب فيتنام وفضيحة "ووترغيت"، بدت لمن يراها من بعيد كأنها مدينة فاضلة مضيئة على قمة إحدى التلال، حيث يعمل اليمين واليسار على تسوية نزاعاتهما بشكل مسؤول، وتُعتبر الاحتجاجات السياسية وسيلةً مشروعة للتعبير عن الظلم. طبعاً إنه لمن السذاجة بمكان أن أكون مثل تلك النظرة الوردية عن أميركا، وأن أغض الطرف عن الانقسامات العرقية العنيفة التي لم تتمكن البلاد من التغلب عليها، ما يشكل فشلاً ذريعاً لديمقراطيتها.
ارتكبتُ الخطأ الذي يرتكبه حتى يومنا هذا كثير من المعلقين الخارجيين في تحليلهم للولايات المتحدة، لجهة الخلط بين ثروتها العظيمة وأسطورة "الحلم الأميركي" التي تتغنى بها، والتقدم الحقيقي الذي تحرزه في بناء مجتمع متماسك يستوعب الجميع.
جاءت نظرتي الخاطفة تلك للولايات المتحدة في فترة السبعينيات عبر إذاعة "صوت أميركا" التي تواجه في الوقت الراهن غضب الرئيس ترمب، إضافة إلى مجلتي "تايم" و"نيوزويك" اللتين عرضتا إيمانهما الثابت بالنظام وبأسلوب الحياة في أميركا على نحو وضع ذلك النظام ونمط الحياة في تناقضٍ واضح مع الفوضى واليأس اللذين كانا يعمان بقية العالم.
أصبحتُ أميركي الهوى لأن الهند التي عرفتها في شبابي كانت ترزح تحت وطأة الفقر والاحتجاجات، إلى حد ربما جعلها تستحق الوصف المشين لغالبريث. لكن العيش في الولايات المتحدة في فترات متقطعة طيلة العقدين الماضيين وفر لي منظوراً مختلفاً بشكل حاد، إذ أتاح لي لمحة عما فيها من نقاط القوة الكثيرة ومواطن الضعف الكبيرة، وبالتأكيد عن أوجه التشابه الحادة بينها وبين الهند ماضياً وحاضراً. على سبيل المثال، يسود اعتقاد واسع النطاق في الهند بأنها تفتقر إلى الضوابط والتوازنات في فرض القانون ونظام العدالة الجنائية.
إن القاعدة السائدة هي وحشية الشرطة وما يُسمى "القتل في المواجهات"، التي يموت خلالها المشتبه فيهم وسط ظروفٍ غامضة، ويتمتع الحزب الحاكم بقدرة كبيرة على تخريب العدالة الجنائية. ليس من المستغرب بتاتاً أن ترى فظائع مفجعة جراء انتشار جائحة كوفيد - 19 في الهند، حيث تعرض عمالٌ مهاجرون كانوا يحاولون مغادرة المدن للمضايقة على يد أجهزة إنفاذ القانون.
إن معاناة هؤلاء لا تختلف كثيراً عن الاعتداءات التي تتعرض لها الأقليات الأميركية كما يؤكد مقتل جورج فلويد وأحمود أربري وإريك غارنر وبريونا تايلور، وآلاف الضحايا الآخرين المجهولين.
السبب المباشر للمضايقات في الهند هو النظام الطبقي والمرتبة الاقتصادية؛ أما في أميركا، فهو العرق والطبقة الاقتصادية. وعلى الرغم من المساحة الجغرافية بين البلدين، فإن لدى عنصر الشرطة في المدن الأميركية اليوم الكثير من القواسم المشتركة مع نظيره في دلهي أو مومباي.
وتصل وقاحة عمليات إنفاذ القانون في كلا البلدين إلى أقصى درجاتها بسبب فساد السياسيين. ففي الهند، شجع حزب "بهاراتيا جاناتا" الحاكم ضمناً على اضطهاد الأقليات، أو عمد إلى غض الطرف بينما كان أنصار عقيدة "هندوتفا" القومية يستهدفون أبناء الأقلية المسلمة في البلاد، وينفذون عمليات إعدام خاطفة ومضايقات اقتصادية ضدهم.
وقد اعتبر أنصار ناريندرا مودي رئيس الوزراء الهندي صمته ودعواته النادرة إلى الوحدة الوطنية، بمثابة ضوءٍ أخضر للحرق والتدمير. إن ثمة تشابهاً غريباً بين لا مبالاة الهند تجاه أقلياتها وخطاباتها السياسية المحابية، وبعض ما يجري في الولايات المتحدة، كما يوضح اقتباس الرئيس الأميركي لعبارة "عندما يبدأ النهب، يبدأ إطلاق النار" المنسوبة لضابط شرطة استهدف السود، وإعلانه بعد احتجاجات مدينة شارلوتسفيل في ولاية فرجينيا أن هنالك أناساً صالحين "لدى كلا الجانبين".
تسهم وسائل الإعلام التقليدية ووسائط التواصل الاجتماعي هي الأخرى في تضخيم الفروق ضمن المجتمعين، إذ لا يختلف الاستماع إلى أحاديث أنصار اليمين على قناة "فوكس نيوز" أو مجموعات الدردشة، عن الضجيج والخوف اللذين يجري بثهما عبر أثير عددٍ من "قنوات الكوماندوز" commando channels المؤيدة لرئيس الوزراء مودي في الهند، والتي سُميت هكذا بسبب عادة مقدمي البرامج على الظهور بملابس عسكرية بهدف التعبير عن حماستهم الوطنية. والواقع أن المشاهد السياسية في كل من هيوستن في سبتمبر (أيلول) عام 2019، وفي أحمد آباد في الهند في فبراير (شباط) هذه السنة، حين ظهر ترمب ومودي في ما يشبه الحملات الانتخابية أمام جمهور حماسي، تعزز الطابع الهندي في الولايات المتحدة.
ما يهم في النهاية، هو الطريقة التي يعالج من خلالها البلدان هذا العجز الديمقراطي وسعيهما إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. إن أوجه التفاوت في النظام عميقة للغاية، أما طبقة النخبة المتراخية والخانعة في البلدين فليس لديها حافز كافٍ للتغيير. ربما يعود الأمر في نهاية المطاف إلى جيل الألفية المقبل الذي يتسم بوعي اجتماعي، ويستمد الوحي من المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ الابن، لجعل الهند والولايات المتحدة أكثر تشابهاً وتشابكاً من خلال مجموعة إيجابية من المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية. إن الاحتجاج السلمي وليس الغضب العنيف هو الجواب الوحيد، كما ذكرنا مايك كيلر المتشبع بمبادئ غاندي في أتلانتا الأسبوع الماضي. أما البديل فهو الفوضى العاملة المترافقة مع عواقب متعمدة.
( فاسوكي شاستري صحافي سابق ومسؤول في "صندوق النقد الدولي،" يعمل الآن زميلاً مشاركاً في "برنامج آسيا والمحيط الهادئ" التابع لمعهد "تشاتام هاوس"، ويسكن بالقرب من واشنطن العاصمة).
© The Independent