لم يخطر في بال خالد أبو جورة (55 سنة) من مدينة بيت لحم (جنوب الضفة الغربية) أن قراره في تجديد شبكة الصرف الصحي الخاصة بمكان سكنه، سيقوده الى المقبرة (مكان دفن الموتى)، فما إن بدأت الجرافات في العمل، ودخلت عمق التربة لمد الشبكات المطلوبة، حتى ظهرت مغارة صغيرة وعميقة، أبو جورة الذي دسّ رأسه بحذر شديد لاكتشاف أمرها، تيقّن على الفور أنها مقبرة أثرية تعود لزمن غابر جداً.
ويقول أبو جورة لـ "اندبندنت عربية" "كان الأمر مقلقاً في البداية، فيوم العمل الطبيعي والرتيب بمد شبكة صرف صحي تحّول، كما الأفلام التي نشاهدها في التلفاز، لم نجرؤ على للدخول عميقاً في المغارة واكتفينا بالنظر من بابها، وما إن شاهدنا العظام والجماجم والفخاريات وبعض المعدات المعدنية حتى اتصلنا بوزارة السياحة والآثار وشرطتها التي حضرت على الفور، وعلمنا في ما بعد، بحسب الجهات الرسمية، أنها مقبرة تعود الى العصر البرونزي المتوسط، ويقدر عمرها بحوالى أربعة آلاف سنة".
وزارة السياحة والآثار الفلسطينية أكدت أهمية هذا الاكتشاف الذي من شأنه إثراء المادة العلمية لتلك المنطقة بمعلومات جديدة ومفيدة لم تكن معروفة من قبل، وسيفتح الباب للمختصين والباحثين من علماء الآثار للكشف عن مواد جديدة لحقبة تاريخية مهمة تمثلها هذه المقبرة، إذ تبين عادات الدفن في منطقة بيت لحم في العصور البرونزية الوسطى اي بين أعوام 1750-2200 قبل الميلاد".
اثبات الهوية الفلسطينية
صالح دوافشة، المدير العام لحماية الآثار في الضفة الغربية قال لـ "اندبندنت عربية" "أعمال التنقيب في الموقع (منطقة هندازة) تبين أن المقبرة تعود للعصر البرونزي، وتحتوي على مجموعة من المواد الفخارية والمعدنية وبعض العظام، وهي تقود بشكل جيد لدراسة المنطقة وحضارتها واسرارها، وإثبات الهوية الفلسطينية، وحسب البروتوكولات المتبعة، سيتم أولاً غسل الفخار كاملاً لتتم دراسته وتوثيقة لإدخال المعلومات الى السجلات الرسمية لوزارة السياحة، كونه اكتشافاً عالمياً مهماً لتلك الحقبة الزمنية، وما إن يتم تجهيز المواد الأثرية وفحصها التي يزيد عددها عن 50 قطعة متنوعة بين فخاريات ومعادن، سيتم ترقيمها لنشرها في ما بعد على مختلف المتاحف الفلسطينية لإتاحة المجال أمام الدارسين والباحثين والمهتمين بالتراث لمشاهدة تلك القطع الفريدة، التي تظهر كيف كانت العادات والتقاليد آنذاك ولا سيما عند الدفن والجنائز، إضافة لكل ذلك، فإن الرفات والعظام التي تم العثور عليها داخل المقبرة سواء كانت لحيوانات او لبشر، سيتم فحصها ودراستها بأعلى المستويات لمعرفة خبايا العصر البرونزي المتوسط في فلسطين".
خطة طوارئ
السلطة الفلسطينية، ومنذ الخامس من مارس (آذار) الماضي، ومع بدء ظهور الإصابات بفيروس كورونا في الأراضي الفلسطينية، تفرض على مواطنيها خطة طوارئ تحظر عليهم التحرك أو التنقل بين المدن والقرى، كما قامت بإغلاق الجامعات والمدارس ورياض الأطفال لمدة 60 يوماً متتالية، ومنعت إقامة حفلات الزفاف والمباريات الرياضية والمؤتمرات والمهرجانات، ما دفع بعض المواطنين للانقضاض على بعض المواقع الأثرية وسرقة محتوياتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وألقت شرطة السياحة القبض على بعضهم متلبسين أثناء عمليات التنقيب، بينما لاذ آخرون بالفرار، ولأجل ذلك، اعتمدت وزارة السياحة والآثار خطة طوارئ خاصة لحماية المواقع الاثرية الفلسطينية من النهب والتدمير أثناء الأزمة الراهنة.
وفي هذا السياق، أوضح جريس قمصية الناطق باسم وزارة السياحة والآثار لـ "اندبندنت عربية" أن "الخطة تركّز في معظم مراحلها على العمل الميداني المتواصل والمكثف لموظفي الآثار وشرطة السياحة والآثار، بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية المختلفة، والأيام الماضية أظهرت حالات من النهب والتدمير والسرقة للتراث الفلسطيني في أكثر من موقع، وهناك للأسف عصابات تقوم بالتنقيب والحفر والنهب لآثار فلسطينية تاريخية ظناً منها أن خطة الطوارئ التي تفرضها السلطة الفلسطينية ستحول دون ملاحقتها، نحن نتلقى اتصالات شبه يومية من مواطنين يبلغون عن تحركات مشبوهة في مناطق أثرية".
نهب الأثار
يضيف قمصية "من أخطر أشكال عمليات استهداف المواقع الأثرية والتاريخية، تلك التي تتم في مناطق "ج" (أماكن تقع تحت السيطرة الإسرائيلية)، فحوالى 100 ألف قطعة أثرية فلسطينية على الأقل، تُهرَّب سنوياً إلى إسرائيل، مع العلم أن القانون الدولي يفرض على الدولة المحتلة حماية الموروث الثقافي والمواقع الأثرية للدولة الخاضعة للاحتلال".
وبحسب وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، بلع عدد المواقع الأثرية الرئيسة في الضفة الغربية وقطاع غزة، 944 موقعاً، وعدد المعالم الأثرية 10 آلاف، وهناك ما يزيد عن 350 نواة لمدينة وقرية تاريخية تضم ما يزيد عن 60 ألف مبنى تاريخي، كما أن هناك 450 موقعاً أثرياً يقع داخل المستوطنات المبنية في الضفة الغربية، ويقدر خبراء فلسطينيون عدد المواقع والمعالم الأثرية التي أصبحت تقع خلف جدار الضم والتوسع الذي بدأت إسرائيل بناءه عام 2002 بحوالى 1185 موقعاً، إلى جانب عدد كبير من الخرب والبيوت التاريخية، ومع ذلك، استطاعت السلطة الفلسطينية تسجيل أربعة مواقع فلسطينية ضمن لائحة التراث العالمي، من بينها البلدة القديمة في مدينة القدس مع سورها، ومكان ميلاد السيد المسيح في بيت لحم، والمدرجات الطبيعية في قرية بتير (جنوب بيت لحم)، ومدينة الخليل القديمة وتسعى لضم مواقع أخرى قريباً.
قانون فلسطيني
يذكر أن القانون الفلسطيني يفرض عقوبة بالسجن تتراوح بين ثلاث و10 سنوات على من تثبت عليه جريمة الإتجار بالآثار، وقد تصل العقوبة في بعض القضايا الى فرض غرامة مالية تصل إلى 120 ألف دولار، وفي عام 2018 صدر قانون فلسطيني، يعتبر كل المباني التي شيدت قبل عام 1917 جزءاً أساسياً من التراث الثقافي الفلسطيني، ويمنع هدمها.