Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العصر الذّهبي للأفلام الغنائيّة منذ "الغناء تحت المطر" وحتى "أميركي في باريس" ذهب ولن يعود

نظرة سريعة على إنتاجات سينما الأمس التي تُمثّل أصدق تعبير عن الفن والمثالية الغائبين الحاضرين لدى استعراض إنتاجات سينما اليوم

بوستر فيلم "غناء تحت المطر" (فيلم بوستر)

تزامناً مع استضافة "جمعية الأفلام البريطانية" لموسم الأفلام الغنائيّة الأسطوريّة الذي يبدأ بإعادة عرض "الغناء تحت المطر" (Singin’ in the Rain) في أنحاء المملكة المتّحدة، يعود جفري ماكناب بالزّمن إلى الوراء لإلقاء نظرة سريعة على إنتاجات سينما الأمس التي تُمثّل أصدق تعبير عن الفن والمثالية، الغائبين الحاضرين عن إنتاجات سينما اليوم.

اعتباراً من الأسبوع القادم وعلى مدى الأشهر الثلاثة المقبلة، ترقّبوا مئات العروض للروائع الغنائية الخالدة في تاريخ السينما في كلّ أنحاء المملكة المتحدة.

إذ "ليس أفضل من الغوص في الحالة العاطفيّة السعيدة التي تنضح بها الأفلام الغنائية وتقشعرّ لها الأبدان طريقةً للهروب من حاضرنا الزّاخر بالاضطرابات؟ ضعوا همومكم وأحزانكم جانباً وتعالوا لتفرحوا!" يدعو روبن بايكر، القائم على الموسم من "جمعية الأفلام البريطانية".

ولا مناص من أن يبدأ الموسم المنتظر بإعادة إطلاق فيلم "الغناء تحت المطر" (ستانلي دونين وجين كيلي، 1952) الذي لا يزال من دون منازع أكثر الأفلام الغنائية شعبيةً على الإطلاق.

وبحسب الحكمة الشّعبية السّائدة، عصرنا الحالي هو عصر نهضة الأفلام الغنائية؛ والنّجاح السّاحق الذي حقّقته أفلام الـ"لالا لاند" (La La Land)، 2016 و"أعظم رجل استعراض" (The Greatest Showman)، 2017 و"البؤساء" (Les Miserables)، 2012 و"رقص الشّوارع" (StreetDance) و"مسرحية الثانوية الغنائيّة" (High School Musical) وسواها، خير دليل على الجاذبية الخالدة لهذا النوع من الإنتاجات السّينمائية. تُضاف إليها نسخة ستيفن سبيلبرغ الجديدة من "قصة الحيّ الغربي" (West Side Story) والنّسخة المصوّرة من مسرحية "قطط" (Cats) الاستعراضية. وقد تكون الإنتاجات السينمائية المليئة بالعروض الغنائية الراقصة كثيرة في أيامنا هذه، لكنّ معظمها مزعج وغير مشوّق إذا ما قارنّاه بإنتاجات وحدة آرثر فريد التّابعة لـ"مترو غولدوين ماير" (MGM) في أربيعينيات وأوائل خمسينيات القرن الماضي، أو بالموسيقى التصويريّة لأفلام "وارنر براذرز" (Warner Bros) في فترة الثلاثينيات، كـ"الشّارع رقم 42" (42nd Street)، 1933 و"المنقّبون عن الذّهب" (Gold Diggers).

والمفارقة هي أنّ روائع "مترو غولدوين ماير" الموسيقية – من قبيل "الغناء تحت المطر" و"أميركي في باريس" (1951) و"عربة الفرقة الموسيقيّة" (The Band Wagon) (1953) – لم تُبصر النّور إلا بعد أن تعثّر نظام استديو هوليوود متأثراً بفورة التلفزيون التي سرقت منه الأضواء. لكنّ هذه الأفلام كانت في كل الأحوال الأمل الوحيد قتها. "ثمة ما يُخيّب في الطاقة الغاضبة؛ الأمر أشبه بمحاولة ملحمتي "سينيراما" (Cinerama) و"خمسينيات" (Fifties) المنبثقتين عن التّاريخ التوراتي، التغلّب على الشّاشة الصغيرة وتجاوزها إبهاراً"، وفق ما كتبه الرّوائي جون أبدايك عن هذه الموجة الأخيرة من الأفلام الغنائية.

وفي ما يتعلّق بكاتب الأغاني والمنتج المعروف آرثر فريد، فهو يحتلّ موقعاً متناقضاً في تاريخ صناعة الأفلام. والقليل من التوصيفات الحديثة تغضّ الطّرف عن الصّورة الكئيبة التي رسمتها له شيرلي تامبل في سيرتها الذاتية، قل صورة المسنّ الفاسق الذي لم يتردد في حلّ سحاب بنطاله والانكشاف عليها والتحرّش بها فيما لا تزال ممثلة صغيرة في الثانية عشر من العمر.

وقد لا يكون فريد الرّجل الأكثر تميّزاً في عالم السينما، لكنّ "قدرته على استكشاف المواهب والاعتراف بها وإحاطة نفسه بأصحابها أكثر من متميّزة"، على حدّ تعبير صديقه المقرّب إرفينغ برلين. فحالما كان يُحدّد العملاء المحتملين، كان يتركهم لحال سبيلهم ولا يتدخّل في شؤونهم. وكما يدلّ عليه اسمه بالإنكليزية، فريد (أو المُحرّر) هو الذي أتاح لدونين وجين كيلي وفينسينت مينيلي وسواهم من الذين كان يكنّ لهم فائق الاحترام، درجةً خاصة من الإبداع وقسطاً وافياً من التراخيص المالية التي ما كانت لتتوفّر لهم في مكانٍ آخر.

الظّاهر أنّ أفضل مشاريع "مترو غولدوين ماير" الغنائية طُرحت من دون سابق تحضيرٍ وتصميم وبطريقة متحررة وبدائية. نذكر منها فيلم "الغناء تحت المطر" غير التقليدي الذي تبلور نزولاً عند رغبة فريد البسيطة بصناعة فيلم يرتكز بشكلٍ أساسي على أغانٍ قديمة، ومن ضمنها أغنية "الغناء تحت المطر" التي تعاون مع شريكه ناتشو هيرب براون على كتابتها عام 1929. وإذ لم يكن لدى فريد أدنى فكرة عما سيكون عليه فحوى القصة، قرر تسليم أمر التأليف للكاتبين بيتي كومدين وأدولف غرين اللذين ارتأيا إعداد فيلمٍ يُحاكي الفترة الزمنية التي كُتبت فيها الأغاني أي مرحلة التحوّل من السّينما الصّامتة إلى السينما الناطقة. من هنا، يُمكن القول إنّ فيلم "الغناء تحت المطر" يؤرّخ نهاية حقبة السينما الصامتة في هوليوود وبداية العصر الذهبي للأفلام الغنائية.

مكث فريد في "مترو غولدوين ماير" لغاية العام 1970، لكنّه أنتج فيلمه الغنائي الأخير بعنوان "الأجراس تُقرع" (Bells Are Ringing) من بطولة جودي هوليداي ودين مارتن عام 1960. وبسببه، خسر فريد الكثير من الأموال؛ ففي عصر التلفزيون وثقافة المراهقة وإلفيس وجايمس دين، لم تعد الأفلام الموسيقية رائجة ومحبوبة كما كانت في السابق.

يا لها من ضربة مُوجعة تتلقاها شركات الأفلام الهوليوودية التي أضعفها بالفعل قرار "مناهضة الاحتكار" الصّادر عن المحكمة العليا عام 1948 والمتسبب بتداعي نظام الحجز الجماعي، ونعني به نظام منح التراخيص للأفلام بالجملة بما يفرض على دور السّينما أن تأخذ على عاتقها عرض جميع الإنتاجات دون استثناء– لا بل عرض الأفلام السّيئة لضمان عرض الأفلام الجيّدة. وبموجب القرار إيّاه، مُنعت شركات صناعة الأفلام كذلك من امتلاك دور سينما خاصة بها، وهذا ما أسهم في تقويض النّموذج الذي مهّد للعصر الذّهبي للأفلام الغنائية.

"كنتُ في ريعان شبابي – 32 عاماً - لمّا ولّى نظام الأستديو إلى غير رجعة"، يستذكر دونين. "لم يخطر ببالي يوماً أنّ الفشل قد يُصيب "مترو غولدوين ماير" أو آرثر فريد. بنظري، كانت "مترو غولدوين ماير" بالأمس جبّارة كما هي الولايات المتحدة اليوم – لم يتهيأ لي أنّ بوسع أي شيء تحطيم النظام الذي تنتمي إليه"، لكن ما حصل حقيقةً هو أنّ النظام برمّته إنهار بسهولة مفرطة.

وكان نجوم الأفلام الغنائية في هوليوود يدأبون على تعلّم صنعتهم من خلال المسرحيات الهزليّة، لكنّ هذا التّقليد المسرحي ما لبث أن تعثّر مع تغيّر العادات الترفيهية.

"تلك الحديقة لم تعد موجودة"، أخبرني دونين في مقابلة أجريتها معه في مرحلة متقدمة من مسيرته المهنية. بدا لي متشائماً جداً من قدرة الأفلام الغنائية المعاصرة على مزاحمة إنتاجات "مترو غولدوين ماير" و"وارنر براذرز" في أوجّهما، ومرد ذلك بكلّ بساطة إلى أنّ المجالات لم تعد مفتوحة أمام الراقصين والمغنين "لإتقان فنّهم".

برأي دونين، يفتقر مصمّمو الرقص وصنّاع الأفلام المعاصرون للمثالية الشعواء التي كانت تحرّك العاملين على أهم أفلام هوليوود الموسيقية. فالسهولة والخفّة اللتين تُميّزان أداء أستير الغنائي الراقص على الشاشة، لا تنفيان حقيقة كون أفلام الأمس تجارب جهنميّة مبنيّة على جهود مضنية وبروفات لا تنتهي.

"أدائي في "الغناء تحت المطر" والولادة هما أصعب إنجازات حياتي"، كتبت ديبي رينولدز التي جسّدت شخصية كاثي سيلدن في الفيلم الموسيقي الشهير، في سيرتها الذاتية بعنوان "حصينة من الغرق" (Unsinkable). "الحقيقة أنّ الفيلم كان أصعب بكثير لأنّه سبّب لي الألم في كل أنحاء جسمي، لاسيما دماغي وقدميّ"، على حدّ تعبيرها. أما جينجر روجرز، فقد اعتادت التدرّب بكثرة على المشاهد التي تجمعها بأستير. وهذا ما كان يُصيب قدميها بالنزيف ويُضرّج حذاءها من الساتين بالدماء. ومع إنتهاء كل فيلم، كانت تمزح قائلةً إنّ الوقت قد حان لتأخذ عطلة وتُمضي بعض الوقت في "نقع قدميها في الملح".

هذه الملاحظات هادفة وذات دلالة. ومن وجهة نظر بعض المراقبين المعاصرين، لا يتمتّع مؤدّو اليوم باللياقة البدنية أو الأخلاقيات العملية التي كانت تُميّز كل من أستير وروجرز وكيلي وشركائهم. ولهذا السبب وغيره من الأسباب، لا بدّ من عدم مقارنة الأفلام الغنائية اليوم بأفلام العصر الذهبي لهوليوود.

"إما أرقص أنا أو ترقص الكاميرا"، يقول التّعبير الشّهير لأستير الذي اعتاد تصوير روتينه في إطارٍ كامل وبأقل قدر ممكن من التقطيع. وفي المشهد المرح الذي يتزلّج فيه مع روجرز ويغنيا معاً "هلا نرقص" (Shall We Dance) (1937)، كان عليه اجتياز مسافة لا تقلّ عن 80 ميلاً لاستكمال التصوير. كان يعلم جيداً وروجرز أنّهما لو ارتكبا خطأً واحداً سيكون عليهما أن يُعيدا المشهد من بدايته. يُحكى أنّ أستير استهلك أكثر من ألف حذاء رقص باللون الأسود اللامع على امتداد مسيرته الفنية. "قد تبدو تحركاتي سهلة ولكنها في الحقيقة عكس ذلك تماماً. فالحصول على هذه الدرجة من الخفّة يتطلّب الكثير من الجهد"، وفقاً لأستير.

في أيامنا هذه، الكاميرا هي التي تقوم بالرقص. ولهذا السبب، يُمكن التعويل على نجوم لا يتمتعون بخلفيّة متخصصة لتأدية الأدوار الرئيسية. صحيح أنّ هؤلاء يبذلون قصارى جهدهم ليُقدّموا عرضاً جميلاً، ولكنّهم ليسوا بخبراء ويمكن للجمهور أن يلمس ذلك.

قد تبدو مهاجمة الأفلام الغنائية الحديثة من خلال مقارنتها بأخرى أُنتجت منذ سنواتٍ خلت، أمراً مثيراً للحنين بشكلٍ خاطئ أو حتى انفعالياً. ففي الوقت الذي تطوّرت فيه التقنيات والمؤثرات البصرية المستخدمة في الأفلام عمّا كانت عليه أيام "الغناء تحت المطر" لدونين وكيلي، تراجع الرقص وتصميم الرّقص بشكلٍ مثير للجدل. وعليه، يُرجّح لموسم الأفلام الغنائية الأسطورية التي تعدّه "جمعية الأفلام البريطانية" أن يُثير مشاعر متضاربة لدى بعض عشاق الأفلام، سيّما أنها تُروّج لهذه البوتقة من الأعمال السينمائية على أنها أصدق تعبير عن الفن والمثالية اللذين تفتقر إليهما أعمال اليوم، بصورةٍ جزئيّة على الأقل.

ليس الأمر وكأنّكم ستُفكرون في هذه النقطة لدى رؤيتكم جين كيلي يتبختر بسعادة بين قطرات المطر ويؤدّي أغنية "سعيد مجدداً" (Happy Again) للمرة المليون، مراقصاً مظلته تارةً وعامود الإنارة تارةً أخرى. إنها لحظة مبهجة في فيلم مبهج. وهذا المشهد بالذات مهم بشكلٍ خاص لتجسيده جانباً مهماً آخر من جوانب الروائع السينمائية الموسيقية، ألا وهو الاستمرارية والخلود. وقد لا ينطبق هذا الوصف على كلّ أنواع الأفلام سواسية، ولكنّه ينطبق حتماً على أفلام مثال "الغناء تحت المطر" الذي لا يزال متألقاً كما كان عليه في ظهوره الأول على الشّاشة، منذ أكثر من 60 عاماً.

في الثّامن عشر من أكتوبر (تشرين الأول)، يصدر فيلم "الغناء تحت المطر" في مختلف دور السّينما البريطانية كجزء من موسم الأفلام الغنائي المرتقب لـ"جمعية الأفلام البريطانية" بعنوان "أعظم استعراض في تاريخ السّينما" (The Greatest Show On Screen) الذي سيستمر لغاية يناير (كانون الثاني) 2020.

© The Independent

المزيد من فنون