Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الصحة النفسية... بوصلة النجاة وسط عواصف القرن

يعيش مليار إنسان تحت وطأة الألم النفسي... الوصمة الاجتماعية عائق وكلفة التجاهل كبيرة

الحروب بأصواتها وخسائرها تقضم الروح وتسبب تروما أبدية (بيكسلز)

ملخص

تواجه الصحة النفسية العالمية عواصف القرن، حيث يعاني أكثر من مليار شخص اضطرابات نفسية بكلفة اقتصادية تريليونية، ولكن الألم النفسي ليس وصمة، بل نتيجة حتمية لأزمات بنيوية من حروب وتهجير وتلوث كوارث تتطلب معالجة مصادرها، وليس مجرد وصف الأدوية للعوارض. لذا لا بد من دمج الصحة النفسية كحق إنساني وشرط للنجاة الجماعية.

مطرودون من كوكبنا، هكذا تشعرنا الحروب والأزمات التي تلقي بثقلها على حياتنا عاماً بعد آخر. وما إن نتنفس الصعداء بعد الضربة الأولى لننهض من جديد، تعالجنا ضربة أخرى أقسى وأكثر إيلاماً على الصعيدين المادي والمعنوي. نقاوم ضربات الدهر ونحاول التوازن والوقوف على أقدامنا، فنبلع آلامنا للاستمرار، نحاول حبسها في صندوق الذاكرة المغلق، لكنها لا تلبث أن تتسرب من الذاكرة وتطفو على السطح. إنها صحتنا النفسية المعطوبة التي نخنقها في كل مرة نمر بأزمة، أو نتجاهلها مدعين أن كل شيء على ما يرام.
لذا كان لا بد لأحد أن ينتبه أن جسدنا الذي يبدو أنه تجاوز الألم، كانت روحه تؤلمه ولا يعترف، لكنه مرض ولم يكن السبب أي ضرر في الأعضاء، فقط ذلك القلب تحمل أكثر من طاقته وتحولت نبضاته إلى أنين لا يسمعه أحد. كل الفحوصات المختبرية تؤشر إلى صحة ممتازة، فأين موقع الألم؟

من الوصمة إلى الوعي

كثيراً ما ارتبطت الحالة النفسية بالوصمة الاجتماعية، فبات الألم النفسي يواري ذاته ويتموه خوفاً من أحكام الناس من حولنا، على رغم أنهم قد يحملون أحياناً آلام نفسية أشد. فالعالم يتحدث عن أمراض الجسد، لكنه يصمت حين يمرض العقل أو ينهك القلب. وهكذا لم يولد "اليوم العالمي للصحة النفسية" من فراغ. ففي الـ10 من أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1992 بمبادرة من نائب الأمين العام لـ"الاتحاد العالمي للصحة النفسية" World Federation for Mental Health ريتشارد هانتر، أُطلق يوم خاص بالصحة النفسية بهدف كسر الصمت. واقترنت البدايات بالبث الإذاعي لمناقشة موضوعات نفسية، وبدأت الصورة تتبلور أكثر مع الوقت، وتحول إلى حركة إنسانية عابرة للقارات، تحمل شعاراً مختلفاً كل عام. من الاكتئاب إلى الانتحار ومن العزلة إلى الكرامة ومن الرعاية إلى الوقاية... وازدادت مع مرور الزمن القناعة بأن الصحة النفسية ليست ترفاً، وهي شرط أساس لاستمرار الإنسان ككائن قادر على الحب والإنتاج والتفكير الحر. فلسنوات طويلة، كانت الوصمة الاجتماعية تحكم على المرضى النفسيين بالصمت والعار، بالتالي عدم الاعتراف والعلاج. إذ كان ينظر إلى من يزور الطبيب النفسي كمن يعترف بجنونه، لكن هذه المبادرة الدولية فتحت الباب لإعادة تعريف الجنون ذاته. فالاكتئاب والقلق واضطرابات ما بعد الصدمة ليست نقيض الإنسانية، إنما جزء منها.


يوم عالمي للصحة النفسية

إذاً، صار للصحة النفسية يومها الذي تشارك في فعالياته أكثر من 150 دولة، وتقوده منظمة الصحة العالمية بالشراكة مع الاتحاد العالمي للصحة النفسية. وتحت مظلة "لا أحد ينجو وحده"، أصبحت المدارس والجامعات والمستشفيات وحتى الشركات، تتحدث في هذا اليوم عن الراحة النفسية والتعب والنوم، عن الحدود الشخصية والعزلة.
ففي صباح الـ10 من أكتوبر تُضاء تلك الشمعة الخضراء، إذا صح التعبير، في اليوم العالمي للصحة النفسية، ذلك اليوم الذي يدل على أن العالم أصبح قادراً على المجاهرة بأن اختلال الصحة النفسية ليس وصمة اجتماعية، وأسبابه هي التي تحتاج إلى المعالجة، في زمن باتت العودة إلى مصدر المشكلة ومعالجتها من أساسها أهم من وصف الأدوية للعوارض التي سببتها.
لكن نور هذه الشمعة الخجولة لا يصل إلى بقاع كثيرة من هذا الكوكب، ولا يكفي لحماية النفوس من الظلام الذي تسوده الحروب والعزلة والتهجير والعقوبات وكوابيس التغير المناخي وتغير الأنظمة في مرات كثيرة من سيئ إلى أسوأ. إذ أصبحت الصحة النفسية تشبه بوصلة البقاء، فتكشف عن أن البشر باتوا أكثر عرضة للكسر النفسي من أي وقت مضى. وفي ضجيج الأزمات لا بد من الإصغاء إلى الأثر النفسي للحروب والأزمات التي تقمع نفوس الناس وتحكم عليهم بالصمت أو الانهيار أو التشتت.

أكثر من مليار شخص

أعلنت منظمة الصحة العالمية (WHO) في تقريرها الأخير الذي نشر في سبتمبر (أيلول) 2025 أن أكثر من مليار إنسان في العالم يعاني اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب أو القلق، وهي أرقام لم تشهدها الحروب الكبرى من قبل. وأصبحت اضطرابات الصحة النفسية ثاني أكبر سبب للعجز على مستوى العالم، وتكلفة تجاهلها تتضاعف مع الزمن، إذ تبلغ كلفة القلق والاكتئاب وحدهما نحو تريليون دولار أميركي سنوياً على الاقتصاد العالمي، في صورة خسائر إنتاجية.
وذكر التقرير أن الاضطرابات النفسية تشكل ثاني أكبر سبب للإعاقة طويلة الأمد والمساهمة في فقدان سنوات الحياة الصحية. كما أدت إلى موت ما يقدر بنحو 727 ألف شخص انتحاراً عام 2021، وهو رقم مقلق جداً.
كما أكدت منظمة الصحة على ضرورة إعادة بناء البنى الاجتماعية لتشمل الصحة النفسية لمعالجة الأعراض، إذ إن متوسط الإنفاق الحكومي على الصحة النفسية لا يزال عند اثنين في المئة فقط من إجمال الموازنات الصحية، وهو لم يتغير منذ عام 2017.
وبالطبع فإن نقص الرعاية كان مرعباً في البلدان منخفضة الدخل، حيث يتلقى أقل من 10 في المئة من الأفراد المتأثرين الرعاية اللازمة، مقارنة بأكثر من 50 في المئة في البلدان ذات الدخل المرتفع، إضافة إلى جمود الاستثمار الذي وقف عند حدود اثنين في المئة من موازنات الصحة الإجمالية، وحيث الإنفاق يصل إلى 65 دولاراً للفرد في البلدان الغنية مقابل 0.04 دولار في البلدان الفقيرة، تلك الدول التي ترزح أكثر تحت ثقل الحروب والتهجير وتفاجئها الحياة كل يوم بأزمة جديدة، إما سياسية أو اقتصادية أو صحية. وتطرق التقرير إلى التحديات المتمثلة في بطء التحول القانوني، حيث لا تزال بلدان قليلة تعتمد أو تطبق تشريعات قائمة على الحقوق للصحة النفسية.

أزمات واعتلالات بالجملة

ما إن نقلب صفحة الأزمات الذي يحتضنها هذا الكوكب، حتى نرى أن كل أزمة، سواء سياسية أو بيئية أو اجتماعية أو اقتصادية، تترك ندوبها العميقة في نفوس الأجيال. من أكثر الاعتلالات التي تنشأ عن الأزمات هي الاضطرابات النفسية، كاضطرابات القلق (Anxiety)، وهي الأكثر شيوعاً بين الرجال والنساء. والاضطرابات الاكتئابية (Depression) التي تكلف مع القلق ما يقدر بتريليون دولار أميركي سنوياً في صورة خسائر إنتاجية. وإضافة إلى الاضطرابات السريرية، تزيد عوامل أخرى من سوء الحالة النفسية وتؤثر في الصحة النفسية العالمية، كالانتحار وهو نتيجة مدمرة لهذه الاضطرابات.
وفي حين يعد القلق والاكتئاب الأكثر انتشاراً، إلا أن حالات الطوارئ والأزمات هي البيئات التي تتطلب الدعم النفسي الفوري والمكثف، إذ ذكر تقرير منظمة الصحة العالمية أن أكثر من 80 في المئة من البلدان تقدم الآن دعماً نفسياً واجتماعياً كجزء من الاستجابة لحالات الطوارئ، مما يشير إلى أن الأزمات، مثل الكوارث الطبيعية أو الصراعات أو الأوبئة، هي محفز رئيس لتردي الصحة النفسية.


الحروب وتفجير اللاوعي

عام 2020 عندما انفجر مرفأ بيروت، كان جيل من اللبنانيين يستطيع القول إنه لا يعرف الحرب، وجيل أكبر ما زال يضمد جراح الحرب وينظف آذانه بالموسيقى وأصوات الطبيعة قدر المستطاع، ولكن ذلك الصوت الذي رافق الانفجار كشف الضماد عن جرح ما زال ينزف، إنها ذاكرة الحرب الملعونة التي كانت قد أقفلت الصندوق على ذكريات الحرب المؤلمة. بات صوت تسكير الباب مرعباً وصوت الرعد يوقظ كل أصوات القصف القابعة في الشرايين، لم ينجُ أحد ممن كمم صوت الحرب في داخله من دون أن يعالج تبعاته على صحته النفسية. يومها ظهرت جمعيات عدة تطلب من الناس المتضررين والخائفين ألا يخفون اضطراباتهم وقلقهم، وفتحت الخطوط الساخنة للاتصالات مع متخصصين يحملون مع الناس عبء النفسية المدمرة. إلى أن أتت الحرب العام الماضي لتعود وتهجر الناس وتدمر بيوتهم وذكرياتهم، وليفقد جزء من اللبنانيين عيونهم وأيديهم في تفجيرات "البيجر"، ولينال الأطفال الذين ظننا أنهم سيكبرون من دون أصوات الدمار قسطهم من الخوف والرعب وأصوات الحرب. فعندما تسقط القنابل على المدينة، لا تدمر البيوت فحسب، إنما تسقط أمن النفوس، وتتركها في فراغ مرعب.
في ساحة القتال السمعية والبصرية، تشن حرب أكثر ضراوة في الصامت. إنها داخل العقول والقلوب. فبينما تنهار الجدران وتطير الأنقاض، تتشظى النفس خلف الجسد. ففي مناطق النزاع يرتفع العبء النفسي بصورة كبيرة. وتقدر أبحاث مدعومة من منظمة الصحة العالمية أن نحو 22 في المئة من السكان قد يعانون اضطراباً نفسياً، وترتفع النسب مع شدة وطول العنف والنزوح. وقد يكون ما يطالعنا على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لما يمر به الغزاويون خير دليل. فهم عاشوا في ظل إبادة وتجويع منذ عامين، مترافقة كلها مع التلوث السمعي من أصوات المسيرات والطائرات الحربية والقصف والقنابل والغارات، وتلوث بصري من مشاهد الدمار والدم والأشلاء، إضافة إلى الخوف والفقد اليومي وعدم القدرة حتى على الحداد لفقدان الأهل والأولاد، إذ إن حتى ترف عيش الحداد غير متاح، كون الجثث تتراكم في الذاكرة لتطمر جثثاً أخرى رحلت قبل يوم أو أيام... هذه الـ"تروما" (الصدمة) غير المعيشة بالكامل لا بد أننا سنشهد أيامهم القادمة بعد انتهاء الحرب. وتعتبر منظمة الصحة العالمية أن التأثيرات الأوسع تتجلى في اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، والاكتئاب، والقلق، والحداد المركب، وإيذاء الذات أو الانتحار، وازدياد العنف الأسري، وتعاطي المواد المخدرة، و"الإصابة الأخلاقية" لدى العاملين والناجين، وتفاقم أمراض جسدية عبر مسارات التوتر السام، مع انهيار خدمات الصحة النفسية. إذ كلما تهدمت البنية الصحية وتقطعت الإمدادات وتفاقم انعدام الأمن الغذائي، زادت شدة الأعراض النفسية وطالت. فالأعراض هذه تتفاقم مع التعرض المتكرر للصدمة من القصف والقتل والمشاهد القاسية، والنزوح وفقدان المسكن والدخل وما يصاحبه من فقدان السيطرة والمعنى، وانهيار شبكات التعليم والرعاية، وانعدام الأمن الغذائي والمائي، وكلها عوامل ترفع القابلية البيولوجية والنفسية للاضطراب. وأشارت تقارير أممية إلى احتياج شبه شامل للدعم النفسي للأطفال في غزة، بسبب انفصال أو فقدان واسع، وقد قدرته "اليونيسيف" (منظمة الأمم المتحدة للطفولة) بعشرات الآلاف من الأطفال المنفصلين، إضافة إلى انهيار شديد في المنظومة الصحية وما يتبع ذلك من فجوة ضخمة في خدمات الصحة النفسية. كما وثق مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مستويات غير مسبوقة من النزوح واسع النطاق وتكرار الانتقال القسري، مما يرسخ الصدمة ويحرم الناس من الاستقرار الضروري للتعافي. وتقدر منظمة الصحة العالمية وشركاؤها أن الحاجة إلى الدعم النفسي الاجتماعي ارتفعت بصورة حادة مع تزايد الإصابات والوفيات وتعطل مرافق العلاج.
فالصحة النفسية في الحروب ليست أثراً جانبياً، إنها محور النجاة الجماعية، ومن دون حلول حقيقية وميدانية متدرجة لن يكون هناك تعافٍ حقيقي، لا الآن ولا للجيل التالي.

اللاجئون يحملون معهم أوطانهم الحزينة

تمنى بعض السوريين الذين كانوا بانتظار تأشيرة، إما لم الشمل أو الهجرة، ومنهم من درس لغة البلد المستضيف. تمنوا لو استمرت الحرب قليلاً للهرب بحقيبة الألم وعدم الأمل التي حملوها منذ بدأت الأزمة السورية عام 2011. تكفي هذه الحقيقة لمعرفة أي كآبة يعانيها المواطنون في بلدان تحكمها الحروب ولا تطمئنها الأنظمة الجديدة. فالذاكرة مثقلة بالخيبة، وفسحة الأمل المفترضة ما زالت تطعنهم هنا وهناك. وعلى المقلب الآخر، اللاجئون، أولئك الذين سمح لهم البحر بعبوره، ووصلوا بعدما تجرعوا الموت مراراً إلى شواطئ أخرى، بعضها حملت عليهم سياط العنصرية، وأخرى رحبت بهم لتسد رمقها وتوقها لجيل شاب ويد عاملة. كما أن صدمة اللجوء لا تنتهي بالوصول إلى البلد المستضيف، بل قد تستمر بتجربة رفض اللجوء، وصعوبات الاندماج، والاغتراب النفسي. ويجمعهم كلهم ذلك الشوق إلى الوطن إلى أماكنهم التي يعرفونها، تلك الأماكن التي لفظتهم، يشعرون بالذنب لأنهم تركوا وراءهم عائلات وأصدقاءً وجيراناً وزملاءً نجوا، أو ربما نجوا، ويخافون كل لحظة عليهم، يعيشون الاكتئاب والقلق، ويعانون اضطرابات ما بعد الصدمة. أما الأطفال الذين ينشأون في مخيمات النزوح يواجهون صدمات مركبة. من فقدان الاستقرار، ونقص الدعم النفسي، والتعليم المتقطع.

في كتاب Out of Exile: Narratives from the Abducted and Displaced People of Sudan (خارج المنفى: روايات من المختطفين والنازحين في السودان) من سلسلة Voice of Witness (صوت الشاهد) صدر عام 2023، وحرره كريغ والزر، قصص من أشخاص مخطوفين ونازحين قسراً من السودان، ويسلط الضوء على الآثار النفسية والاجتماعية التي يعانون منها كالصدمة المعقدة، وهي الصدمات التي تعرض لها الأفراد قبل وأثناء وبعد النزوح، والتي تشمل رؤية العنف والاضطهاد وفقدان الأحباء والاحتجاز. وتؤدي إلى معدلات مرتفعة من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) والاكتئاب والقلق.
ويشير الكتاب إلى أن المشكلات النفسية لا تنتهي بمجرد الوصول إلى بلد اللجوء، بل تتفاقم بسبب الضغوط المزمنة، مثل عدم اليقين في شأن المستقبل، بخاصة بما يتعلق بالوضع القانوني وتهديدات الترحيل. والعزلة الاجتماعية التي تتجلى بفقدان الروابط الأسرية والمجتمعية التي كانت تمثل شبكة دعم لهم في السابق، إضافة إلى الفشل في تلبية الحاجات الأساسية وعدم توفر الأمن والسكن الملائم والعمل. هذا وتعد تحديات الهوية الثقافية والتكيف كإعادة بناء الهوية والتكيف في ثقافة جديدة أمراً صعباً جداً، حيث يواجه اللاجئون تحديات في الحفاظ على تراثهم الثقافي وسط ضغوط الاندماج، مما يؤثر في شعورهم بالذات وقيمتهم. وتأتي وصمة العار وحواجز الرعاية لتحكي قصة الصعوبات التي يواجهونها في طلب المساعدة النفسية بسبب العوائق الثقافية واللغوية، وتظهر في صعوبة توصيل الأعراض إلى مقدمي الرعاية في البلد المستضيف. ووصمة العار المجتمعية، حيث ينظر البعض في مجتمعات اللاجئين إلى الاضطرابات النفسية على أنها ضعف أو جنون، مما يمنعهم من طلب العلاج، مما يؤكد أن الصحة النفسية للاجئين هي نتيجة تراكمية للتجارب المؤلمة قبل اللجوء، والضغوط المستمرة التي يواجهونها في المنفى.

صعود اليمين وإغلاق الأبواب

وفي سياق مُوازٍ، يشكل صعود حركات أقصى اليمين حول العالم، وما يصاحبه من خطاب معاد للهجرة والأقليات والشمولية، ضغطاً نفسياً واجتماعياً متزايداً، لا سيما على المجموعات المستهدفة والمجتمعات المهمشة. عندما يركز سياسيو أقصى اليمين على الأمن القومي ويغلقون الأبواب في وجه اللاجئين، فإنهم لا يقتلون الجسد أو يعرضون النفوس للخطر فحسب، إنما يسدون منفذ الأمل النفسي لكل إنسان يحلم بأن يلجأ إلى مأوى وينتمي إليه. يتجاوز هذا التأثير مجرد القلق العام ليصبح عاملاً محدداً اجتماعياً وصحياً يؤثر مباشرة على الرفاه النفسي. هذا الشعور بالرفض يولد الكراهية الداخلية، ويشعر اللاجئ بتدني الذات ويدفعه إلى الانكفاء الاجتماعي. وتشجع سياسات الخوف هذه على قمع الآخر من ناحية، وكبت التعاطف معه، مما يتردد صداه في علاقات الأفراد داخل المجتمع ومع المجتمع المستضيف.
ويعد الخطاب الذي يروج للكراهية والتمييز سبباً جذرياً لزيادة حال من الضغط المزمن ناتجة من التحيز والاستهداف الشخصي والاجتماعي بما يسمى الإجهاد الأقلوي. وبالنسبة إلى لاجئين والمهاجرين والأقليات العرقية والجندرية، يؤدي تزايد هذا النوع من الخطاب المتطرف إلى خلق بيئة من انعدام الأمان الوجودي، حيث يشعر الأفراد بأن حقوقهم ووجودهم ذاته مهددان بالتقويض أو الإلغاء. وتشير الدراسات إلى ارتفاع أعراض القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) بين الأقليات بسبب التعرض المتكرر للمضايقات أو العنف اللفظي وصولاً إلى مجرد الخوف من تطبيق سياسات تمييزية وأبرزها الترحيل. كما تعمل الأجندات اليمينية المتطرفة على تقسيم المجتمعات، مما يزيد من شعور الأفراد المستهدفين بالوحدة، فيقلل من شبكات الدعم الاجتماعي، وهو عامل حماية أساس ضد تدهور الصحة النفسية لديهم.
كما قد يؤدي التركيز السياسي على قضايا الهوية إلى تحويل الموارد بعيداً من برامج الصحة العامة والشمولية النفسية، وقد تصبح أنظمة الرعاية الصحية أقل ترحيباً وبحواجز أكثر أمام الأقليات والمهاجرين. ويسبب هذا الإقصاء تفاقماً في المشكلات النفسية الموجودة أصلاً ويخلق مشكلات نفسية جديدة، لذا لا بد من العاملين في مجال الصحة النفسية تبني نهج شامل ومراعي للعدالة الاجتماعية لفهم وعلاج الصدمات المرتبطة بالتمييز.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

السلطة تكتم كتابة الألم

في الدول التي تهيمن حكوماتها على موارد البلاد، وتكتم الأفواه المعارضة، يصبح التعبير عن حق ما، أو المطالبة بالحرية بمثابة المعارضة التي تسبغ عليها كل صور التخوين، من الارتهان للخارج أو المساعدة في تفكيك نظام الحكم. سياسات الهيمنة هذه تميل إلى تقليص المساحات التي يمكن أن يعبر فيها البشر عن حريتهم. وتستخدم الصحة النفسية في أحيان كثيرة كأداة سياسية تشوه آراء المعارضين على أنها "اضطرابات"، وتقدم الحلول النفسية بمعزل عن الأسباب البنيوية التي سببت المرض.
ويرتبط تقييد الحرية السياسية والاجتماعية ارتباطاً وثيقاً بسوء الصحة النفسية. فحرمان الفرد من حقه في التعبير والمشاركة يخلق شعوراً بالعجز واليأس المنهجي. هذا "الإخراس" أو التكميم يعوق عملية معالجة الصدمات الفردية والجماعية، إذ يجبر الأفراد على استيعاب الألم والمعاناة بدلاً من إخراجها ومشاركتها، مما يزيد من خطر الإصابة بالاكتئاب الكامن واضطرابات القلق المزمن.
وفي الأنظمة القمعية، يستخدم التشخيص النفسي كأداة لإسكات المعارضين السياسيين أو النشطاء، حيث تصور مطالباتهم بالإصلاح على أنها نتاج لـ"اضطراب" نفسي كالذهان أو البارانويا. هذا التكتيك يشوه سمعة المعارض ويجرد المعاناة من سياقها الاجتماعي والسياسي، محولاً المشكلة من فشل هيكلي في النظام إلى قصور فردي.
ويؤدي التضليل وغياب الحقيقة الرسمية إلى شعور عام بالارتباك وانعدام الثقة في المؤسسات، فيضطر الأفراد إلى عيش حياة مزدوجة، واحدة عامة تخضع للرقابة، وأخرى خاصة وصادقة، وهذا يسبب إجهاداً إدراكياً ونفسياً هائلاً، ويزيد من مشاعر العزلة والشعور بالوحدة الوجودية المشابهة لتفكك الروابط الاجتماعية الذي يسببه أقصى اليمين، لكن هنا يكون مصدر الانقسام هو الخوف من السلطة نفسها.


القلق البيئي

يتغير كوكبنا بمناخه، ويشعل الاحتباس الحراري الخوف في القلوب. ويربط تقرير "Geo-Psychiatry" عام 2017 بين الهجرة المناخية والصحة النفسية، معتبراً أن البيئة ليست خلفية فحسب، إنما عامل فاعل في بناء الألم أو شفائه. وهكذا يؤثر التغير المناخي على الصحة النفسية من خلال مسارين رئيسين، كما تذكر دراسة أجريت عام 2017 تحت عنوان Mental health and our changing climate: Impacts, implications, and guidance. (الصحة العقلية وتغير المناخ: التأثيرات والتداعيات والإرشادات)، تتجلى الأولى بالآثار الحادة والمباشرة التي تنجم عن التعرض المباشر للكوارث الطبيعية الشديدة، مثل الأعاصير والفيضانات وموجات الحر وحرائق الغابات وسواها. فالناجون من الأعاصير المدمرة أو حرائق الغابات الكبرى يعانون معدلات مرتفعة من اضطراب ما بعد الصدمة، والاضطرابات الاكتئابية، وسوء استخدام المواد لفترات طويلة بعد وقوع الكارثة، ويرتبط هذا بفقدان المنازل والممتلكات والشعور بالعجز أمام قوى الطبيعة المدمرة.
أما الثانية فهي الآثار المزمنة وغير المباشر، وتنشأ عن التدهور البيئي التدريجي وعدم اليقين في شأن المستقبل. فالقلق البيئي والحزن البيئي يعبران عن الشعور بالقلق العميق أو الحزن لفقدان البيئات الطبيعية، والتخوف من مستقبل كوكب الأرض. وينتشر خاصة بين الشباب والمهتمين بالبيئة والعلماء والمزارعين الذين يرون التغيرات تضرب سبل عيشهم.
كما يؤدي الجفاف الطويل أو ارتفاع منسوب البحار إلى النزوح المناخي، مما يفرض ضغوطاً نفسية مماثلة لتلك التي يعانيها اللاجئون السياسيون، بما في ذلك فقدان الهوية المجتمعية والثقافية والشعور الدائم بعدم الاستقرار. وقد وثقت الدراسات التي أجريت في المناطق الزراعية المتضررة من الجفاف ارتفاعاً في حالات الانتحار المرتبطة بالفشل المتكرر للمحاصيل. ورصدت دراسات عدة أن الكوارث الطبيعية تزيد معدلات الاكتئاب والقلق في المناطق المتضررة، وتتجاوزها إلى من يراقب الكارثة من بعد أيضاً. كما وجدت الدراسة ذاتها أن ارتفاع كل درجة مئوية في الحرارة يصاحبه زيادة في معدلات الاستشارات النفسية، كونها تزيد من اضطرابات المزاج والقلق والاكتئاب. ويعتقد الباحثون أن هذه العلاقة قد تكون ناتجة من التغيرات البيولوجية التي يسببها الإجهاد الحراري مثل التأثير في مستويات السيروتونين، إضافة إلى زيادة الضغط الاجتماعي والاقتصادي الناتج من فقدان الإنتاجية. ويمكن أن يؤثر الإجهاد الحراري على وظائف الدماغ، وتنظيم المزاج والتحكم في الاندفاعات العاطفية، مما يجعل الأفراد أكثر عرضة للتوتر والغضب. كما أن الحرارة الشديدة تؤدي إلى اضطراب النوم، وزيادة العزلة الاجتماعية بسبب البقاء في الداخل غالباً، وتفاقم الضغوط الاقتصادية على الأفراد الذين يعملون في الهواء الطلق، مما يزيد من العبء النفسي العام.
في يوم الصحة العالمي لا بد من عدم فصل معاناة الأفراد عن الظروف التي قدمتهم على مذابح الأزمات، وطلبت منهم ربما مداواة الجروح الظاهرة متناسية تلك التي أشعلت كيانهم من الداخل. لا بد من التذكير بضرورة دمج الصحة النفسية في كل نواحي الحياة، ووضع موازنات كافية على اعتبار صادق بأن الصحة النفسية حق إنساني، وليست رفاهية. فعندما نضيء الشموع في العتمة، يصبح الليل أقل وحشة. وعندما يسمح للبكاء أن يعلن وجوده، يصبح تكفيفه واجباً عالمياً في مواجهة الظلم والحروب والأزمات.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات