حضور دبلوماسي ناعم مغلف بدهاء سياسي واستراتيجي يعمل على تعزيز النفوذ الاقتصادي الصيني كشريك فعلي في ليبيا الغنية بالموارد النفطية والمنجمية، إذ تحتل ليبيا مراتب متقدمة على مستوى احتياطات النفط، وتصنف في المرتبة الأولى أفريقياً، والخامسة عربياً، والتاسعة عالمياً، باحتياط يقترب من 48.36 مليار برميل نفط، إضافة إلى احتياطات ضخمة في النفط الصخري مما يؤهلها لتكون لاعباً مهماً في أسواق الطاقة العالمية لآسيا بعد الحرب الأوكرانية - الروسية والتهديدات التي خلفتها لأوروبا على مستوى التزود بالطاقة.
وتعد ليبيا نقطة وصل بين القارة السمراء والقارة العجوز، إذ تفصل بين طبرق الليبية وجنوب أوروبا قرابة 400 كيلومتر فحسب، وكل هذه العوامل حفزت بكين على العودة إلى ليبيا تحت غطاء إعادة الإعمار عبر مشاريع مختلفة.
ويأتي تحرك الصين داخل ليبيا عبر إعادة تفعيل حضورها الدبلوماسي، إذ أعادت افتتاح سفارتها نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بالعاصمة طرابلس، ثم عملت على التوجه نحو الشرق الليبي، وتقدمت لمعسكر الرجمة بمشاريع عدة على غرار مترو أنفاق يربط مدن الشرق الليبي بمصر، وعرضت أيضاً إنشاء مصفاة نفطية وتوسيع مطار طبرق.
نافذة استراتيجية نادرة
تحركات بكين اعتبرها المحلل السياسي إبراهيم لاصيفر "أنها مغلفة بالجانب الاقتصادي لكن باطنها يعمل على خدمة الأهداف التوسعية للسياسة الخارجية الصينية، فليبيا تأتي على رأس أهداف بكين كمنصة لربط آسيا وأفريقيا وأوروبا"، مضيفاً "الصين بتركيزها على مدينة طبرق الساحلية القريبة من جنوب أوروبا حيث تتمركز قوات (الناتو)، تكون قد أفصحت عن أهدافها ومجال تحركها في ليبيا الذي يأتي ضمن إطار استراتيجي طويل الأمد يتجاوز منطق الاستثمار الاقتصادي التقليدي، ويتصل مباشرة بإعادة تشكيل خرائط الطاقة والتجارة العالمية في مرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية - الروسية".
ويعتبر لاصيفر، أن الاهتمام المتزايد بمدينة طبرق "لا يعكس رغبة ظرفية في توسيع النفوذ، بل يمثل جزءاً من تصور جيوسياسي متكامل ترى فيه بكين أن شرق ليبيا يمكن أن يتحول إلى عقدة مركزية تربط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، في لحظة يتراجع فيها اليقين حول أمن الإمدادات الأوروبية واستقرار خطوط الطاقة التقليدية".
وتابع المتخصص في الشؤون الليبية، "أن التحول الأوروبي نحو تقليص الاعتماد على الغاز الروسي فتح نافذة استراتيجية نادرة أمام لاعبين دوليين جدد، والصين تدرك أن البدائل القريبة جغرافياً والأقل كلفة سياسياً ستكون الأكثر جاذبية على المدى المتوسط، وفي هذا السياق تبرز طبرق بوصفها منصة مثالية لإعادة توجيه النفط الليبي، ليس فقط كمصدر خام، بل كجزء من سلسلة متكاملة تشمل التكرير والتخزين والتصدير، بما يمنح بكين نفوذاً غير مباشر داخل الأسواق الأوروبية من دون الحاجة إلى مواجهة سياسية مباشرة مع الاتحاد الأوروبي".
وتتميز مدينة طبرق بميناء طبيعي يضم أعمق نقطة تبلغ 35 متراً في الخليج، مما يجعله موقعاً استراتيجياً للسفن الكبيرة، رغم أن الموانئ الأخرى قد تكون أعمق في بعض الأرصفة الخاصة بالنفط، وتبعد 130 كيلومتراً فقط عن الحدود المصرية في وقت تفصلها 400 كيلومتر عن الحدود البحرية الجنوبية الأوروبية، وكانت محور تسابق في الحرب العالمية الثانية باعتبارها كانت تشكل نقطة إمدادات للتقدم تجاه مصر.
ولاحظ لاصيفر أن استئناف الشراكة الاقتصادية الصينية مع ليبيا بعد أكثر من عقد من التجميد، وتوقيع اتفاقات تعاون مع صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا في الشرق، "يعكسان اختياراً محسوباً لبيئة سياسية أكثر قابلية للضبط والتنفيذ، فالصين، بحكم تجربتها الدولية، تفضل التعامل مع سلطات قادرة على فرض القرار وتنفيذ المشاريع من دون عراقيل بيروقراطية أو انقسامات مؤسسية، مما يوفره واقع الشرق مقارنة بالمشهد المعقد في الغرب الليبي، فهذا النمط من الشراكات يعزز ترسيخ نفوذ تدريجي، يبدأ بالبنية التحتية وينتهي بتأثير سياسي واقتصادي طويل الأمد".
وأكد لاصيفر أنه ضمن هذا المسار يشكل مقترح توسيع مطار طبرق عنصراً مفصلياً في الرؤية الصينية، "فالمطارات في الحسابات الاستراتيجية ليست مجرد مرافق مدنية، بل أصول متعددة الاستخدامات تتيح قدرات لوجيستية واستخباراتية عند الحاجة، ومع غياب إعلان رسمي عن أبعاد عسكرية، فإن القيمة الحقيقية للمشروع تكمن في توفير نقطة ارتكاز متقدمة شرق المتوسط، قادرة على خدمة حركة التجارة والطاقة، وتوفير عمق استراتيجي لأي حضور صيني مستقبلي في شمال أفريقيا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"الحزام والطريق"
أمّا مشروع إنشاء مصفاة نفط في طبرق فيؤشر إلى انتقال الصين من مرحلة الشريك التجاري إلى مرحلة الشريك المسيطر على حلقات أساسية في سلسلة القيمة النفطية، هذا التحول يمنحها قدرة على التأثير في توقيت وكميات التصدير، ويجعل النفط الليبي جزءاً من معادلة أمن الطاقة الصينية والأوروبية في آن.
وعلى المدى البعيد بين لاصيفر "أن هذا الأمر يعزز من ارتباط ليبيا بالاقتصاد الصيني، ويحد من هامش المناورة أمام أي حكومات ليبية مستقبلية تسعى إلى إعادة توجيه شراكاتها"، مشيراً إلى أن هذا التصور يكتمل بمشاريع السكك الحديد السريعة التي يتداول ربطها بين شرق ليبيا ومصر، "بما يخلق ممراً برياً فاعلاً لنقل السلع والطاقة، ويدرج ليبيا فعلياً ضمن شبكة الحزام والطريق، حتى من دون إعلان رسمي، وهذا الربط البري، مقرون بالموانئ والمطارات، يحول شرق ليبيا إلى منصة لوجيستية إقليمية، ويعيد تعريف دورها من دولة عبور هامشية إلى مركز تجاري محوري".
ونوه أيضاً بأن الصين تتحرك في الإطار الدولي الأوسع، "وهي تدرك حدود القوة الأميركية في المشهد الليبي، كما تعي جيداً حساسية أوروبا تجاه أي حضور صيني مباشر في فضائها القريب، لذلك تعتمد بكين على استراتيجية التقدم الهادئ، مستندة إلى التوازن الذي توفره شراكتها مع روسيا الحاضرة سياسياً وأمنياً في الشرق الليبي. هذا التداخل الصيني - الروسي لا يعني تطابقاً كاملاً في الأهداف، لكنه يوفر مظلة توازن تسمح للصين بتثبيت موطئ قدمها من دون الدخول في مواجهة مفتوحة مع الغرب".
وأضاف أنه وفقاً لهذه المعطيات "يتجه شرق ليبيا ليصبح ساحة اختبار لنموذج النفوذ الصيني القائم على الاستثمار، والبنية التحتية، وربط الأسواق الدولية بعضها ببعض، بدل التدخل العسكري المباشر"، محذراً من أن هذا النموذج، إذا استمر من دون وجود رؤية ليبية وطنية جامعة، سيعيد إنتاج نمط التبعية الاقتصادية طويلة الأمد، ويحول الموقع الجغرافي الليبي من فرصة تفاوضية إلى عنصر جذب لمشاريع خارجية تحدد أولويات البلاد بالنيابة عنها.
ورجح لاصيفر أن يتعمق الحضور الصيني في طبرق تدريجاً على المدى المتوسط وأن تتكامل المشاريع المقترحة ضمن منظومة واحدة تخدم التجارة والطاقة، مع بقاء الدور السياسي في الظل، أما على المدى البعيد، فإن استمرار هذا المسار من دون ضوابط سيؤدي إلى إعادة تموضع ليبيا داخل خريطة النفوذ الدولي، بوصفها حلقة مركزية في ممرات الطاقة العالمية، لكن من دون ضمان أن تكون صاحبة القرار في كيفية إدارة هذا الدور أو الاستفادة منه، وقال إن "المعطيات الحالية تشير إلى إقبال ليبيا على مرحلة يصبح فيها الصراع أقل عسكرية وأكثر جيوسياسية واقتصادية. وطبرق قد تتحول إلى نقطة ارتكاز دولية كبرى، غير أن تحويل هذا الأمر إلى مكسب وطني حقيقي يظل مرهوناً بقدرة الليبيين على بناء مؤسسات موحدة ورؤية سيادية واضحة، قادرة على إدارة الشراكات الدولية من موقع الندية، لا من موقع الحاجة والفراغ السياسي".
تنافس صيني - أميركي
من ناحيته، رأى المتخصص المصري بالشؤون الأفريقية محمد كريم "أنه يمكن فهم اهتمام الصين بطبرق الليبية على أنه يأتي في حدود التنافس، وليس الصراع الصيني - الأميركي في القارة الأفريقية منذ إطلاق عملية شنغهاي عام 1974، التي توصل البلدان بمقتضاها لتفاهمات في سياساتهما الخارجية وملفاتهما المختلفة من بينها أفريقيا، وبصورة محددة تبرز حقيقة تجاور المصالح الصينية والأميركية في كثير من النقاط الساخنة، سياسياً واقتصادياً وجيوسياسياً في ليبيا، وفي ملفات أخرى عالقة في أفريقيا، مثل جيبوتي وأنغولا والكونغو الديمقراطية، وراهناً في إقليم الساحل وأطرافه، على نحو يعكس استمرار وجود مستويين من التنافس الصيني - الأميركي في أفريقيا".
وأضاف كريم "ظاهرياً يمكن وصف هذا الأمر بالتنافس، وربما بالصراع بخاصة في أجندة الرئيس الأميركي دونالد ترمب التي تميل لطروحات صدامية وشعارات شعبوية تزيد من قوته التفاوضية لاحقاً، أما ضمنياً فهو وجود تفاهمات عملية بين البلدين في تقاسم المصالح والنفوذ والنهب في القارة الأفريقية".
وتوقع المتخصص في الشؤون الأفريقية أن يتم هذا السيناريو نفسه في ليبيا، "ففرص الاستثمار هائلة أمام الشركات الصينية"، مؤكداً أيضاً أن انفتاح الصين على حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، منذ نوفمبر الماضي، يشكّل فرصة كبيرة أمام بكين لتعميق استثماراتها ومشروعاتها الطاقوية في البحر المتوسط انطلاقاً من السواحل الليبية.
وتابع كريم أنه على رغم ما يراه مراقبون من تعقيد الصين للمشهد، المعقد أصلاً في البحر المتوسط بين الولايات المتحدة وروسيا وتركيا والاتحاد الأوروبي بدرجات متفاوتة، "فإن نهج الصين التقليدي بالاستثمار من دون شروط سياسية لا يتعارض جذرياً مع المصالح الأميركية في البحر المتوسط وفي ليبيا على وجه التحديد، بل إن التجارب أثبتت إمكان تحقق نوع من التفاهم الصيني - الأميركي في الملف الليبي".
ويعتبر المتخصص المصري بالشؤون الأفريقية أن هذا السيناريو يزيد من حرص الصين على تعزيز صورتها على أنها شريك للجميع، "وأنها تهتم بإنجاز المشروعات أكثر من الوقوع في فخ تحالفات عسكرية، ما يتضح في تمدد مشروعات الاستثمارات الصينية من مصراتة في وسط البلاد على غربها وإلى طبرق شرقها".