ملخص
شخصيات مثل طه حسين وأم كلثوم وسعاد حسني وعبدالحليم والسادات وعبدالناصر وقاسم أمين وإسماعيل ياسين، جسدت على الشاشة، وكان الجمهور بالمرصاد للنجوم الذين تصدوا لهذه المهمة الثقيلة التي باتت مصدراً للرعب، فيحاكم المشاهد الفنان بقسوة ويطلق نيرانه إذا حدثت أية هفوة، ليس انحيازاً إلى الرؤية الفنية ولكن بسبب ولائه الكبير للشخصيات التاريخية البارزة، فكيف تحولت دراما تجسيد شخصيات المشاهير إلى مصدر إزعاج دائم ومخيف، فلا يقربها سوى المغامرين
يرى بعضهم أن تجسيد السيرة الذاتية في عمل فني بالنسبة إلى الممثل الاختبار الأكبر للموهبة وذروة النضج والتقمص، إذ ينجح كثرٌ من مقدمي الـ"اسكتشات" في استحضار مظهر وطريقة شخصية شهيرة ما بطريقة مبهرة، لكن الممثل النابه فقط هو من يمكنه أن يقنع المتلقي بهذا التشخيص من خلال الإيماءات والنظرات ونبرة الصوت واللفتات، من دون الاعتماد على الإمساك بها خلال دقائق من زواياها الكاريكاتيرية فقط.
وعليه، يصبح اتخاذ قرار بالإقدام على فيلم أو مسلسل يتصدى لشخصية تاريخية ما مغامرة مكتملة الأركان وتحدياً كبيراً بالنسبة إلى الفنان لأنه يعلم أنه سيحاسب بصورة مضاعفة، وسيحمل على الأعناق إذا ما نال أداؤه إعجاب الجماهير، وسوف يظل يواجه اللعنات لأعوام إذا حدث العكس.
والمخيف أن الجمهور لن يهتم فقط بالقدرة على تلبس الدور، إنما أيضاً مدى رضاه عن الصورة التي تظهر بها الشخصية التاريخية، ولا سيما إن كانت محبوبة، إذ إن الشريحة الأكبر من المتابعين ترغب في سيرة شامخة ناصعة البياض بلا ضعف إنساني، مما يضيف عبئاً أكبر على أصحاب أي مشروع باحث عن الحقيقة والصدق الفني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أرشيف السينما العالمية مليء بدراما السير الذاتية لساسة وفنانين وخارجين عن القانون، لكن المؤكد أن الصناعة هناك خرجت من فكرة تقديس الأشخاص، ولهذا من الطبيعي أن يظهر النجم ذو الجماهيرية الجارفة على الشاشة وهو يرتكب أخطاءً ما دام أن هناك روايات تدعمها، ومن الطبيعي أيضاً أن يظهر قطاع الطرق في مواضع كثيرة ينتهجون سلوكاً يكسبهم التعاطف، فضلاً عن بعض الأعمال التي تعتمد الفانتازيا التامة والتصورات التي لا تستند إلى أساس قوي، لمجرد أن صناعها قرروا تقديم نزهة خيالية عن حياة شخص معروف وفق رؤيتهم، وهذه الآفاق المتسعة لتقديم السير الذاتية أسهمت في ازدهار هذا النوع من الإنتاجات.
بينما عربياً يتحاشى المبدعون هذا الطريق قلقاً وتوتراً مما قد يواجههم، إذ يحسبونها ألف مرة، ولعل الهجوم الاستباقي الذي تعرض له فيلم "الست" بطولة منى زكي وإخراج مروان حامد وتأليف أحمد مراد، بمجرد طرح إعلانه الترويجي أحدث حلقة في هذه السلسلة، بينما بطلته منى زكي كالعادة تواجه سهام النقد باحترافية، لتثبت في كل مرة أنها من الأكثر إخلاصاً لهذه الصناعة بين نجوم جيلها.
تقلص أعمال السير الذاتية
وإن كانت منى زكي تدفع ثمن مغامرتها الفنية وتصديها لسيرة مهولة مثل سيرة مطربة لم تتكرر كأم كلثوم، فتقدمها بعيداً الهالة الأسطورية التقليدية، وتدفع أيضاً أزمة مسلسل كانت قدمته قبل 19 عاماً عن قصة حياة سعاد حسني وهو "السندريلا" الذي عانى نقاط ضعف طاولت غالبية عناصره، بخاصة من قدموا الأدوار الرئيسة، فإنها أيضاً حصدت الثناء بمجرد انطلاق العروض الخاصة للفيلم قبل طرحه جماهيرياً اليوم الأربعاء، في حين لا يزال بعضهم يرى أن الإعلان الترويجي للفيلم كان شديد القسوة على بطلته، وتقع مسؤولية صداه السلبي على الفريق الذي وقف وراءه سواء في ما يتعلق بانتقاء اللقطات والمونتاج وترتيب المشاهد، إذ كان من الأفضل أن يجري التعامل بحساسية أكبر مع برومو عمل من الأساس يقابل بترصد كبير، بخاصة أن هذا الترصد سيضخم بطبيعة الحال من الهنّات التي جاءت في الفيلم سواء في الأداء أو في تسكين بعض الأدوار التي لا تنتقص من فيلم عمل ضخم مليء بالعناصر الفنية شديدة التفرد.
لكن الأمر الأكبر من هذا أنه بات هناك نوع من الترهيب يطاول صناع الفن ويحد من خيالهم، في ما يتعلق بتقديم السير الذاتية في العالم العربي، ولا سيما للأشخاص المعروفين ذوي الشعبية الذين يحفظ الجمهور إيماءاتهم وحركاتهم وطريقة كلامهم، في حين يبدو الأمر أفضل حالاً بالنسبة إلى الشخصيات التاريخية التي لا توجد مرجعية بصرية لهيئتهم مثل صلاح الدين والظاهر بيبرس والإمام الشافعي وطارق بن زياد وغيرهم، ويقتصر الأمر هنا على مدى الإنصاف التاريخي لسيرتهم.
لذا، فإن عدد أعمال السير الذاتية للشخصيات الحاضرة في الأذهان، يقل عاماً بعد عام حتى باتت هذه النوعية من الإنتاجات شديدة الندرة، فذكر نجوم عشرات المشاريع المماثلة التي انتهت على الورق لأسباب كثيرة، يتحدث عن بعضها الكاتب والسيناريست البارز مجدي صابر الذي قدم واحداً من أهم أعمال السيرة الذاتية في مسلسل "أنا قلبي دليلي" عام 2009 عن سيرة حياة ليلى مراد، ولفت إلى أنه من الصعب أن نجد منتجاً يتحمس لإنتاج عمل سيرة ذاتية في العالم العربي، على رغم ثراء الشخصيات في المنطقة على كل المستويات، مشيراً إلى أن الكلفة كبيرة للغاية من ملابس وديكورات وسيارات تعود لحقب زمنية محددة.
ويقول صابر "على مستوى التحضير والكتابة قد يستغرق الأمر أعواماً لأن السيرة التي لا تكون لبطل الحكاية فقط، إنما هي بمثابة تأريخ فني ودرامي لعصر بأكمله، بما يتضمنه من جوانب سياسية ومجتمعية واقتصادية، بالتالي هي مهمة ضخمة للغاية، وعلى من يتصدى لها أن يتمتع بالثقافة العميقة والاطلاع ومهارات البحث والتنقيح، إضافة إلى الموهبة الإبداعية، وفي ما يتعلق بليلى مراد فقد تحمست لها لأنها شخصية غنية وملهمة، وكذلك الفترة التي انطلقت بها مسيرتها خلال ثلاثينيات القرن الماضي، وهي حقبة حافلة وغنية فنياً وسياسياً، لهذا فالشخصيات المحيطة بها ظهرت في العمل بما يليق بها وليس ظهوراً فرعياً مثل محمد عبدالوهاب وأنور وجدي وروز اليوسف وغيرهم".
تأريخ لعصور كاملة
السير الذاتية عادة تصبح عملاً تأريخياً متكاملاً، يرصد حال البلاد خلال حقبة زمنية معينة عاشت فيها الشخصية، مما جعل مسلسلاً مثل "أم كلثوم" الذي قدمته صابرين قبل 26 عاماً بمثابة وثيقة مهمة شاهدة على العصر، بسبب الاهتمام بالدائرة السياسية والفنية المحيطة بـ"كوكب الشرق"، ومثله أيضاً أعمال مثل "أسمهان" لسلاف فواخرجي و"قاسم أمين" لكمال أبو رية و"السادات" و"ناصر 56" و"طه حسين" والثلاثة قدمها أحمد زكي، وشكلت إضافات مهمة إلى دراما السير الذاتية في العالم العربي.
لكن في المقابل تفاوتت مستويات أعمال أخرى وبينها فيلم أحمد زكي "حليم" عن سيرة عبدالحليم حافظ الذي يعد أضعف أعماله في هذه النوعية، في حين لم تنَل أعمال أخرى عن الشخصيات نفسها الانتشار ذاته لأسباب متعددة وبينها فيلم "جمال عبدالناصر" لخالد الصاوي، ومسلسل "ناصر" لمجدي كامل، ولا سيما أن جمال عبدالناصر يعد من أكثر زعماء السياسة عربياً الذين كانت سيرتهم محل جذب درامي متكرر، إضافة إلى فيلم أم كلثوم لفردوس عبدالحميد، والقائمة تضم أيضاً مسلسل "أبو ضحكة جنان" لأشرف عبدالباقي عن سيرة إسماعيل ياسين، و"الشحرورة" لكارول سماحة عن قصة حياة صباح، على رغم تقارب الشبه بين كثير من هؤلاء والنجوم الذين جسدوا سيرتهم، إذ إن الحالة نفسها لم تكن حاضرة بقوة، سواء على مستوى السيناريو أو التنفيذ أو الأداء.
وعلى رغم ذلك فلم يخاصم الجدل هذه الأعمال، فهل للقالب الفني دخل في مدى الترصد؟ بمعنى أن المسلسلات والأفلام أكثر انتشاراً جماهيرياً، بينما العروض المسرحية على سبيل المثال تظل مرتبطة بالجمهور الذي يذهب لمشاهدتها فقط، وتتقلص منصات متابعتها مقارنة بالدراما السينمائية والتلفزيونية.
لا يتفق المخرج أحمد فؤاد كثيراً مع هذا الرأي، إذ قدم أخيراً مسرحية غنائية تتزامن أيضاً مع الاحتفاء بعام أم كلثوم لمناسبة مرور نصف قرن على رحيلها، وهي "أم كلثوم... دايبين في صوت الست" من تأليف مدحت العدل التي قوبلت بحفاوة واسعة، ويرى فؤاد أنه في حالة "كوكب الشرق" بالذات، فإن أي عمل فني في أي قالب سيقابل باهتمام بالغ، نظراً إلى أنها شخصية حاضرة ومؤثرة في قطاعات كبيرة من الجمهور على مستوى المنطقة العربية، كما أن لها حضوراً عالمياً أيضاً.
حيلة الوجوه الجديدة
وينوه فؤاد إلى نقطة مهمة، وهي أن العرض اعتمد على شباب صاعدين لتقديم كل الأدوار، بالتالي جرى كسر فكرة التوقع المسبق للأداء لدى الجمهور لأن المشاهد لا يعرف الصورة الفنية أو الأداء لمن يقدم الدور، سواء لأم كلثوم أو باقي الشخصيات، مشيراً إلى أنه جرى الحرص على هذه الفكرة منذ بداية المشروع، باختيار مواهب متكاملة قادرة على تقديم صورة ذهنية تنصف "كوكب الشرق" والأمر نفسه بالنسبة إلى أدوار القصبجي والسنباطي ومنيرة المهدية وغيرهم.
وشدد المخرج فؤاد على أن التصدي لشخصية بحجم أم كلثوم كان تحدياً كبيراً، لافتاً إلى أن من يقدم على مشروع مثل هذا يجب أن يبذل كل جهده ليكون على نفس المستوى، وأضاف أن "الحرص على أن يخرج العمل بصورة يحبها الجمهور كان محركاً أساساً، وليس المقصود هنا أن تقدم الشخصية بطريقة ملائكية منزهة، لكن صورة إنسانية مصدقة تبرز جوانب حياتها والصراعات التي خاضتها، وتفانيها من أجل الوطن في اللحظات الفارقة، وقصة صعودها وتحقيقها لحلمها، وقوتها وإصرارها على الارتقاء بالذوق العام فهي نموذج لا مثيل له".
وشهدت الساحة على مدى فترات ليست بعيدة مناوشات عدة رافقت عروض بعض أعمال السير الذاتية لمشاهير، وقد يكون من أبرزها ما جرى في مسلسل "الضاحك الباكي" الذي جسد عمرو عبدالجليل فيه سيرة حياة الفنان نجيب الريحاني، إذ اتهم صناع العمل بالاستهانة بالتفاصيل، وعدم استحضار الحقبة التاريخية على مستوى الحوار، وأيضاً تماسك بنية السرد، وحتى في اختيار كثير من الأبطال، وإن كان عمرو عبدالجليل بدا شبيهاً بالكوميدي المهم الراحل، إلا أن هذه النقطة تثبت أن الشبه وحده لا يكفي، ولا حتى الموهبة في مطلقها، إذ إن عبدالجليل يعد من أهم المواهب التمثيلية في جيله.
لكن التميز في هذه المهنة بصورة عامة شيء والتصدي لعمل سيرة ذاتية شيء آخر، ولا سيما إن كان مصحوباً بعدم التدريب والتحضير على نحو جيد، وهو الأمر نفسه الذي حدث في فيلم "العندليب" قبل 20 عاماً، إذ لم يكن الشبه بين البطل وحليم له أي تأثير في الإمساك بجوانب شخصية ثرية ومحبوبة مثل العندليب الراحل، وهنا يمكن إثارة فكرة "الشبه" التي كانت من الأمور الأساسية التي ساقها المنتقدون الرافضون لتقديم منى زكي شخصية أم كلثوم، نظراً إلى عدم وجود عوالم مشتركة بينهما تقريباً على مستوى الملامح أو القوام، حتى بعد المكياج الثقيل الذي كان يستغرق وضعه ساعات طويلة.
الشكل ليس معياراً والقضاء ينصف الإبداع
لكن بصورة عامة يشير المخرج أحمد فؤاد إلى أن المظهر الفيزيائي وحده ليس كافياً، إذ إن الحرص عادة يكون على الجمع بين الملامح الظاهرية والروح والقدرة على التقمص، بينما يعتقد الكاتب مجدي صابر بأن مهمة تقديم سير ذاتية لرموز المجتمع بصورة عامة هي مهمة كبيرة وخطيرة، وحينما تكون هذه الشخصيات ملهمة، فإن الأمر يكون حساساً في كل جوانبه.
هنا يأتي الحديث تلقائياً عن اتهامات "الإساءة" التي توجهها عائلات المشاهير للصناع لمجرد تناولهم واقعة لم تكُن على هواهم، بل إن انتشار هذا اللغط جعل النجوم أنفسهم يرفضون تقديم قصص حياتهم في أعمال فنية، وبينهم نبيلة عبيد التي شددت على رفضها هذا التوجه بالمرة، وعلى ما يبدو أن هذا جاء من السمعة السلبية التي تصاحب بعض هذه الأعمال، من خلال ترويج أمور قد لا تكون دقيقة حول الدراما.
ويشدد الكاتب مجدي صابر على فكرة النزاهة الفنية والتاريخية، قائلاً "بعض الوقائع الشائكة في سير المشاهير يجري تجاهلها بطبيعة الحال إذا لم تكُن موثقة، كي لا يقع الكاتب في فخ التزييف والإساءة والتشهير، فيما المعلومات الدقيقة تقدم بأسلوب فني درامي إنصافاً للتاريخ"، متابعاً أن "بالفعل أبناء المشاهير عادة يعترضون، مما حدث معنا إبان التحضير، ومن ثم عرض مسلسل ليلى مراد، فقام ابنها برفع دعوى قضائية، مطالباً بالتعويض وإيقاف العمل على رغم أن السيناريو احتفى بالفنانة ليلى مراد، لكنه خسر جميع درجات التقاضي وأقرت المحكمة حكماً تاريخياً أصبح مرجعاً في أعمال السير الذاتية في ما بعد، وهو أن الشخصيات العامة ملك للمجتمع كله، بالتالي تجسيدها على الشاشة لا يخضع لموافقات من الورثة".
وعلى رغم ذلك حرص عدد كبير من صناع أعمال السير الذاتية على الالتقاء بأسر المشاهير خلال رحلة التحضير، مع أن الالتزام القانوني يرتبط عادة بملكية حقوق الأغنيات على سبيل المثال، وليس الموافقة على تقديم السيرة من عدمه، ما دام أنها لا تحمل إساءة متعمدة، ومن بينهم فريق مسرحية "أم كلثوم... دايبين في صوت الست" التي خرجت بصورة أشادت بها الأسرة، على رغم أن القلق كان حاضراً أيضاً وفق ما يقول مخرج العرض أحمد فؤاد، ويشير إلى أنه بطبيعة الحال كان هناك قلق صحي في سبيل البحث عن أفضل طريقة ممكنة لتقديم مسرحية غنائية تضاهي عروض برودواي، وتعيد للمسرح المصري الموسيقي رونقه وهو الذي كان من أهم المسارح خلال عشرينيات القرن الماضي، مضيفاً أن "مع استعمال تقنيات ترفع مستوى العرض ولا تخل بالعصر الذي وجدت فيه ’ثومة‘، من خلال تقديم صورة مبهرة صادقة، تستهدف الأجيال الأصغر سناً الذين لا يعرفون شيئاً عن هؤلاء العمالقة، فتحفزهم اللوحات الموسيقية على البحث عن تاريخ هذه الشخصيات التي تستحق الاحتفال".