ملخص
ما يحدث اليوم أن أفلام الرسوم المتحركة لم تعد شكلاً سينمائياً يهدف إلى البحث عن لغة بصرية جديدة تبتدع شخصيات فوق واقعية، بل أصبحت عبارة عن صناعة سينمائية هدفها التجارة والترفيه، فغالب الأفلام المنتجة حديثاً داخل أميركا تحركها نزعة استهلاكية، تجعل العمل السينمائي عبارة عن سلعة لا تقدم الأفكار ولا تشتغل على المفاهيم ولا تحرك الأهواء داخل النقد السينمائي، وذلك لكونها مجموعة أفلام سينمائية، أنتجت بهدف اختراق الصالات السينمائية وضخ دماء جديدة في شباك التذاكر.
القصص المصورة من العناصر الجمالية الملهمة للرسوم المتحركة، لأنها تزودها بمجموعة من الأساسات الفنية والمتواليات البصرية الثابتة التي تدب في الرسوم المتحركة حياة جديدة من خلال عنصر الحركة، فالأولى عنصر بصري ثابت، بينما الثانية "كائن" زئبقي متحول على تضاريس المشهد البصري، إذ تستمد ملامحها وجمالياتها انطلاقاً من عنصر الحركة مثل الفن السابع.
ظلت العلاقة تتواشج بين الكوميكس والرسوم المتحركة ونسجت عبر مسار طويل نوعاً من التلاقح الفني الذي جعل الرسوم المتحركة تحظى بأهمية بالغة وشعبية كبيرة في أجندات شركات الإنتاج العالمية، إذ يستحيل اليوم عدم العثور على أفلام الرسوم المتحركة داخل مهرجانات سينمائية عالمية، لأنها أصبحت تشارك وتعرض وتفوز بجوائز مرموقة، إن هذا الاعتراف يضمر في حد ذاته الطريقة التي بها أصبحت المؤسسات السينمائية تنظر إلى هذا الشكل السينمائي الجديد الذي يستمد ملامحه من التقنية ويجعلها بمثابة الأساس الفني الذي تنبني عليه.
تنميط بصري
وهذا الاهتمام بأفلام الرسوم المتحركة بدأ في اللحظة التي أصبحت فيها التقنية تستحوذ على المنتج السينمائي وتدفعه إلى تجديد وسائله وآليات عمله من أجل تطوير لغته السينمائية والبحث عن آفاق جديدة للصورة، وحققت السينما بفضل التقنية تطوراً ملحوظاً في الأعوام الـ20 الماضية، أصبح من الصعب على المخرج السينمائي العالمي عدم الاهتمام بالتقنية، بحكم الإمكانات التي تقدمها له على مستوى صناعة الصورة وجمالياتها.
وفي وقت نجح فيه كثير من المخرجين السينمائيين العالميين أمثال كريستوف نولان وسام رايمي ومات ريفيس في تملك التقنية وجعلها مجرد أداة لبناء تصور حكائي على تضاريس المشهد السينمائي، فشل البعض الآخر في استخدام التقنية بعدما أصبحت تتملك الفيلم وتحاول أن تجعل من الكتابة والأداء والموسيقى والتصوير مجرد عناصر فنية تابعة للتدوير التقني.
نحن إذاً أمام واقع سينمائي جديد تؤدي فيه التقنية دوراً مركزياً في صناعة أفلام الكارتون وبناء شرعيتها الجمالية، ففي الأعوام الأولى من الألفية الثالثة كان معظم النقاد العالميين يحذرون من سيطرة أفلام الرسوم على الصالات السينمائية، ويعملون جاهدين على نقدها على أساس أنها مجرد مشروع ترفيهي لا يمت إلى السينما بصلة، لكن ما حدث لاحقاً يبشر بولادة شكل فيلمي جديد، يجعل من الواقع أحياناً سنداً له.
وتحاول هذه الأفلام أن تبني صورها المتخيلة بالاستناد إلى الواقع الذي ننتمي إليه، لكن وفق آلية بصرية تتجاوز الواقع وتخترق بنية الخيال، وما يحدث اليوم أن أفلام الرسوم المتحركة لم تعد شكلاً سينمائياً يهدف إلى البحث عن لغة بصرية جديدة تبتدع شخصيات فوق واقعية، بل أصبحت عبارة عن صناعة سينمائية هدفها التجارة والترفيه، فغالب الأفلام المنتجة حديثاً داخل أميركا تحركها نزعة استهلاكية، تجعل العمل السينمائي عبارة عن سلعة لا تقدم الأفكار ولا تشتغل على المفاهيم ولا تحرك الأهواء داخل النقد السينمائي، وذلك لكونها مجموعة أفلام سينمائية، أنتجت بهدف اختراق الصالات السينمائية وضخ دماء جديدة في شباك التذاكر.
على هذا الأساس، تحرص مجمل التلفزيونات العالمية على جعل الرسوم المتحركة تدخل ضمن المواد الفنية التي توجه للجماهير الهلامية، بل نعثر اليوم على كثير من المشاريع السينمائية التي تجعل من هذا الشكل التعبيري وسيلة لها لبناء قاعدة جماهيرية داخل عدد من المحافل الدولية.
من الاستهلاك إلى الترفيه
أصبحت أفلام الكارتون صناعة سينمائية قائمة الذات وتنبني على رؤية بصرية غايتها الترفيه، فبعد النجاح الكبير الذي حققه فيلم "موانا" لرون كليمنتس وجون موسكر عملت "ديزني" على إنتاج الجزء الثاني منه "موانا2"، وهو عمل سينمائي حققت من خلاله شركة "والت ديزني" نجاحاً كبيراً بفعل المزيج البصري الذي ميز سيرة فيلم "موانا" بين الرقص والغناء والموسيقى، بما يجعل المتفرج أمام خلطة سينمائية مركبة وإن كانت سينمائياً تحاول البحث عن آفاق جمالية خارج العالم الواقعي الذي ننتمي إليه، فإنها تظل بصورة ضمنية داخل مدى الترفيه وسياسة الاستهلاك التي تحول العمل السينمائي إلى مادة للمشاهدة والهزل.
وظهرت الأعوام الأخيرة كثير من المهرجانات السينمائية العالمية التي أصبحت تراهن على هذا النوع السينمائي، وتجعله يدخل ضمن برامجها الفنية، إذ استطاعت من خلالها بعض المهرجانات مثل "مهرجان آنسي الدولي لأفلام الرسوم المتحركة" بفرنسا أن تحقق شهرة واسعة من خلال هذا الشكل التعبيري الذي يحول رسومات مسطحة أو مجسمة في بعدين إلى صور قادرة على توظيفها في مجالات تتعلق بالسينما والتلفزيون.
بيد أن الاهتمام بالرسوم المتحركة التقليدية التي كانت في وقت ما مضى تحركها دوافع تربوية تستهدف الأطفال والتي ظلت طوال القرن الـ20 ترسم على أوراق السيلولويد، أصبحت اليوم أفلامها تمتلك خطابها السينمائي المختلف والقادر على الفوز بأكبر الجوائز السينمائية، إننا هنا أمام تحول أنطولوجي كبير يظهر المكانة التي وصل إليها الفن السابع والطريقة التي أصبح يقدم بها نفسه إلى العالم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحولت الرسوم الكارتونية التي قام بها في بادئ الأمر مجموعة من الفنانين غير المعروفين، إلى صناعة سينمائية تحقق الملايين من الدولارات، وأسهمت الطفرة التي تحققت في عالم الصورة إلى إحداث تغيير جذري في مجال الصناعة السينمائية، بعدما تعددت أشكال التعبير في تقديم القصص والحكايات وإعادة تخييلها وفق عناصر بصرية مختلفة ومتباينة.
غير أن هذه الطفرة، على رغم ما يطبعها من حداثة وتجديد على مستوى التقنية، فإنها أدت أحياناً دوراً سيئاً في جعل السينما تتخلى عن وظيفتها الجمالية في الكشف عن الواقع وملامسة جوهر الذات البشرية عبر صور ومشاهد تبقى عالقة في الذاكرة والوجدان، وأصبحت نماذج كثيرة من أفلام الرسوم المتحركة تدخل ضمن مفهوم الترفيه الذي جعله المفكر الألماني تيودور أدورنو بمثابة السر القابع وراء الحياة المعاصرة.
الترفيه يعتبر سمة أساسية في أفلام الكارتون، فهي أفلام مبنية على نوع من "التطابق الوهمي" الذي يجعل المخرج يعرض سيرة بعض الشخصيات الكرتونية على أساس أنها تجد امتدادها في الحياة الواقعية الموهومة، وهو أمر طبيعي يؤدي إلى ما يمكن أن نسميه بـ"جماليات الصدمة" بالنسبة إلى كثير من الأطفال الذين يبحثون في واقعهم عن تلك الشخصيات التي يشاهدونها على شاشة التلفاز والسينما ويخلقون معها علاقة حسية قوامها الإبداع والابتكار.
جماليات جديدة
في غمرة التحولات التي باتت تعرفها الطفرة التكنولوجية، بدأت تطالعنا في الأعوام الأخيرة كثير من الأفلام التي تجعل من الأنيميشن شكلاً بصرياً لتخييل حكايتها، وبقدر ما يمثل هذا الشكل الفيلمي أفقاً مغايراً داخل الفن السابع، فإنه غدا بالنسبة إلى المؤسسات الإنتاجية عبارة عن سلعة غايتها الترفيه والاستهلاك، وبمجرد ما يعرض أي فيلم جديد، إلا وتكون هناك أفلام أخرى تنتظر العرض، مما يعني أن الطلب كثيف على هذا النوع الفيلمي، ومن ثم فإن الرهان عليه لا يدخل ضمن باب التجريب السينمائي المولد للأفكار والأشكال الفنية والثورات الجمالية، بل انطلاقاً من الهدف الأسمى والمتمثل في تحقيق نسبة كبيرة من الأرباح، من دون التفكير في أثر هذه الأعمال الفنية على واقع السينما ومستقبلها.
وتجاوز فيلم "فلو" للمخرج جينتس زلبالوديس الحائز جائزة أوسكار، حاجز 50 مليون يورو (58.7 مليون دولار) بحسب ما أعلنت شركة "شارادز"، إذ اعتبر النقاد أنه من الأرقام المهمة في شباك التذاكر، على رغم أن الفيلم لم تتجاوز كلفة إنجازه نحو 3.5 مليون يورو (4.1 مليون دولار)، لكن نجاح الفيلم لم يكن له علاقة بحجم الإشهار والدعاية له ولا بعرضه في توقيت مناسب جعله يبرز على السطح ويلفت الأنظار إليه، وإنما يعود إلى قصته التي تدور حول قطة وجدت نفسها على متن قارب رفقة مجموعة من الحيوانات، وهي تبحث لها عن النجاة والأمان داخل الفضاءات الموحشة.
يبدو الفيلم في معظم مشاهده وكأنه يشكل امتداداً حقيقياً لما هو موجود في الحياة الواقعية، ذلك أن مفاهيم البقاء والتأقلم والمغامرة توجد في الحياة الواقعية، حيث يبدو الفيلم وكأنه يقدم مجموعة من الرسائل المضمرة حول الذات ومساعدة الآخر، إن جينتس زلبالوديس، قام بقلب المعادلة البصرية وأخرجنا من عالم الترفيه والتمويه البصري صوب مشاهدة سينمائية محتملة ومفتوحة على متاهات الواقع اليومي.
بهذه الطريقة تصبح الصورة الفنية في أفلام الرسوم المتحركة عبارة عن علامة بصرية تجد مرجعها في الواقع المعيش، فكل مشهد بالنسبة إلى الطفل يجد ملامحه داخل الحياة اليومية، ومن هنا، يجد المتفرج نفسه أمام انقشاع للواقع وانمحاء للحدود التي يتأسس عليها العقل البشري، بين ما هو ينتمي إلى الخيال والآخر الذي ينتمي إلى الواقع.
هذا الأخير، يصعب العثور عليه داخل أفلام الرسوم المتحركة، لأن فعل الكتابة السينمائية دائماً ما يتجاوز الواقع ويرنو إلى البحث عن عوالم جديدة ومتخيلة وتتميز في عمومها بنوع من شعرية الفانتاستيك.