ملخص
أوروبا تواجه لحظة حاسمة بعدما أعاد ترمب توجيه الأولوية الإستراتيجية لواشنطن نحو المحيط الهادئ، فيما يواصل بوتين حربه التقليدية والهجينة بلا كلفة رادعة. بريطانيا مدعوة لقيادة الرد عبر انتقال من الدفاع إلى الهجوم: استهداف نقاط ضعف روسيا، تعزيز الردع الهجومي، وحشد “تحالفات الراغبين” لفرض ثمن على الكرملين قبل أن يتوسع العدوان.
مرة أخرى هذا الأسبوع، حدد الرئيس الأميركي دونالد ترمب التحدي الاستراتيجي الذي تواجهه أوروبا. فعلى رغم أنه جدد التزام الولايات المتحدة بالدفاع اليورو - أطلسي بعدما تعهد الحلفاء بزيادة إنفاقهم الدفاعي، فإن استراتيجيته الجديدة للأمن القومي تتجه نحو المحيط الهادئ، في حين تتولى خطته للسلام في أوكرانيا التفاوض على أمن أوروبا من دون مشاركة أوروبية. قد لا نكون وحدنا تماماً في مواجهة مصيرنا، لكننا في حاجة إلى القدرة على الاعتماد على أنفسنا، وبسرعة.
هذا الأسبوع، أعلنت البحرية الملكية البريطانية هدفها بأن تكون مستعدة لخوض حرب بحلول نهاية العقد، وللجيش وسلاح الجو الملكي طموحات مماثلة، لكن الجدول الزمني البطيء للوصول إلى مستوى إنفاق دفاعي يبلغ 3.5 في المئة من الناتج المحلي بحلول عام 2035 لن يوفر الموارد اللازمة، ولن يترك أثراً لدى فلاديمير بوتين المصمم على تشغيل آلته الحربية واقتصاده بلا توقف حتى في ظل وقف إطلاق نار مع أوكرانيا.
بصفتي كنت مستشاراً للأمن القومي، تعاملت مع جريمة التسميم في سالزبري، التي صدر في شأنها تقرير لجنة اللورد هيوز الأسبوع الماضي، والتي كانت بالفعل نقطة انعطاف مفصلية. فبعد أعوام من ردود الفعل غير الكافية على ما حدث في سوريا والقرم وإسقاط طائرة الرحلة الماليزية "MH17" ولتينفينينكو [ضابط استخبارات روسي منشق اغتيل في لندن عام 2006 بمادة مشعة] وعلى أنشطة التخريب الروسية، وجهنا ضربة غير مسبوقة لقدرات الاستخبارات الروسية عبر أكبر عملية طرد جماعي لضباطها في التاريخ، ترافق معها فرض عقوبات أحدثت ضرراً حقيقياً بموسكو. ومع ذلك، ظل هذا الإنجاز ذا طبيعة دفاعية بحتة: فقد جئنا نرد على هجوم وقع وانتهى، فأوقعنا عقوبات، لكننا لم ننجح في ترسيخ الردع.
الحقيقة أننا نخوض الحرب بالفعل: حرباً تقليدية في أوكرانيا، وحرباً هجينة داخل أماكن أخرى. وبوتين بالتأكيد يعتقد أنه في حال حرب معنا. وكما قلت للبرلمان أخيراً، فإن روسيا قادرة على شل بريطانيا بالكامل عبر هجوم سيبراني يستهدف نظام توزيع الغذاء، مقرون بحملة تضليل إعلامي تحدث هلعاً شرائياً وفوضى عامة. وكل ذلك من دون إطلاق صاروخ واحد ولا نشر جندي واحد.
يتمثل جزء من الاستجابة في تعزيز الصمود الوطني عبر تحصين البنية التحتية الحيوية، وسلاسل الإمداد وشبكات الاتصالات. لكن الصمود من دون قدرة هجومية ليس سوى خط ماجينو جديد في العصر الحديث [خط دفاع فرنسي شهير انهار سريعاً في الحرب العالمية الثانية بسبب التحايل عليه]: دفاع ثابت في مواجهة عدو يمارس مناورة هجومية. وكما أوضحت وزيرة الخارجية إيفيت كوبر هذا الأسبوع، تواصل روسيا عمليات "أسطول الظل" وتخريب الكابلات، والتلاعب بنظام تحديد المواقع "جي بي أس"، وتقويض أنظمتنا الديمقراطية. أما نحن فنرد بالتحقيقات وتحديد المسؤولية، لكن تحديد المسؤولية لا يحقق الردع.
كتب صن تزو "أسمى فنون الحرب هو إخضاع العدو من دون قتال. اضربه حيث لا يكون مستعداً، واظهر حيث لا يتوقعك". ينبغي على حلف "الناتو" أيضاً المناورة في هذه المنطقة الرمادية.
يمكننا استهداف نقاط الضعف الروسية بما في ذلك البنية التحتية الطاقوية المتقادمة، والاعتماد على الأنظمة الغربية،وجيب كالينينغراد المعزول [المنطقة الروسية المنفصلة جغرافياً عن روسيا والواقعة بين بولندا وليتوانيا]، إضافة إلى مراكز التصنيع العسكري الروسية المركزة. ويجب أن نمنع توفير التأمين لأسطول الظل الروسي، وأن نصادر السفن في المياه التابعة لـ"الناتو"، وأن نصدر تشريعات خارج الحدود تتيح لسلاح الحلف البحري الرد على هجمات الكابلات داخل المياه الدولية. وينبغي أن نظهر قدرتنا على تنفيذ هجمات سيبرانية ضد البنية التحتية العسكرية والطاقوية الروسية، ويجب أيضاً ممارسة ضغط منهجي على جيب كالينينغراد الذي يعتمد في وصوله البري والبحري على أراضٍ وممرات تابعة لـ"الناتو".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل سيؤدي ذلك إلى تصعيد روسي؟ لقد غزا بوتين أوكرانيا واستخدم أسلحة كيماوية وأسقط طائرات مدنية، وخرب بنى تحتية واغتال معارضين وقوض ديمقراطيات - وكل ذلك من دون أن يواجه عواقب شديدة. ومع ذلك، يبقى "الناتو" مكبلاً بالخوف من رد روسي، بينما تتبع روسيا عقيدة لينين القائمة على التصعيد المستمر إلى أن تواجه بالقوة. الخطر لا يكمن في أننا قد نستفز روسيا لمهاجمتنا، فهي تهاجمنا بالفعل. الخطر الحقيقي هو أن عدم فرض ثمن عليها سيشجع على مزيد من العدوان.
يقول البعض إن هذا يتطلب إجماعاً أوروبياً لا قدرة لنا على حشده. وهذا طرحٌ في غير محلّه. فهناك عدد من الحلفاء - من دول الشمال والبلطيق إلى بولندا - يدركون حجم التهديد ومستعدون للتحرك. أما فرنسا وألمانيا فستتبعان المسار نفسه ما إن نبدي قدراً كافياً من الحزم. لقد نجحت "تحالفات الراغبين" مراراً في دفع "الناتو" إلى تبني مواقف مشتركة. أما انتظار الإذن، فلا يعني سوى ضمان استمرار العدوان الروسي.
يرى بوتين في المملكة المتحدة الخصم الأكثر صلابة في مواجهة روسيا، فلنقبل بهذا الدور. يجب على بريطانيا أن تتصدر هذه الحملة الهجينة بالنيابة عن أوروبا، فبفضل أجهزة استخباراتها المتقدمة وقواتها الخاصة ووحدتها السيبرانية، تستطيع بريطانيا إحداث تأثيرات استراتيجية عبر عمليات دقيقة. ثقافتنا الاستراتيجية لا تشلها المخاوف، فنحن ندرك أن الردع الحقيقي هجومي بقدر ما هو دفاعي - ردع يقوم على ضرب روسيا في نقاط ضعفها، وإجبارها على الدفاع في كل الاتجاهات، وفرض كلف عليها بوسائل يصعب التنبؤ بها. هذه حرب هجينة تعتمد على المناورة. وأوروبا في حاجة إلى دولة تجرؤ على قيادة هذا المسار. وعلى بريطانيا أن تكون تلك الدولة.
اللورد مارك سيدويل دبلوماسي وموظف حكومي رفيع، شغل سابقاً منصب مستشار الأمن القومي البريطاني والأمين العام لمجلس الوزراء.
© The Independent