Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"هرتلة في القاهرة"... بورتريه بصري للمدينة

وثائقي للمخرجة اللبنانية - الكويتية فرح الهاشم يبحث عن اللحظات الصغيرة

لقطة من العمل (من الفيلم)

ملخص

تصنع الهاشم فيلماً يتحرك كما تتحرك المدينة نفسها: غير متوقع، ومتعدد الطبقات، وغني بالمفارقات. الشوارع، الأزقة، المقاهي، بوفيهات مغلقة، كل ذلك يصبح عنصراً من عناصر السرد، يضفي على الفيلم شعوراً بأن المدينة ليست مجرد مكان، بل كائن حي يتنفس ويتحرك وفق إيقاعه الخاص

تتجاوز المخرجة فرح الهاشم في فيلمها الوثائقي «هرتلة في القاهرة»، حدود التوثيق التقليدي لتعيد تشكيل القاهرة على نحو شخصي وحسي وفلسفي في آن. الفيلم ليس مجرد رحلة عبر شوارع المدينة، بل محاولة لاختراق صميم حياة المدينة اليومية، والبحث عن اللحظات الصغيرة التي تحمل نسيجها التاريخي والاجتماعي.

هنا، الهرتلة، بما تعنيه من ثرثرة عفوية وفوضى ظاهرة، تتحول أداة فنية ومعرفية، لغة لفهم المدينة بطريقة تتجاوز السرد التقليدي، إذ تصنع من الكلام المرتجل والحركة العشوائية للناس والسيارات والمقاهي مشهداً حضرياً نابضاً بالحياة.

تصنع الهاشم فيلماً يتحرك كما تتحرك المدينة نفسها: غير متوقع، ومتعدد الطبقات، وغني بالمفارقات. الشوارع، الأزقة، المقاهي، بوفيهات مغلقة، كل ذلك يصبح عنصراً من عناصر السرد، يضفي على الفيلم شعوراً بأن المدينة ليست مجرد مكان، بل كائن حي يتنفس ويتحرك وفق إيقاعه الخاص.

الحركة العفوية للكاميرا، واللقطات الطويلة التي تلتقط البشر وهم يعيشون حياتهم اليومية بلا ترتيب، تمنح الفيلم إحساساً بالارتجال الممنهج، وكأن المدينة نفسها تكتب نصها بصوتها وصورها وأصواتها.

بين الماضي والحاضر

يتنقل الفيلم بين الماضي والحاضر بطريقة سلسة لكنها معقدة، استعادت المخرجة اللبنانية - الكويتية ذكرياتها الطفولية في القاهرة، متكئة على مرجعيتها السينمائية في الأفلام المصرية القديمة بالأبيض والأسود، وعلى رموز الموسيقى والفن كفريد الأطرش وسيد درويش والشيخ إمام، ليصبح الماضي جزءاً حياً من الحاضر، متصلاً بالهوامش التي تعكس تطورات المدينة.

لكن الحنين هنا لا يتحول إلى تهويم رومانسي، بل يصبح عدسة تحلل من خلالها المخرجة واقع القاهرة المعاصر، من التفاوت الاجتماعي والاقتصادي إلى الصراعات الثقافية والسياسية، ليقدم الفيلم رؤية متكاملة للمدينة، معتمداً على الإحساس أكثر من التفسير المباشر.

ما يميز «هرتلة في القاهرة» حضوره المكثف للواقع الاجتماعي من خلال الشخصيات الحقيقية أو شبه الحقيقية، الذين يقدمون شهاداتهم بلا ترتيب مسبق، ضمن ما يشبه حلقات النقاش المفتوحة في الشارع والمقاهي.

 

 

الشباب والفنانون والمثقفون وأصحاب الحرف كلهم يضيفون طبقة من التعقيد والثراء، مما يجعل الفيلم يتشكل من حوارات متداخلة، ونبرة عفوية، وفوضى محسوبة تعكس ثقافة الهرتلة نفسها. كل شهادة، حتى وإن بدت عابرة أو مضحكة، هي جزء من فسيفساء المدينة، تكشف عن الاختلاف والتشابه، عن الحب والفقد، عن الطموح والإحباط، عن الصخب والصمت في آن.

لا يقدم الوثائقي إجابات جاهزة، بل يطرح أسئلة عدة، فلسفية ووجودية في طابعها، حول العلاقة بين الإنسان والمكان، بين الماضي والحاضر، بين الحنين والواقع. من خلال الهرتلة نرى كيف يمكن للكلام المرتجل، والفعل غير المخطط، والخطأ البشري، أن يتحولوا إلى لغة سينمائية حقيقية، قادرة على تصوير المدينة كما هي، بكل تناقضاتها وأخطائها وجمالها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المشاهد يجد نفسه مدفوعاً إلى الإنصات إلى المدينة، وليس مجرد مشاهدتها، فالهرتلة تصبح هنا أداة لفهم حياة القاهرة اليومية، مرآة لثقافتها الشعبية، وموسوعة للذاكرة الجماعية التي تجمع بين الفن والسياسة والحياة العادية.

تستثمر الهاشم العلاقة العاطفية مع مدينتها بطريقة فنية دقيقة، ثمة شعور بالحب والغرام بالقاهرة، لكنه حب لا يطمس الحقيقة، بل يكشفها. القاهرة في الفيلم مدينة مفتوحة على كل العصور والطبقات، متشابكة في تفاصيلها، فوضوية في شكلها، لكن منظمة في روحها. نرى مقاطع مؤثرة للمقاهي، الأسواق، بوفيه السعادة المغلق، كل ذلك يحمل رمزية عميقة، إنه سرد بصري للماضي يتقاطع مع الحاضر، لإظهار أن المدينة ليست مجرد موقع جغرافي، بل تجربة إنسانية مستمرة.

 

 

الجانب التقني للفيلم يدعم هذه الرؤية بشكل ملحوظ، استخدام الهاشم الكاميرا المحمولة، واللقطات الطويلة، والصوت الميداني، يخلق إحساساً بالحياة المستمرة والمتدفقة، كما لو أن المدينة نفسها تنطق، وأن كل شخص وكل حركة وكل صوت يشكل جزءاً من سردها الداخلي.

الموسيقى، سواء كانت موسيقى الماضي أو الإيقاعات الشعبية المعاصرة، تعمل على نسج تجربة حسية متعددة الطبقات، تجعل الفيلم أشبه بمتن شعري حيّ يتحرك أمام عيون المشاهد.

في جوهره «هرتلة في القاهرة» هو فيلم عن الفعل نفسه، عن الكلام المرتجل، عن الهفوات اليومية، عن الحكايات الصغيرة التي تشكل هوية المدينة، عن قدرة الإنسان على إنتاج الحياة والفن في خضم العشوائية.

إنه دعوة إلى التأمل في قيمة الهرتلة بوصفها فعلاً حضرياً وفنياً، ورؤية للمدينة لا تبحث عن ترتيب، بل عن اكتشاف المعنى في التفاصيل، عن فهم الحياة كما هي: متناقضة، وفوضوية، ومضيئة، ومليئة بالدهشة. بعبارة أخرى، الفيلم يشبه نصاً حيّاً يُقرأ ويُسمع، تجربة حسية كاملة تأخذ المشاهد في رحلة عبر الزمن والمكان، عبر الماضي والحاضر، عبر الفوضى والنظام، عبر الحب والخسارة، عبر الصوت والصورة.

إنه عمل يجعلنا نفهم أن القاهرة، كما الإنسان، لا يمكن اختزالها في سرد واحد، وأن جمالها يكمن في هرتلتها، في أخطائها، في حركتها المتدفقة، وفي محاولتها المستمرة لإيجاد الفرح وسط الضجيج والفوضى.

•     الفيلم متاح على "يوتيوب"

اقرأ المزيد

المزيد من سينما