ملخص
شكل قرار البرهان عند زيارته النازحين بالدبة، القاضي بإيقاف الشاحنات المتجهة إلى دارفور وكردفان، عامل ضغط إضافياً زاد من تعقيد المشهد، وأظهر مدى تأثير القرارات الإدارية في ديناميات السوق خلال الأزمات.
شهد أسواق السلع في السودان تحولات متتابعة بسبب هشاشة البنية الاقتصادية أمام الصدمات المركبة، إلى جانب ما أنتجته الحرب من بيئة شديدة الاضطراب تداخلت فيها القيود اللوجستية والأمنية مع ضغوط مالية وهيكلية خانقة، مما أدى إلى انكماش متسارع في العرض المحلي وتراجع حاد في مستويات التدفق التجاري عبر المنافذ الرسمية. وفي هذا السياق، برزت تحولات بنيوية عبر عنها انهيار القدرات المؤسساتية المسؤولة عن سلاسل التوريد، إذ تعطلت الموانئ وتوقفت البنوك وتعرضت المخزونات للنهب، مما تسبب في فجوات واسعة داخل الأسواق وارتفاع تكاليف النقل والتخزين. وكذلك تآكل قنوات التصدير الرسمية وتحولها نحو شبكات بديلة وغير رسمية، أو توقفها بالكامل، وهو ما أدى إلى نقص حاد في العملة الصعبة وتراجع قدرة البلاد على استيراد السلع الأساسية.
وتبرز الأزمة التي تشهدها مناطق دارفور وكردفان نموذجاً مكثفاً لطبيعة التحديات التي تواجهها مناطق النزاع، إذ أفادت تقارير محلية بغياب شبه كامل للسلع الغذائية وارتفاع غير مسبوق في الأسعار بعد توقف تدفق البضائع من شمال السودان، المصدر الرئيس لإمدادات هذه المناطق، إلى جانب تعثر حركة التجارة القادمة من غرب أفريقيا. وقد شكل القرار الحكومي القاضي بإيقاف الشاحنات المتجهة إلى دارفور وكردفان، على خلفية زيارة قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان لمحلية الدبة للاطلاع على أوضاع النازحين من مجزرة الفاشر، عامل ضغط إضافي زاد من تعقيد المشهد، وأظهر مدى تأثير القرارات الإدارية في ديناميات السوق خلال الأزمات.
ولا تقتصر هذه التحديات على غرب السودان وحده، بل تمتد لتشمل جميع ولايات البلاد التي تواجه اختناقات متزايدة في السلع، مدفوعة بتعدد نقاط الجباية والضرائب التي يفرضها طرفا النزاع على طرق الإمداد ومعابر النقل، مما أدى إلى تضخم تكاليف التشغيل وتراجع القدرة الشرائية للسكان. وضمن هذه البيئة المتقلبة، يبرز تغير أسعار السلع خلال الحرب، والتفاعلات المعقدة بين العوامل الأمنية والمؤسساتية والضريبية التي أعادت تشكيل الأسواق السودانية في واحدة من أكثر فتراتها اضطراباً.
هشاشة الوضع
شهدت أسواق الخرطوم في الأسابيع الأخيرة موجة جديدة من الارتفاعات الحادة في أسعار السلع الاستهلاكية، في ظل تآكل القدرة الشرائية وتواصل الانهيار المتسارع في قيمة الجنيه السوداني. ويأتي هذا الارتفاع في سياق اقتصادي بالغ الهشاشة، إذ فقدت العاصمة، المركز الأكبر للطلب والتوزيع، جزءاً كبيراً من مخزونها السلعي نتيجة الاضطرابات الأمنية وتعطل سلاسل الإمداد بين الولايات، إضافة إلى الرسوم المتعددة التي تفرضها الجهات المختلفة على طرق النقل في مناطق السيطرة المتباينة.
ووفقاً لتقديرات التجار والمستهلكين، سجلت أسعار السلع الأساسية ارتفاعات لافتة خلال الأيام الماضية. فقد ارتفع سعر جوال السكر (50 كلغ) إلى ما يعادل نحو 241 دولاراً أميركياً، بينما صعد جوال الدقيق بالوزن نفسه إلى نحو 250 دولاراً، وجوال العدس (20 كلغ) إلى نحو 116 دولاراً.
كذلك شهدت أسعار النقل، وبخاصة الوقود، تفاوتاً كبيراً بين الولايات. فقد سجلت ولايات الجزيرة والنيل الأزرق والنيل الأبيض أعلى أسعار الوقود، إذ بلغ سعر ليتر البنزين في المناقل ما يعادل 36 دولاراً، بينما جاءت بورتسودان الأقل سعراً بنحو أربعة دولارات. ويبرر هذا التباين لقرب بورتسودان من الموانئ، مما أسهم في خفض كلفة الوقود في شرق السودان، في مقابل ارتفاعها في المناطق الأخرى خصوصاً المحاصرة.
وعلى نحو مضاد للاتجاه العام، شهدت بعض السلع المستوردة مثل البن والشاي تراجعاً طفيفاً في الأسعار بفعل زيادة المعروض من بعض المناطق الحدودية.
ولا تقتصر الضغوط السعرية على ولاية الخرطوم، بل تمتد إلى مناطق إنتاج رئيسة مثل الجزيرة التي تنتج محاصيل الحبوب والزيوت، والقضارف التي تنتج السمسم والذرة، وسنار التي تنتج الغلال والخضر، حيث تعطلت حركة الشاحنات، وتزايدت الرسوم غير الرسمية على الطرق، مما رفع كلفة وصول السلع إلى العاصمة. كما تأثرت الأسواق الطرفية، كالأبيض ونيالا والدمازين، بارتفاعات تفوق نظيراتها في الخرطوم بسبب تعدد نقاط الجباية على طرق الإمداد.
وقد فاقم تدهور الجنيه السوداني الأزمة السعرية بصورة مباشرة، إذ انخفض بأكثر من 560 في المئة من قيمة العملة. وبهذا تحولت الأسواق إلى بيئة تضخمية مفتوحة، تتجاوز فيها الأسعار القدرة الشرائية الفعلية لغالبية المواطنين الذين فقدوا أعمالهم ومدخراتهم، مما يعمق حالة الركود الاقتصادي ويزيد هشاشة الوضع المعيشي في العاصمة والولايات على حد سواء.
اتساع الاضطراب
قالت الصحافية حنان الحبر إن "مؤشرات الأسعار الأساسية تشمل مؤشر سلة الغذاء المحلية وأسعار التصدير لكل من السمسم والصمغ العربي، وأسعار المواشي واللحوم الحية عند نقاط التصدير وأسعار الوقود المحلي"، مؤكدة أن جميع هذه المؤشرات تظهر اتساع نطاق الاضطراب الاقتصادي وارتفاع مستويات التقلب.
وذكرت الحبر أن "أسعار الحبوب المحلية مثل الذرة والدخن، قد شهدت ارتفاعاً تراوح بين 45 و252 في المئة مقارنة بعام 2022، وذلك نتيجة تعطل خطوط النقل وانخفاض الإنتاج وتعذر الوصول إلى الأسواق في مناطق واسعة من البلاد. وقد سجلت مدن مثل ود مدني والقضارف والأبيض ونيالا زيادات موسمية إضافية تراوحت بين 17 و33 في المئة خلال عام 2023، حتى في فترات الحصاد، بما يعكس ضعف فعالية الأسواق في امتصاص الصدمات وارتفاع تكاليف نقل السلع".
وأوضح الصحافية أن "قدرة البلاد على استيراد القمح والسلع المستوردة انخفضت بصورة حادة مع تجمد التحويلات البنكية وارتفاع كلفة الشحن، مما أدى إلى زيادات كبيرة في أسعار الدقيق والقمح داخل المراكز الحضرية". كذلك أشارت إلى أن أسعار السمسم "دخلت نطاقات شديدة التقلب بسبب توقف التصدير الرسمي واللجوء لشبكات تجارية بديلة، مما أدى إلى انخفاض المعروض الداخلي وتذبذب الأسعار بين 2023 و2025".
وكشفت أن "إنتاج الصمغ العربي تراجع إلى أقل من 40 ألف طن في موسم 2023 - 2024 مقارنة بمستويات سابقة تراوحت بين 80 و100 ألف طن سنوياً، وهو انخفاض يعكس شللاً واسعاً في مناطق الإنتاج الأساسية".
وفي ما يخص المواشي واللحوم الحية، قالت الحبر "الصادرات توقفت بصورة شبه تامة، مما أدى إلى فقدان البلاد أحد أهم مصادر العملة الصعبة وانتقال جزء من التجارة إلى أسواق حدودية غير رسمية. وهذا التحول، أوجد تقلبات محلية حادة في الأسعار ورفع كلفة اللحوم في الأسواق نتيجة انكماش العرض الرسمي".
وأوردت "التأثير مركب، فبينما شهدت السلع المصدرة ارتفاعات وتقلبات حادة أو انكماشاً في مستويات الإنتاج، واجهت السلع المحلية، مثل الدقيق والوقود والأدوية، دورات شح متكررة أدت إلى ارتفاعات كبيرة في كلفة سلة المستهلك". وأكدت أن شدة الأزمة مرهونة باستمرار إغلاق الموانئ وتجمد النظام المصرفي وتعطل الحركة بين الولايات، مما يجعل استقرار الأسعار في المدى القريب أمراً بالغ الصعوبة.
تأثير عميق
أكد الأستاذ في الجامعات السودانية محمد الناير "أن الارتفاع الحاد الذي شهدته الأسواق كان يمكن احتواؤه أو الحد من حدته لو جرى تبني سياسات اقتصادية مختلفة"، وقال الناير إن "الزيادات الكبيرة في أسعار السلع لم تكن حتمية، إذ كان من الممكن للدولة، عبر تعديل سياساتها، أن تحقق قدراً من الاستقرار أو في الأقل مستويات معقولة ومقبولة من الارتفاع".
وأشار إلى أن المحروقات تمثل نموذجاً صارخاً لخلل السياسات، موضحاً أنه "كان من المفترض، خصوصاً في الظروف الراهنة، أن تتولى الدولة استيراد المحروقات وفق المواصفات العالمية، وأن تطرح للمستهلك بأسعار أقل بنحو 25 في المئة من المستويات الحالية، مما كان سيترك أثراً إيجابياً مباشراً في سلة أسعار السلع والخدمات كافة، باعتبار أن الوقود عنصر مؤثر في القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية، ولا سيما قطاع النقل".
وأضاف أن "الدولة تركت عملية استيراد الوقود للشركات الخاصة، التي تجني أرباحاً كبيرة من ورائه، فيما تتم عملية التسعير بالتنسيق معها، وهو ما أدى إلى ارتفاعات مضاعفة أثقلت كاهل الاقتصاد والمستهلكين". ولفت الناير إلى أن تدمير مصفاة الخرطوم كان ضربة إضافية، إذ كانت تغطي أكثر من 50 في المئة من احتياجات البلاد من المشتقات النفطية، مما أجبر السودان على استيراد كامل احتياجاته من الخارج، ورفع الضغط على سعر الصرف وكلفة الإنتاج والنقل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي ما يتعلق بالسلع الغذائية، أوضح الناير أن "ما حدث لم يكن ندرة حقيقية بقدر ما كان ارتفاعاً في الأسعار"، مبيناً أن تقارير المنظمات الدولية التي قدرت عدد المعرضين لانعدام الأمن الغذائي بـ25 مليون شخص بعد الحرب هي تقديرات "غير دقيقة"، لأن السودان يمتلك نحو 214 مليون فدان صالحة للزراعة يستغل منها نحو 60 مليون فدان فقط، مما يتيح إمكان التعويض في مناطق آمنة حتى مع تعطل بعض المشاريع الكبرى مثل مشروع الجزيرة. وشدد على أن إنتاج الحبوب لم يتأثر وفق المؤشرات المتاحة، وأن الاختفاء الفعلي للسلع لم يحدث.
كما أورد الناير أن عوامل عدة أسهمت في توافر السلع على رغم ارتفاع أسعارها، أبرزها استمرار انسياب الصادرات والواردات عبر الموانئ السودانية والطرق البرية مع مصر، إضافة إلى قدرة الاقتصاد الزراعي على العمل في مناطق غير متأثرة بالنزاع. وأكد أن السلع متوفرة بصورة جيدة في المناطق الآمنة، باستثناء ولايات دارفور وكردفان.
وختم الناير التأكيد أن تأثير الحرب في المستهلك كان عميقاً، إذ ضاعفت أزمة تعطل البنوك وفقدان المدخرات النقدية، التي كان يحتفظ بها المواطنون في المنازل من معاناتهم، غير أن عودة جزء من الكتلة النقدية إلى الجهاز المصرفي تمثل إشارة أولية إلى بدء إعادة التوازن المالي، على رغم استمرار الضغوط المعيشية على نطاق واسع.
تباين الأسعار
انعكست حالة التشظي العميق في الأسواق السودانية التي فرضتها الحرب، في إحداث تباينات حادة في أسعار السلع بين ولايات البلاد، بما يفوق الأنماط التقليدية للفروق الجغرافية. وفي ذلك قال الباحث في "المركز السوداني لدراسة السياسات" مازن كامل "إن التحديات التي فرضتها الحرب، أنتجت تفاوتاً غير مسبوق في الأسعار نتيجة تعطل سلاسل الإمداد واتساع نطاق النزوح وارتفاع كلفة النقل، إضافة إلى تراجع القدرة الشرائية واتساع الفجوة بين مناطق الإنتاج والاستهلاك". وأضاف "أن النزاع المسلح عمق مستويات التضخم، خصوصاً في الولايات المحاصرة أو المعزولة ميدانياً".
وأضاف كامل "يظهر هذا التباين بصورة واضحة في أسعار الحبوب الأساسية مثل الذرة والسكر، اللذين يشكلان جزءاً رئيساً من سلة الغذاء السودانية. فقد سجلت منطقة جنوب الحزام في الخرطوم ومدينة الدمازين بولاية النيل الأزرق ارتفاعاً قياسياً في أسعار الذرة وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، بفعل انقطاع الإمدادات وتراجع النشاط التجاري. في المقابل، ظلت الأسعار أكثر استقراراً في مناطق الإنتاج الزراعي الكبرى مثل القضارف وكردفان، حيث يتوفر المعروض المحلي وتقل تكاليف النقل".
وأردف الباحث "أما الخضراوات الأساسية، مثل الطماطم والبصل، فقد عانت ندرة حادة في عدد من الولايات بسبب انهيار شبكات التوزيع وارتفاع كلفة الشحن وتعطل الطرق البرية التي تربط مناطق الإنتاج بمراكز الاستهلاك. فقد شهدت مدن مثل الأُبيض انعداماً تاماً للطماطم، بينما اختفى البصل فعلياً من أسواق الدمازين، في حين ارتفعت الأسعار بصورة كبيرة في بورتسودان على رغم توفر بعض الإمدادات عبر الميناء، وذلك بفعل زيادة الطلب وتراجع تدفق السلع من الوسط والغرب".
وتابع "تتكرر الصورة ذاتها في أسواق اللحوم، إذ بدت الفجوة السعرية بين ولايات الإنتاج وولايات الاستهلاك أكثر اتساعاً. ففي كردفان ودارفور، مناطق تربية الماشية الرئيسة، ظلت أسعار اللحوم أقل نسبياً، على رغم الضغوط الأمنية. بينما ارتفعت بصورة لافتة في الخرطوم وبورتسودان، نتيجة ضعف الإمداد من مناطق الإنتاج وارتفاع تكاليف النقل وفقدان جزء من القنوات التجارية التقليدية".
ويؤكد الباحث أن "هذه التباينات ليست ظرفية، بل تعكس اختلالاً هيكلياً آخذ في التعمق بفعل الحرب"، مشيراً إلى أن "انتظام الإمدادات وتسهيل الحركة التجارية واستقرار النقل والوقود، تمثل جميعها شروطاً أساسية لعودة مستويات الأسعار إلى نطاق يمكن التنبؤ به". ويرى أن "اتساع فجوة الأسعار بين الولايات سيظل أحد أبرز ملامح الاقتصاد السوداني ما لم تستأنف الحركة الطبيعية بين مناطق الإنتاج والاستهلاك، ويعاد بناء البنية اللوجستية التي دمرتها الحرب".