ملخص
منذ وقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل، كان وليد ينتظر أية فرصة للعودة للبحر الذي يعشقه، يقول "أول ما فكرت به لم يكن الطعام أو المأوى بل البحر، أردت لمس الماء من جديد وصيد الأسماك، لكن الهدنة لم تشمل البحر".
مع انبلاج الفجر على شاطئ غزة ينزل وليد إلى البحر يستمع لصوت الموج الذي يضرب ركام المراكب المدمرة، ويتحسر على الميناء الذي جرف الجيش الإسرائيلي جزءاً منه، بهدوء يحمل صنارته البسيطة القديمة البالية يرمي خيطها في المياه وكأنه يصطاد الأمل والرزق.
منذ وقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل، كان وليد ينتظر أية فرصة للعودة للبحر الذي يعشقه، ويقول "أول ما فكرت به لم يكُن الطعام أو المأوى بل البحر، أردت لمس الماء من جديد وصيد الأسماك، لكن الهدنة لم تشمل البحر".
ضحايا آخرون
في كل مرة يحاول وليد ممارسة حرفته في صيد السمك، يطلق جنود البحرية الإسرائيلية النار ويمنعونه من الإبحار، لكن الرجل عنيد فهو صياد اعتاد مواجهة الموج الهادر ليخرج سمكة من المياه العميقة، لذا قرر عدم الاستسلام.
من بين حقائب النزوح، انتشل وليد صنارة صيد السمك، وهرع نحو البحر وبدأ يدعو أن تلتقط سردينة كبيرة الطعم وتعلق بالصنارة، ويقول "لقد أحرق الجيش الإسرائيلي أثناء الحرب جميع المراكب وقصفها".
في غزة المدينة الفلسطينية الوحيدة التي تطل على الساحل لا يوجد حالياً أي مركب لصيد الأسماك، فكلها دمر خلال الحرب، أما شباك الصيد فجرفها الجيش الإسرائيلي ودمرها، وغرف الصيادين تحولت إلى جبل من الركام، ولم تبقَ للصيادين أية معدات.
إنهاء حرفة
تجري مياه البحر في عروق وليد كما يجري الدم في جسده، لذلك قرر صيد السمك بالصنارة، ويضيف أن "إسرائيل حاولت إنهاء حرفة الصيد من غزة، لكنهم عبثاً يحاولون ذلك، منذ كنت صغيراً وأنا صياد، وأحب هذه الحرفة كثيراً ولا أجيد غيرها".
وباتت الصنارة هي الأداة الوحيدة الناجية من حرب إسرائيل على قطاع الصيد في غزة، ويصف وليد ذلك بالعودة لحقبة العصر الحجري، عندما اكتشف الإنسان قبل 23 ألف عام الصنارة في كهف وسط جزيرة أوكيناوا اليابانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تراجع قطاع الصيد في غزة بعد الحرب، وكانت عودة الصيادين للبحر خجولة، لكنها تحمل عناد الحياة، ويقول عماد "عندما زرت الساحل أول مرة بعد وقف القتال، لم يكُن البحر هذه المرة كما عرفته من قبل، معظم المراكب دمرت، والشباك أحرقت أو جرفها العدوان، فيما تحولت الموانئ إلى مساحات من الخسائر والصمت".
بعد التدمير
وحاول عماد ابتكار وسيلة للبقاء، فحمل شباك صيد صغيرة قطرها خمسة أمتار فقط، وذهب بها نحو الأمواج المتلاطمة في محاولة لاستعادة الرزق الذي سلب منهم قسراً، ويضيف أن "تلك العودة ليست مجرد رحلة صيد، بل فعل صمود لأنني كنت أعتمد على الصيد مصدر دخل، لكن اليوم أصبحت ضمن قوائم البطالة القسرية".
ويرمي عماد شباكه على بعد مترين من الشط، لم يكُن مصاباً باليأس لأن السمك عادة لا يخرج على الشاطئ، وإنما كان مفعماً بالحيوية ويظن نفسه قد اصطاد سردين أو جمبري وفير، ويتابع حديثه "دمرت لي إسرائيل قاربين كانا مصدر رزقي الرئيس، كما نسفوا غرفتي في مبنى الصيادين وسط منطقة الميناء، فقدت جميع معداتي وأدواتي، ظننت أن العودة للبحر شبه مستحيلة بسبب انهيار كامل ضرب قطاع الصيد مع استمرار إغلاق البحر، مما يعني حكماً بإعدام لي ولآلاف العائلات المعتمدة على الصيد".
لكن إدمان عماد على الصيد جعله يعود بشباك صغيرة وصنارة بسيطة للبحر، ويؤكد أنه يخاف من البحر بعدما كان مصدر راحة وعشق، موضحاً أن "أصعب لحظات الصيد الآن حين يظهر الطراد الإسرائيلي فجأة أمامنا، حضوره وحده يحمل الرعب والموت، وعلى رغم ذلك أواصل الصيد".
خوف واعتداءات
وتعرض عماد لإطلاق النار من جنود البحرية الإسرائيلية، ومرة حاولوا اعتقاله، ومرة أخرى مزقوا شباكه الصغيرة، ويشير إلى أن الهدنة الهشة في غزة لم تشمل البحر، مؤكداً أن الحرب لا تزال قائمة في الأبيض المتوسط.
في الواقع، بسبب الأخطار التي تهدد الصيادين، باءت عودة كثير منهم لحرفتهم بالفشل بسبب استمرار المنع والاستهداف الإسرائيلي، إذ تتواصل الاعتداءات اليومية عليهم بما يحول مهنتهم من مصدر رزق إلى مخاطرة دائمة تهدد حياتهم، فالإصابات والاعتقالات وملاحقة القوارب لم تعُد أحداثاً عابرة، بل أصبحت واقعاً يومياً يضيق الخناق على آخر شريان اقتصادي تعتمد عليه آلاف العائلات في القطاع.
150 صياداً
تكشف بيانات نقابة الصيادين عن حجم الكارثة بأبعادها الاقتصادية والغذائية، إذ لم يبقَ سوى 150 صياداً قادرين على العمل ضمن نطاق لا يتجاوز عشرات الأمتار داخل البحر، وبكميات لا تتعدى 300 كيلوغرام من الأسماك يومياً، مقارنة بـ10 أطنان قبل الحرب.
ويقول نقيب الصيادين في غزة زكريا بكر "قطاع الصيد في غزة ليس هامشياً، بل جزءاً أصيلاً من المنظومة الإنتاجية ومكوناً رئيساً من سلة الغذاء المحلية، وما حل به في الحرب ليس ضرراً محدوداً بل دماراً شاملاً للقطاع بكل مكوناته".
ويشرح أن "95 في المئة من ممتلكات الصيادين دمرت، واختفت أجزاء من الميناء نفسه بفعل التجريف، وطاول الدمار غرف الصيادين ومخازنهم التي كانت تحوي معداتهم وشباكهم ومحركاتهم، وحتى مصانع الثلج وسوق السمك لم تسلما من القصف، الخسائر المادية المباشرة تقدر بعشرات ملايين الدولارات، فضلاً عن خسائر غير مباشرة قيمتها شهرياً 7 ملايين دولار، والأدهى من ذلك أن إسرائيل ما زالت تمنع الصيادين من دخول البحر حتى الآن، أي إن الشلل لا يزال قائماً".
ويبين بكر أن 150 صياداً فقط الذين عادوا لحرفة الصيد من أصل أكثر من 4500 كانوا يعملون في البحر قبل الحرب، ومعظمهم يستخدم مراكب بدائية صنعوها من أبواب ثلاجات وإطارات سيارات وقطع فلين لتعويمها، وما يصطادونه لا يتجاوز اثنين في المئة فقط من الإنتاج الطبيعي، مما أدى إلى ارتفاع أسعار السمك بصورة كبيرة.
1950 قارباً مدمراً
هذا الانهيار أدى إلى حرمان آلاف الأسر من الفسفور البحري، فيما دفعت البطالة الناتجة من تدمير 1950 قارباً إلى بلوغ نسبة العاطلين بين الصيادين 97 في المئة، ويؤكد بكر أن هذه الأرقام تجسد انهياراً كاملاً لسلسلة القيمة الغذائية في القطاع.
ويوضح أنه مع اتساع رقعة الدمار وتواصل الاعتداءات الإسرائيلية، لم يعُد أمام الصيادين سوى التوقف القسري عن العمل، لافتاً إلى أن الحرب قتلت 230 صياداً واعتقل خلالها 60 آخرين، إضافة إلى 20 صياداً أثناء وقف إطلاق النار.
وحالياً لا يسمح للصيادين بالإبحار لأية مسافة في ساحلهم، وتُمنع المركبات القليلة الباقية التي تعمل بالوقود من دخول البحر. ويظهر بكر أن عملية الصيد تتم فقط عبر مركبات صغيرة تجر باليد تعرف بالحسكات، أو بالصنارة، أو بالشباك الصغيرة فقط.
ويشير نقيب الصيادين إلى أن هذه القيود المفروضة على المعابر ومنع إدخال الغذاء حرما الغزيين من حق الاكتفاء بمصادرهم المحلية وتوفير بديل للأطعمة المستوردة.
خلل في الموسم
بينما كان بكر يتحدث، قطع كلامه تهليل صياد علقت بصنارته سمكة وشعر بثقلها وسحبها، ويؤكد أن "هذه متعة لا مثيل لها، الصيد بالصنارة، على رغم مردوده المالي القليل، يحمل متعة لا يعرفها إلا من جربها".
الصيد بعد الحرب لا يشبه الصيد قبلها، الصياد زاهر يقول "الصنارات تضررت والخيوط مفقودة ومحال بيع الأدوات دمرت، وكل ما نملكه بسيط ونعيد استخدامه مرات ومرات، حتى الأسماك تغيرت، فمواسمها اختلّت ولم تعُد كما كانت، فموسم الدنيس مثلاً يفترض أن يبدأ في منتصف أيلول (سبتمبر)، لكنه تأخر ولم يظهر بعد".
أكلت الحرب موسم الصيد كاملاً الذي يمتد من أبريل (نيسان) وحتى أكتوبر (تشرين الأول)، وأكلت معها الثروة السمكية التي كانت المياه الراكدة مأواها، وكما يذكر زاهر فإن أسماكاً مثل البوري والمليطة كانت تعيش داخل حوض الميناء، لكن بعد دمار الحوض أصبحت قليلة جداً.
ويقول الصيادون إن "الحرب انتهت، لكن لم يفتح لنا البحر بعد، فتوقف القصف البري لم ينسحب على البحر، إذ إن تقدم الصيادين أمتاراً قليلة يجعلهم في مرمى الزوارق الإسرائيلية، أو عرضة للاعتقال، فالتقدم في العمق بات يعرف لديهم بالمخاطرة الأمنية".
وفي إسرائيل، تقول المتحدثة باسم الجيش الإسرائيلي إيلا واوية "حذرنا الغزيين من دخول البحر، ما زالت هناك قيود، ويمنع دخول الشاطئ".