ملخص
بعد عامين من الحرب، يعيش الغزيون لحظة هدنة تمنحهم أملاً حذراً في السلام، وفرصة نادرة لاستعادة أنفاسهم وتخيل مستقبل يتجاوز الدمار والخوف، على رغم استمرار الطنين في السماء وتذكيرهم بأن الحرب لم تغادرهم تماماً.
في غزة، ألفى الانتظار أسلوب حياة. وعلى امتداد عامين، بدا كما لو أن الوقت نفسه قد توقف يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ولم يعد ليستأنف حركته سوى البارحة فقط. أما الأيام التي مرت بين التاريخين، فاختلط بعضها ببعض، واستحالت ضباباً ثقيلاً لا يمكن تمييز ملامحه، كما لو أنه خيال، إلى أن جاءت تلك الليلة الأخيرة التي تغير فيها الهواء بعد طول انتظار وبدا أن الوقت قد استأنف مسيرته مرة جديدة.
طوال أيام، التصقنا بهواتفنا، نرصد كل إشاعة وكل خبر جديد عن المفاوضات في مصر. وترددت عبارة "وقف إطلاق النار" على كل الألسنة، مجبولة بالشوق والشك. سألني جار لي "هل تعتقد حقاً أنه سيتحقق هذه المرة؟".
لا يمضي الانتظار في غزة بسلبية، بل يمر ممزوجاً بالخوف والخسارة وهمهمة المسيرات وأصوات ناقلات الجند المدرعة المفخخة. وكل ساعة يظهر عنوان جديد وخسائر جديدة في الأرواح، معظم الأحيان.
على مدى عامين، عاشت غزة كابوساً يجب ألا يعيشه أحد. أبيدت عائلات كاملة. وانتشر الجوع والمرض في الملاجئ والشوارع، واختطف الأرواح بصمت. تحولت الجامعات والمستشفيات والمدارس إلى ركام. ومع ذلك وسط كل هذا، لم نتوقف عن تخيل مستقبل مختلف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أولئك الذين اضطروا إلى النزوح جنوباً لا يتوقفون عن الاتصال بنا- أصدقاء وأقارب وزملاء. يسألون عن أحوالنا وعن مدينة غزة وعن منازلهم التي أصبحت أكواماً من الأنقاض. يحلمون بالعودة إلى الشمال عند الإعلان عن توقف النيران. حتى إن بعضهم حاولوا العودة على رغم المخاطر- فشقوا طريقاً خطراً لدرجة أنه يسلب كلمة "البيت" معناها الحقيقي. وفي هذه الأثناء، نتمسك نحن الذين بقينا هنا- في مدينة غزة وفي الشمال- بالأمل نفسه، لكن لسبب معاكس: أن يعفينا وقف إطلاق النار من نزوح قسري إلى الجنوب.
أصبحت الحياة في الشمال صعبة بشكل يصعب تصوره. فالدبابات الإسرائيلية على بعد مئات الأمتار فقط من منزلي. وأي انهيار في المحادثات سيعني تقدمها التدريجي داخل حينا، حيث سويت عدة مبان سكنية بالأرض بعد قصفها خلال الأيام الأخيرة. لكن حتى في هذا المكان، يتشبث الناس بأصغر بصيص أمل.
منذ أسابيع، علت الصيحات والهتافات الصاخبة في كل الأحياء ومخيمات اللاجئين. اعتقد كثر لبرهة أن الحرب قد انتهت. كان ذلك في الحقيقة تطلعاً جماعياً- تدريب على الفرح نخزنه للحظة الإعلان عن وقف لإطلاق النار في نهاية المطاف. لكن الاحتفالات همدت بالسرعة نفسها التي انطلقت بها، وعاد صمت الخوف والترقب المألوف ليحل محلها.
ثم حل يوم الثامن من أكتوبر. في تمام الساعة السابعة و22 دقيقة مساءً، علت صيحات الفرح مجدداً- وحملت معها هذه المرة وعداً حقيقياً. انتشرت أخبار تقدم المفاوضات في مصر واحتمال الإعلان عن التوصل إلى اتفاق في غضون ساعات. شاهدت من نافذتي الجيران وهم يصفقون ويصفرون ويصرخون. بعد نحو عامين من المسيرات وصفارات الإنذار والانفجارات، بدا صوت الفرح غريباً بعض الشيء.
في مساء ذلك اليوم، تجمعت عائلتي في غرفة المعيشة، حيث التصق كل منا بهاتفه وشرع يحلل ويناقش كل تقرير. ففي أي نقاش معتاد لكل عائلة في غزة: تطرح النظريات السياسية والآمال والمخاوف. تصورنا أن يصدر الإعلان بحلول التاسعة مساء لكن الساعات مرت وامتدت وطالت.
خلدت إلى السرير وأنا مرهق، ومتمسك بأمل الاستيقاظ على فجر أكثر هدوءاً. عند الساعة الثانية والعشرين دقيقة من بعد منتصف الليل، سمعت طنين هاتفي. وصلتني رسالة من أخي "تم الأمر. توصلوا إلى اتفاق".
قفزت وأنا أمسك بهاتفي وأحاول الانتقال بين إذاعة وأخرى للتأكد من الخبر. عندما سمعت الكلمات أخيراً، جمدت في مكاني. اختلطت مشاعر الفرح وعدم التصديق في داخلي. وانصهرت الأيام الأبدية التي مرت خلال عامين من الحرب، مثقلة بالحداد والنزوح. ولبرهة، أدرك جسدي واقعاً لم يتمكن ذهني من فهمه بعد.
في الصباح، دبت الحياة في المنزل الذي امتلأ بالهمس الحذر والابتسامات. احتضن كل واحد منا الآخر، ورددنا الأنباء كما لو أن النطق بها بصوت مرتفع سيجعلها حقيقة دامغة. لكننا في غزة تعلمنا أن الساعات الأخيرة قبل دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ هي الأخطر في كل مرة- ففي هذا الوقت تبدو السماء في ذروة غضبها وتبدو القنابل أشد وطأة، كما لو أنها تعاقبنا لأننا تجرأنا على الأمل. لم تمر ساعات قبل أن تردنا تقارير عن مقتل 25 شخصاً بالفعل، وهذا تذكير قاتم بأن التغيير الحقيقي لا يأتي سوى ببطء وأن الانتظار ما زال يكلفنا أثماناً بالأرواح.
خرجت كي أرى جيراني. ارتسمت على وجوههم ابتسامات مترددة. ركض الأطفال في الأزقة وهم يصرخون "هدنة!" كما لو أن الكلمة نفسها قادرة على شفاء الجراح. توالت الرسائل من الأصدقاء والطلاب المحتفلين بنجاتنا. وعلى رغم الركام والحزن والإرهاق، انتشر شعور صامت بالارتياح. كنا في حاجة إلى هذه الاستراحة مهما كانت هشة.
لكن حتى الهدنة لم تخل من بعض الأصوات التي ألفناها. لم تغادر المسيرات سماءنا، فهي تحوم فوقنا بلا توقف وطنينها يقتحم كل فكرة وحلم. ربما قلت الانفجارات لكن أصواتها لا تزال تدوي في النهار. هنا في غزة، لا يحل الصمت أبداً حقاً. حتى في اللحظات التي تعدنا بالهدوء، يطن الهواء بأصوات تذكرنا أن طيف الحرب ما زال فوق رؤوسنا.
وهذا الصباح، فيما كنت أسير في الشارع، تناهى إلى مسامعي صوت أحدهم وهو يقول "فلنأمل في أن تدوم هذه". وأدركت أن الأمل هنا ليس ساذجاً. بل هو فعل نجاة متحفظ.
إن صمدت هذه الهدنة حقاً، فلا يمكنها إعادة ما خسرناه. لكنها تمنحنا شيئاً لا يقدر بثمن- الفرصة لأخذ نفس من جديد، واستجماع قوانا وتخيل الحياة ما بعد الدمار.
آن الأوان كي يستعيد العالم إنسانيته- وأن يساعد غزة ليس على النجاة فحسب، بل على إعادة الإعمار: إعمار جامعاتها ومستشفياتها ومنازلها، وشفاء جراح الحرب العميقة وضمان مستقبل يستحقه أبناؤنا، والحرص على بدء التعويض من دون تأخير.
© The Independent