Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اختلال جديد في ميزان القوة الناعمة

رد فعل الصين الحذِر على انكفاء أميركا

رفع علم الصين في روما، مايو (أيار) 2025 (ألكسندرا زميجيل/ رويترز)

ملخص

يتراجع تأثير القوة الناعمة الأميركية في عهد ترمب، ما يمنح الصين مكاسب نسبية محدودة، لكن بكين لا تزال بعيدة عن تقديم نموذج عالمي بديل أو قيادة دولية واضحة. ورغم تنامي جاذبيتها في الجنوب العالمي، يبقى نفوذها محكوماً بالحذر، وتظل صورتها مثار تقدير وقلق في آن واحد.

دأب الرئيس الأميركي دونالد ترمب منذ بداية ولايته الثانية على تفكيك القنوات التقليدية للقوة الناعمة الأميركية، فـ "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" USAID باتت خارج الخدمة، وإذاعة "صوت أميركا" غارقة في معارك تشريعية وقضائية، فيما خفّضت وزارة الخارجية الأميركية بصورة حادة عدد موظفيها وبرامجها، وأدت سياسات التأشيرات والهجرة الجديدة المتشددة إلى جعل الولايات المتحدة أقل انفتاحاً وجاذبية للزوار المحتملين، كما قوضت تعاملات واشنطن القسرية والمرتكزة على المقايضة مع حلفائها مستوى الثقة بها في الخارج.

وسبق أن وصف المسؤول السابق في الـ "ناتو"، جيمي شيا، هذه التحولات الواسعة في "نيويورك تايمز" بأنها "انتحار للقوة الناعمة" الأميركية، وقد رأى كثير من الخبراء والمعلقين أن خسارة الولايات المتحدة هذه تعد مكسباً للصين، وكان عالم السياسة الراحل جوزيف ناي، واضع مفهوم القوة الناعمة، قد حذر مطلع هذا العام من أن الصين "جاهزة لملء الفراغ الذي يصنعه ترمب"، وبشكل موازٍ اعتبر الباحث في مجلس العلاقات الخارجية يانزونغ هوانغ أن خطوات إدارة ترمب "قد عززت حملة الصين لكسب القبول الدولي"، لكنني ناقشت في عام 2022 في مجلة "فورين أفيرز" بأن التنافس الأميركي - الصيني في ميدان القوة الناعمة ليس سباقاً صفرياً على النفوذ، فالبلدان يتبعان نهجين مختلفين لبناء القوة الناعمة: فالصين تعتمد على جذب الدول الأخرى بمكاسب عملية، في حين تضع الولايات المتحدة القيم والمُثل في صلب أدوات تأثيرها، وقد رأت الدول المستفيدة، وبخاصة في ما يسمى "الجنوب العالمي"، أن العروض الأميركية والصينية متكاملة، فقبلت بهما معاً من دون الشعور بأن عليها الاختيار بين أحدهما.

وخلال الأعوام الثلاثة الماضية، ولا سيما منذ إعادة انتخاب ترمب، تحسنت مكانة الصين النسبية بلا شك، فمع انكفاء الولايات المتحدة باتت الصين تبدو لكثيرين شريكاً يسهل التعامل معه وأكثر موثوقية، غير أن هذا لم يجعل من الصين قائداً عالمياً للقوة الناعمة، فعلى رغم استمرار بكين في التركيز على عروضها البراغماتية عبر علاقاتها الدبلوماسية، لكنها قلصت مساعداتها للدول منخفضة الدخل بدلاً من زيادتها، ولم تُظهر أي نية حقيقية لملء الفراغ الذي خلفه توقف "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية"، كما أنها لا تستعد لتقديم نموذج حوكمة عالمي بديل مثل الذي كانت تروج له واشنطن سابقاً.

صحيح أن النظرة إلى الصين باتت أكثر إيجابية مما كانت عليه، لكن هذا التحسن يتفاوت بقوة بين منطقة وأخرى، وحتى أكثر الدول ميلاً إلى الصين تنظر إلى سلوكها بمزيج من التقدير والانزعاج، وقد تكسب بكين مكانة إضافية بفعل التراجع الأميركي، لكن ذلك وحده لا يكفي لترسيخ نفوذ عالمي أكبر خلال الأعوام المقبلة.

الثبات في المسار

تختلف المقاربة الصينية لمفهوم القوة الناعمة عن تعريف جوزيف ناي الأصلي الذي يُركز على الثقافة والقيم والسياسة الخارجية باعتبارها العناصر الأساس لقدرة دولة ما على التأثير في الآخرين من دون إكراه، أما في الأدبيات الصينية فتندمج القوة الثقافية مع القوة المادية، فبكين ترى أن نموذجها التنموي وابتكاراتها التكنولوجية ومساعداتها المادية للدول النامية تُعد جميعها أدوات من أدوات قوتها الناعمة، وليست مجرد امتداد لثقافتها ومبادئها التقليدية.

وعندما يسعى القادة الصينيون إلى كسب تأييد الدول النامية فهم يشددون باستمرار على مبدأ المنفعة الاقتصادية المتبادلة، وفهمهم لحقوق الإنسان بوصفها مرتبطة بالحقوق الاقتصادية والرفاه المادي أكثر من ارتباطها بالحرية الفردية والسياسية، وتقوم دبلوماسية بكين على تقديم فوائد ملموسة للدول الأخرى من صفقات تجارية (يُعلن عنها غالباً في إطار عروض ثقافية)، ومشاريع بنية تحتية أو برامج تدريب وتعليم تستقدم إلى الصين آلاف المسؤولين وصناع السياسات والصحافيين والطلاب.

ومع وصول إدارة ترمب إلى السلطة أصبحت أمام الدول النامية خيارات محدودة لما يمكن أن تقدمه لها واشنطن، فبحسب "معهد لوي" في أستراليا فقد أدت خفوض الإدارة الأميركية الحادة لبرامج "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" إلى جعل المساعدات التنموية المباشرة التي تقدمها الصين للدول الأخرى الأكبر في العالم، كما أن الرسوم الجمركية الأميركية المرتفعة جعلت الصين، التي لا تزال تظهر التزاماً بالتجارة (على رغم الانتقادات لسلوكها غير العادل)، أكثر إتاحة وانفتاحاً اقتصادياً مقارنة بالولايات المتحدة. وفوق ذلك يظهر الانفتاح الصيني على الزوار الدوليين في تناقض صارخ مع القيود الأميركية المتزايدة، إذ تمنح بكين دخولاً بلا تأشيرة لمدة 30 يوماً لمواطني أكثر من 70 دولة، في وقت باتت الولايات المتحدة أقل ترحيباً وأشد تقييداً.

المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في ميدان القوة الناعمة ليست سباقاً صفرياً على النفوذ

 

ومع ذلك لا يبدو أن الصين توسع نطاق مساعداتها الإنمائية على رغم أن سياسات ترمب فتحت أمامها فرصة سانحة، فقد جاءت تعهداتها الأخيرة بإقراض الدول النامية أقل بكثير مما كانت عليه سابقاً، ولا مؤشرات حتى الآن إلى أن بكين تعتزم عكس هذا الاتجاه، فعلى سبيل المثال خلال القمة التي عقدتها الصين في مايو (أيار) الماضي مع مجموعة دول أميركا اللاتينية والكاريبي المؤلفة من 33 دولة، اكتفت بكين بتقديم 9.2 مليار دولار من الائتمان، وهو أقل من نصف ما وعدت به في القمة نفسها عام 2015.

وفي سبتمبر (أيلول) الماضي تعهدت الصين بتقديم 1.4 مليار دولار فقط من القروض إلى أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون، بانخفاض حاد عن تعهدها البالغ 5 مليارات دولار عام 2014، ويعكس هذا التراجع محاولة بكين مراجعة "مبادرة الحزام والطريق" بالتركيز على مشاريع صغيرة وجميلة، أي أصغر حجماً وأقل كلفة، وهو ما يبدو استجابة لضغوطها الاقتصادية الداخلية والديون الكبيرة التي تراكمت على دول المبادرة. وعلى رغم استمرار بكين في منح القروض لجيرانها الأغنياء بالموارد ولعدد من الدول الأعلى دخلاً مثل الولايات المتحدة وروسيا، فإنها تزداد حذراً من الإفراط في إقراض الدول النامية، وفي بعض الحالات أوقفت الصين القروض الجديدة بالكامل كما حدث مع إثيوبيا.

ولا توجد إشارات جدية إلى أن بكين تستعد لسد الفراغات الأخرى التي خلفتها "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية"، فقبل عام 2025 كانت موازنة المساعدات الخارجية الصينية، المختلفة عن تمويلها التنموي، جزءاً بسيطاً من موازنة واشنطن قبل عام 2025، وكان معظمها يُقدم على شكل قروض ميسرة بدلاً من منح، وخلال هذا العام لم تتحرك الصين لتعويض غياب "الوكالة الأميركية" إلا في حالات محدودة جداً، مثل زيادة دعمها لأكبر منظمة لإزالة الألغام في كمبوديا، وتقديم تعهدات غير رسمية بتوفير مساعدات إنسانية لنيبال، وهذه الخطوات الجزئية لا ترقى إلى تحول شامل في دبلوماسية الصين الخارجية.

ومع ذلك لا تتراجع الصين اقتصادياً على امتداد القطاعات المختلفة، فخلال الأعوام الأخيرة ارتفع حجم التجارة والاستثمارات الخاصة الصينية في أميركا اللاتينية والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، لكن العامل المحرك لهذا التوسع هو الشركات التجارية لا الدولة (وإن كانت الحدود بين الطرفين كثيراً ما تبدو ضبابية).

هل الصين نموذج يُحتذى؟

قلصت الولايات المتحدة أيضاً جهودها في الترويج لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في الخارج ولم تعد تسعى إلى ترسيخ صورتها كديمقراطية يحتذى بها، مما يترك فراغاً آخر يمكن للصين نظرياً أن تملأه بأجندة أيديولوجية خاصة بها، لكن بكين قد لا تكون راغبة أو قادرة على ذلك، فقد ركزت في نهجها للقوة الناعمة أقل بكثير على تسويق مُثلٍ سياسية مقارنة بالولايات المتحدة، وقد يتغير هذا تدريجياً خصوصاً مع ترويج المسؤولين الصينيين لمبادئ مثل عدم التدخل، وعرضهم مساراً بديلاً للتحديث والديمقراطية عبر دبلوماسية القمم والدورات التدريبية التي يقدمونها لصناع السياسات الأجانب، غير أن الرسائل الصينية لا تقدم رؤية واضحة لدور البلاد في النظام الدولي، ولا نموذجاً متماسكاً قابلاً للتصدير، على خلاف ما كانت تفعله الولايات المتحدة سابقاً، وربما يكون هذا مقصوداً لأنه يمنح الصين مرونة ويساعدها في تقديم نفسها كقوة أقل فرضاً لنفسها مما كانت عليه الولايات المتحدة.

أحد المحاور الأساس في الترويج الأيديولوجي الصيني اليوم هو إبراز الفارق بين الصين والغرب، فكثيراً ما يندد المسؤولون الصينيون في خطاباتهم وتعليقاتهم العامة بالهيمنة الغربية ويصورون الصين كقوة كبرى مسؤولة ومستقرة، فعلى سبيل المثال انتقد السفير الصيني لدى روسيا في تصريح لوسائل الإعلام الروسية في يوليو (تموز) الماضي الولايات المتحدة بسبب تخليها عن النظام الدولي بعد الحرب، وقدم الصين في المقابل على أنها دولة تفي بوعودها، وفي سبتمبر  الماضي خلال قمة "منظمة شنغهاي للتعاون" في تيانجين، دعا الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى إقامة نظام عالمي "أكثر عدلاً"، وأطلق مبادرة الحوكمة العالمية تأكيداً لالتزامه بالدفع نحو عالم متعدد الأقطاب.

وفي النقاشات مع القادة وصناع السياسات الأفارقة، يحرص الأكاديميون والدبلوماسيون الصينيون على مقارنة الصين غير المتدخلة والخيّرة بالولايات المتحدة التي يُنظر إليها باعتبارها أكثر تدخلاً واندفاعاً، ويُقدم النموذج الصيني للتحديث باعتباره يحترم الخصوصيات الوطنية بدلاً من فرض قواعد غربية جاهزة.

إن تسليط الضوء على ما تعتبره هذه الدول ظلماً في السياسات الأميركية، سواء كان ذلك واقعياً أو مُتخيلاً، يمكن أن يخلق شعوراً جمعياً بالمظلومية مما يدفع بعض الدول إلى الاقتراب أكثر من الصين، وبدورها توسعت "منظمة شنغهاي" للتعاون بقيادة الصين من تركيزها على أمن الحدود إلى الدخول في الدبلوماسية العالمية، ونمت من ست دول عام 2001 إلى 10 دول أعضاء اليوم و14 شريكاً في الحوار، مع دولتين مراقبتين ودول أخرى تنتظر الانضمام، ومع ذلك تبقى الرسائل الصينية محصورة في انتقاد الهيمنة الأميركية والمطالبة بدور أكبر في المؤسسات الدولية وآليات الحوكمة، من دون أن ترسم ملامح نظام عالمي بديل يمكن أن يلهم الآخرين.

 

وعلى نحو مشابه يبدو أن الاضطرابات التي شهدتها الديمقراطية الأميركية أخيراً تمنح الصين فرصة لطرح نموذجها في الحكم أمام جمهور دولي أكثر تقبلاً، غير أن ماهية هذا النموذج لا تزال غير واضحة تماماً، وكما وجدتُ في دراسة أجريتها حول ندوات تدريبية خُصصت لصناع السياسات الأفارقة، فإن المعلمين والمسؤولين الصينيين لا يسعون إلى تقديم النظام السياسي الصيني على أنه نموذج مغاير كلياً، بل يعيدون توظيف المفاهيم الغربية وقلبها للترويج له، ويُقدم الحُكم في الصين على أنه صيغة أخرى من الديمقراطية، ولكن أكثر كفاءة وقدرة على التكيف مع ردود فعل الجمهور. ومع ذلك فنادراً ما يقدم القادة الصينيون في هذه الدورات التدريبية أية خريطة طريق لكيفية محاكاة النموذج الصيني، حتى في القضايا التي تُعد الصين ناجحة فيها على نطاق واسع، مثل التخفيف من الفقر، ففي مشهد لافت خلال ندوة في أديس أبابا، طلب مسؤول إثيوبي من المحاضر الصيني تقديم نصيحة عملية واحدة في الأقل حول كيفية تكرار إثيوبيا إنجازات الصين، لكن خبيراً صينياً آخر تدخل قائلاً "لسنا هنا لتقديم النصائح"، منهياً النقاش بالكامل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ربما تقدم التدريبات التقنية في الزراعة أو في نقل التكنولوجيا الصينية دروساً أكثر تحديداً، لكن مسؤولين وصحافيين أفارقة أخبروني أن النصائح الملموسة في شأن التجربة التنموية والسياسية الصينية الأوسع نادرة للغاية، ومن دون هذه التوجيهات فقد تعرض بكين تجربتها بوصفها مثالاً يمكن الإعجاب به، لكنها لا تقدم نموذجاً قابلاً للاقتباس من دول أخرى، ولا يعني ذلك أن الصين لا تحقق تقدماً جديداً، فخلال الأشهر الأخيرة أثارت الشعبية المتزايدة لمنتجات الثقافة الشعبية الصينية، مثل دُمى "لابوبو" وفيلم الرسوم المتحركة "ني تشا-2"، وعدد من ألعاب الفيديو الشهيرة، إضافة إلى تقنيات صينية مثل منصة الذكاء الاصطناعي "ديب سيك" وعناوين من قبيل "كيف أصبحت الصين جذابة". ويمكن لمثل هذا النفوذ الثقافي أن يُترجم إلى قدر أكبر من التعاطف مع قيم الصين ومبادئ حوكمتها، خصوصاً عندما تنجذب الجماهير الأجنبية إلى الأفلام والألعاب التي تُمجد التاريخ الصيني وتقاليده وتقنياته المستقبلية، وترتبط صادرات مثل دمى "لابوبو" ومنصة "ديب سيك" بوضوح بالبراعة التجارية والتكنولوجية للصين، وهو ما يعزز قوتها الناعمة المادية لكنه لا يضمن بالضرورة انتشار رؤيتها.

مكاسب نسبية

يظل قياس القوة الناعمة تحدياً صعباً بطبيعته، ويُعد الاعتماد على استطلاعات الرأي العام أحد المقاربات التقريبية، وقد أظهرت هذه الاستطلاعات أن الصين حققت دفعة شعبية تلقائية منذ إعادة انتخاب ترمب، فبحسب استطلاع أجرته مؤسسة "بيو" في يوليو (تموز) عبر 24 دولة، لا يزال عدد من ينظرون إلى الولايات المتحدة نظرة إيجابية يفوق من ينظرون إلى الصين، لكن الفجوة تضيق بسرعة فقد سجلت الولايات المتحدة تراجعاً كبيراً في التصورات الإيجابية منذ ربيع 2024، إذ انخفضت الآراء الإيجابية تجاهها 20 نقطة مئوية في كندا وحدها، بينما حققت الصين مكاسب محدودة، وفي استطلاع آخر شمل خمس دول كبرى في أميركا اللاتينية، فضّل عدد أكبر من المشاركين الصين على الولايات المتحدة كشريك اقتصادي في كل البلدان المستطلَعة، بيد أن هذه المؤشرات الإيجابية تأتي مع عدد من التحفظات، فالتصورات تجاه الصين لا تزال شديدة التفاوت، فخلافاً لأفريقيا وأميركا اللاتينية، حيث النظرة إلى الصين إيجابية عموماً، تبقى سمعتها سلبية للغاية في آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا، وفي هذه المناطق يبدو أن الخشية من التهديد الأمني الذي تمثله بكين تتغلب على جاذبية الفرص الاقتصادية حتى مع تراجع الدور الأميركي، وإضافة إلى ذلك فإن تقدير الصين كشريك اقتصادي لا يعني بالضرورة الثقة بقيادتها العالمية، ففي استطلاع "بيو" نفسه في يوليو الماضي قال 66 في المئة، في المتوسط، من المشاركين في 25 دولة إنهم لا يثقون بأن الرئيس الصيني شي "سيفعل الشيء الصحيح في الشؤون الدولية"، وتظهر هذه المفارقة أيضاً في محادثات مع صنّاع السياسات، فقد قال لي مسؤولون إثيوبيون شاركوا في برامج تدريب دبلوماسي في الصين إنهم معجبون بقدرة الصين الاقتصادية ويقدرون عروضها المادية، لكنهم لا يزالون متشككين في وعود بكين بالتعاون القائم على المنفعة المتبادلة، متسائلين "هل هو ربح للطرفين أم ربح للصين فقط؟" وأيضا فإن أن كثيرين منهم يجدون صعوبة في تحديد رؤية الصين للشؤون الدولية خارج إطار السعي إلى المصلحة الذاتية.

لا تقدم الصين رؤية واضحة لدورها في النظام العالمي

 

نادراً ما تعكس استطلاعات الرأي مشاعر الاستياء المكتوم والمخاوف العميقة من القوة الاقتصادية الصينية لكنها تظهر بطرق أخرى، ففي بلد مثل إثيوبيا، الذي يُعد من أكثر الدول ميلاً للنظر إلى الصين بإيجابية، عبّر لي طلاب جامعات في مختلف أنحاء البلاد عن مزيج من الإعجاب والقلق حيال التداعيات البعيدة المدى لمشاريع "الحزام والطريق"، وقد أشار كثيرون إلى عبء الديون الضخم المستحق للصين (إثيوبيا هي ثاني أكبر مقترض أفريقي من بكين)، وإلى احتمال أن تمسك الصين في نهاية المطاف بزمام مشاريع وقطاعات حيوية إذا عجزت البلاد عن سداد التزاماتها، وفي آسيا الوسطى، حيث تميل دول عدة أيضاً إلى مواقف أكثر تأييداً للصين، أصبحت الاحتجاجات المنظمة ضد مشاريع البنية التحتية والطاقة الصينية، وغيرها من القضايا المرتبطة ببكين، أكثر شيوعاً خلال العقد الأخير، أما الدول التي تفضل التحوط بين القوى الكبرى أو تجنب الاصطفاف، فإن تراجع الدور الأميركي يثير لديها قدراً أكبر من القلق لأنه يترك النفوذ الصيني بلا منافس فعلي.

من الباكر الجزم بأن التحسن النسبي في موقع الصين على صعيد القوة الناعمة يُمثل انتصاراً حاسماً، فحتى الآن تبدو بكين وكأنها تكبح اندفاعها بدلاً من أن تستغل بالكامل حال التراجع الأميركي، وهي تستمر في تقديم نفسها كشريك شريك تنموي موثوق يسهل التعامل معه، كما فعلت قبل الإدارة الثانية لترمب، لكنها تُبدي حذراً ملاحظاً في توسيع إنفاقها الخارجي، ولا تزال رسائلها الأيديولوجية تعتمد بدرجة كبيرة على الاستياء من الغرب بدلاً من طرح رؤية دولية بديلة وجذابة أو تقديم دروس سياسية قابلة للتطبيق والتكرار، ولا يزال التحفظ تجاه الصين واسعاً بين كثير من الشعوب، ولا سيما في ما يتعلق بدور بكين كقائد عالمي محتمل.

ومع ذلك قد يكون النهج المحافظ للصين خياراً إستراتيجياً لا دليلاً على ضعفها أو تجاهلها لأهمية القوة الناعمة، فهي تتجنب الإفراط في الالتزام وتتفادى فتح الباب أمام تدقيق أكبر في سياستها الداخلية ورؤيتها الدولية، بينما تستفيد من المكاسب السلبية المجانية الناتجة من الانكفاء الأميركي، وخلافاً لواشنطن في الماضي، تنشغل بكين اليوم بترسيخ شرعية مسارها الخاص أكثر من محاولتها إقناع الآخرين باتباعه، وربما يكون الاكتفاء بتسليط الضوء على التناقضات الصارخة بينها وبين الولايات المتحدة كافياً خلال هذه المرحلة.

 

مترجم عن "فورين أفيرز" 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025

ماريا ريبنيكوفا هي أستاذة كرسي ويليام سي بات للاتصال الإستراتيجي في جامعة ولاية جورجيا، ومؤلفة كتاب "التنافس على القوة الناعمة: بناء صورة الصين في أفريقيا" الذي سيصدر قريباً.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء