Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مذكرات الطفولة" لمارسيل بانيول تعبر الزمن ببراءتها وملذاتها الصغيرة

هذه المرحلة العمرية مهما ابتعدنا عنها تبقى في داخلنا كجزء لا يمكن أن يختفي أبداً من علاقتنا بالوجود

مارسيل بانيول (1895 - 1947) (غيتي)

ملخص

حتى وإن كانت ذكريات طفولة بانيول تتوزع على 4 أجزاء أساسية، فإن الأكثر شعبية من بينها الجزآن الأولان اللذان ينطلق فيهما الكاتب، وقد أربى على الـ60 من عمره، على استعادة ذكرياته العائلية التي يعود أولها إلى ما قبل ولادته حيث يعرفنا على أبيه وأمه.

كان مارسيل بانيول "حدثاً" بالغ اللطف في تاريخ الأدب الفرنسي، بل حتى في تاريخ المسرح والسينما الفرنسيين منذ الزمن الذي عبر به القرن الـ20، ولا سيما خلال النصف الأول من ذلك القرن. وحسبنا في هذا السياق أن نذكر على سبيل المثال، مسرحيته "توباز" التي أمعنت فيها الخشبات والسينمات العالمية اقتباساً، ومن بينها السينما المصرية طبعاً، وحتى فيلمه "زوجة الخباز" الذي يعد من الكلاسيكيات الكبرى في السينما الفرنسية. ولئن كان هذان العملان الشعبيان يخبراننا أن بانيول (1895 - 1974) كان مسرحياً وسينمائياً، فإن عشرات الكتب التي أصدرها طوال مسار حياته وبعدما قرر، ذات يوم، أن يتوقف عن الإبداع الفني في عالم الاستعراض لينصرف بكليته إلى الإبداع الأدبي، عشرات الكتب تخبرنا أنه كاتب من طراز رفيع. ولعل اللافت لديه أن أجمل أعماله هي تلك الرباعية التي تتناول ذكريات طفولته وصباه، ومنها بخاصة الجزآن الأولان اللذان يكادان يكونان في تاريخ الأدب الفرنسي، أجمل النصوص الغائصة في عالم الطفولة، وهما المُعنونان بـ"مجد أبي" و"قصر أمي". وهما الكتابان اللذان عرفا نهضة كبيرة في ثمانينيات القرن الـ20 حين اقتبستهما السينما الفرنسية في فيلمين بديعين قال النقاد عنهما حينها إنهما لم يكتفيا بإعادة بانيول بعد موته بعقد من الزمن، إلى واجهة الحياة الثقافية الفرنسية من جديد، بل أعادا إلى السينما الفرنسية نكهة حنان وحنين وعلاقة بالطبيعة، كانت تفتقر إليهما منذ زمن، لتعود النكهة مجدداً في فيلمين تاليين مأخوذين كذلك عما يشبه سيرة الكاتب الذاتية "مانون الينبوع" و"جان لا فلوريت"، بيد أن هذه الجزئية موضوع آخر. فما يهمنا هنا بالتحديد هو كتابا الطفولة الأولان.

طفولة عائلية مبكرة

حتى وإن كانت ذكريات طفولة بانيول تتوزع على 4 أجزاء أساسية كما أشرنا، فإن الأكثر شعبية من بينها الجزآن الأولان اللذان ينطلق فيهما الكاتب، وقد أربى على الـ60 من عمره، على استعادة ذكرياته العائلية التي يعود أولها إلى ما قبل ولادته، حيث يعرفنا على أبيه وأمه، الأب جوزيف الذي بدأ حياته حرفياً لينهيها لاحقاً مدرساً في بعض أشهر المدارس الثانوية في المنطقة من الجنوب الفرنسي التي ولد فيها كاتبنا وإخوته، وتنقل تبعاً لتنقلات والده الوظيفية، ولكن بخاصة في أحياء متفرقة من مدينة مارسيليا التي سيضحى مارسيل كاتبها الأكثر شعبية بامتياز، لكنه لن يكتفي بذلك من علاقته بها، بل إنها ستضحى شخصية أساسية وحية في الكتاب الأول وما سيليه بأحيائها المدينية وتخومها الريفية، بل حتى المناطق ذات الطبيعة الخلابة التي كان يقصدها، بخاصة مع أبيه الذي كان الصيد هوايته الكبرى و"مجده" العظيم، هواية ستنتقل إلى الابن، ولكن من خلال هيامه بالطبيعة لا بقتل الحيوانات. والطريف أن مارسيل كما يخبرنا، كان في طفولته المبكرة متأرجحاً بين إيمان أمه الكاثوليكية الورعة، وعلمانية أبيه الجمهوري الليبرالي الذي كان يؤمن بفصل الدين عن الدولة، والذي سيكون أول ما يخبرنا به الكاتب، في "مجد أبي" هو كيف أن الأب كان معارضاً تماماً لتعميد مارسيل في الكنيسة، ما اضطر الأم إلى تعميد هذا الأخير سراً. واللافت أن مارسيل لا يصف لنا هذا الحدث الخطر في حياته والتناقض فيه بين موقفي والديه، بلهجة درامية تتماشى مع خطورة الحكاية، بل بلهجة مرحة من نوع المرح الذكي الذي يطغى على الكتاب ككل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولع بالطبيعة

غير أن الوالدين لا يشغلان الحيز الأكبر من الجغرافيا البشرية في طفولة بانيول، وفي الأقل في الجزء المعنون "مجد أبي". فهناك أفراد آخرون أيضاً من العم جول إلى إخوة مارسيل إلى الجيران والخدم والأصدقاء. وهؤلاء يعودون جميعاً على صفحات خطها الكاتب بقلم بالغ الحنان والود، يصف لنا فيها ليس فقط علاقة أسرته الصغيرة بهم، بل تأرجحات حياتهم نفسها عبر فصول ومقاطع بالغة الجمال وتحرص دائماً على أن تجعل للطبيعة مكاناً مميزاً فيها. ولئن كانت قراءة كل تلك الصفحات كشفت لنا كم أنها مفعمة بالجمال ومهادنة الآخرين، فإن ثمة 3 مشاهد لا يمكنها أن تبارح الذهن من بعد إغلاق صفحات الكتاب، مشاهد يصور لنا فيها الكاتب حياته وذكرياته، خير تصوير: أولها وصفه ذلك اليوم الذي اكتشف فيها الجميع، بمن فيهم مارسيل نفسه، أنه وهو في الرابعة من عمره، يحسن القراءة بصورة مدهشة وبصورة مباغتة، ويتبين أنه تعلمها بصمت وعلى حدة من دون أن يعلمه إياها أحد. وهو يقول عن هذا إنه نتج من عشقه الكلمات ولغة من دون أن يعرف كيف.

والمشهد الثاني هو ما راح يفعله من اقتناء كراس صغير أخذ يدون عليه، ومن دون أن يعلمه ذلك أي بالغ آخر، كل ما يخطر في باله ليدهش هو بما يكتب قبل أن يدهش الآخرون. أما المشهد الثالث فيروي كيف أن أباه قدم له ذات يوم ترجمة لرواية الكاتب الأميركي فينيمور كوبر ناصحه بأن يقرأ "آخر الموهيكان" بعناية، وكان يومها في العاشرة من عمره. ولعلنا لسنا في حاجة هنا إلى تصور أن تلك كانت بفصولها الثلاثة، مدرسة مارسيل بانيول الأدبية الأولى، لكنها لم تكن الوحيدة، فالحقيقة أنها متضافرة مع رحلات صيد أبيه، كانت الثانية وربما الأكثر أهمية في حياته.

الأم الغائبة

في الجزء الثاني " قصر أمي" تميل نبرة بانيول إلى قدر من الحزن المشوب بالحنين، فالأم تشارك في الرحلات الطويلة إلى منزل العائلة الكبيرة، وتجابه مشاق الطريق على رغم ضعفها، وتتحول تدريجاً إلى رمز للحب الهادئ الذي يعجز عن إعلان نفسه. وفي هذا الكتاب يبدأ الطفل في إدراك هشاشة الأشياء التي كان يعتقدها ثابتة، فتظهر نبرة الوداع التي ستصبح لاحقاً عنصراً أساساً في أعمال الكاتب. لا يصرح بانيول بذلك مباشرة، لكنه يبثه في التفاصيل: في خطوات الأم البطيئة، في التعب الذي لا تشتكي منه، وفي اللحظة التي يبدأ فيها الطفل بفهم أن العالم أكبر من أن يبقى على حاله التي نريده أن يبقى عليها. وفي السياق ثمة جانب آخر يضفي على مذكرات طفولة بانيول قيمة أدبية خاصة وهو وصفه المدهش لطبيعة منطقة بروفانس في الجنوب الفرنسي. فالطفل يكتشف التلال والينابيع والوديان والغابات، ليرى نفسه في مواجهة عالم يبدو أكبر من حياته كلها، عالم يستدعي الخيال ويغذيه. وهذه الطبيعة، كما أشرنا، ليست مجرد خلفية، بل تصبح جزءاً من الهوية نفسها، حتى إن القارئ يشعر في كثير من اللحظات أن بانيول لا يتذكر طفولته فحسب، بل يتذكر طفولة المكان أيضاً، ذلك الريف الذي صار مع مرور الزمن جزءاً من الحنين الوطني الفرنسي، وهذا ما يجعل من هذه الذكريات أكثر بكثير من مجرد وثيقة شخصية، بل هي شهادة حية على زمن كان يصنع التاريخ الحي للحياة الاجتماعية في فرنسا ما بين الحربين العالميتين: زمن التعليم الجمهوري والأسرة المتماسكة والطبيعة الحاضرة في تفاصيل الحياة، لكنها تظل على رغم هذا البعد التاريخي، عالمية في جوهرها لأنها تتناول ما هو أبدي: دهشة اكتشاف العالم، الحب العائلي الأول، الخوف من الفقد، وأولاً وأخيراً، فكرة أن الطفولة مهما ابتعدنا عنها، تبقى في داخلنا كجزء لا يمكن أن يختفي أبداً من علاقتنا بالوجود.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة