ملخص
انطلق أطفال عصام وابتهال بسرعة بين القبور، يركضون ويلهون، فالأطفال ما زالوا قاصرين ولا يدركون أين يعيشون الآن، وفجأة عثر أحدهم على عظام ساق حملها بيده واقترب من أبيه يسأله "ما هذا؟"، انصدم الوالد وصمت طويلاً.
انتبهت ابتهال لصوت جنازير المدرعات العسكرية تتحرك، صرخت رعباً تنادي على زوجها "عصام هناك حركة مريبة للجيش الإسرائيلي"... من نافذة غرفة معظم جدرانها مدمرة، اختلس الرجل النظر، وهرع يلملم أشياء بسيطة، وهو يفعل ذلك أخذ يبلغ أسرته "الجيش الإسرائيلي يحرك الخط الأصفر غرباً علينا النزوح فوراً".
تعيش أسرة ابتهال إلى جانب كتل خرسانية على شكل مكعبات أسمنتية صفراء تسمى "الخط الأصفر"، الذي يفصل بين سكان غزة ومكان انتشار جنود الجيش الإسرائيلي الذين ما زالوا يحتلون نصف مساحة القطاع، وبالطبع فإن هذا الجدار يقسم منطقة الحرب إلى مدينتين: غزة الشرقية التي تخضع لسيطرة تل أبيب، وغزة الغربية التي تسيطر عليها "حماس".
يتمدد لا يتقلص
وعلى رغم أن هذا الخط الجديد الذي أنشئ بموجب اتفاق وقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل، من المفترض أن يكون ثابتاً وموقتاً لحين انتهاء تسليم جثث الرهائن، أو يتقلص مع بدء المرحلة الثانية من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، لكن ما يحدث على الواقع عكس ذلك، إذ يزحف هذا الخط ويتمدد أكثر.
أمس الخميس حرك الجيش الإسرائيلي الكتل الخرسانية التي تحدد الخط الأصفر والمناطق التي يمنع على الغزيين الاقتراب منها نحو الغرب قرابة 500 متر، وهذا يعني أن تل أبيب زادت مساحة المنطقة التي تسيطر عليها، وقلصت مساحة المنطقة التي يعيش فيها الغزيون.
بسبب زحف الخط الأصفر غرباً، اضطرت العائلات التي عادت إلى مناطقها السكنية التي انسحب منها الجيش الإسرائيلي إلى النزوح مجدداً على رغم توقف إطلاق النار، وهذا ما حدث فعلاً مع أسرة ابتهال، لكن القصة ليست في النزوح هذه المرة.
نزوح نحو المقابر
هربت ابتهال وهي تحمل طفلها الرضيع على ذراعها اليمنى وفي يدها اليسرى ترفع حقائب النزوح من هيكل بيتها المدمر، تبحث عن أي مكان تؤوي أهل بيتها فيه، لكن كل ما تجده عبارة عن ركام المنازل التي دمرها الجيش الإسرائيلي.
بعد عناء، لجأت ابتهال إلى مقبرة قريبة وطلبت من زوجها المتعب نصب خيمتها المهترئة بين شواهد القبور، أما هي فجلست على ناصية قبر وراحت تبكي "ضاقت بنا غزة، ظننت أنه مع توقف إطلاق النار سينتهي النزوح، تحولنا إلى كائنات ميتة تتنفس، وتعيش في المقابر بجوار الأموات".
انتهى زوجها من تركيب الخيمة، وبدأت ابتهال ترتب حقائب النزوح، وهي تتحدث عن وجعها "أصبحت الهياكل العظمية جيراننا، كيف سننام الليلة وسط الأموات وبين هذا الرعب" تصمت قليلاً ثم تنفجر، تلعن الحرب وظروف غزة الصعبة والحياة المريرة.
عظمة إنسان ميت يحملها طفل صغير
يقطع عصام حديث زوجته الغاضبة، ويقول "قبل الحرب كنا نخاف عندما ندخل المقابر لدفن الأموات، لما في ذلك من رهبة وخوف، أما الآن لم يعد هناك فرق، سواء عشنا بين الأحياء أو الأموات" يبدو أن الرجل لم يتجرع بعد فكرة أن يعيش في مقبرة.
انطلق أطفال عصام وابتهال بسرعة بين القبور، يركضون ويلهون، فالأطفال ما زالوا قاصرين ولا يدركون أين يعيشون الآن، وفجأة عثر أحدهم على عظام ساق حملها بيده واقترب من أبيه يسأله "ما هذا؟"، انصدم الوالد وصمت طويلاً.
يضيف عصام "مؤسف عندما يأتي طفلي وهو يحمل قطعة من العظم ويسألني عنها، كيف أجيبه وأقول له هذه عظمة إنسان مثلك وهنا تقشعر الأبدان، حتى خلال محاولة زرع أوتاد الخيمة، استخرجت من الأرض عظاماً وكان هذا الأمر مفزعاً وخطراً، لكني مجبر على هذا الواقع لعدم توفر بدائل".
يسألنا عصام "هل يمكنك أن تتخيل نفسك تنام داخل مقبرة وبجوار قبر؟!"، ثم يكمل حديثه "إنه موقف مهول، لا أعرف شعوري إذا كان مجرد رعب أو قلق، على أية حال تحولت شواهد القبور إلى مكان أعيش فيه".
جارها صبي قتل في عمر الـ16
العيش في المقابر لا يقتصر على عائلة عصام وزوجته ابتهال، فهذه ميساء أيضاً تعيش في المقبرة منذ شهر تقريباً، وتقول "عندما تغيب الشمس، يخاف الأطفال ولا يريدون الخروج، ولديَّ أربعة صغار، إنهم يخافون من الكلاب في الليل، ومن الأموات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعيش أسرة ميساء حياة صعبة للغاية، تغسل الملابس على يديها، أطفالها الصغار يجلبون لها الماء بواسطة عبوات من مناطق بعيدة منهم، ويستخدمون كرسياً متحركاً لأجل دفع الماء للمقبرة التي يعيشون فيها.
الجار القريب من ميساء هو قبر صبي قتل في الحرب عن عمر يناهز 16 سنة، تنظر نحو شاهد المدفن وتقول "أحس بانتهاك حرمة الميت، لقد اضطرنا إلى نصب خيامنا هنا، لكن لا خيار آخر أمامنا، أنا سيدة بالغة وعلى رغم ذلك أخاف ليلاً من القبور أختبئ في خيمتي".
أسباب صعبة
كثرة النازحين الذين لجأوا إلى الأراضي في غزة وقلة المال سببان أجبرا العائلات على العيش بين القبور، إذ تبلغ كلفة إيجار قطعة أرض صغيرة مساحتها 50 متراً مربعاً 300 دولار شهرياً لبناء خيمة عليها، وهذا مبلغ باهظ بالنسبة إلى معظم سكان غزة المطلوب منهم شراء الطعام بسعر مضاعف.
عزيز يرى حال الحي الذي يعيش في مقبرة كحال الميت، يقول "لم نجد مكاناً سوى هذه المقبرة، نعتذر للأموات وذويهم لأننا تسببنا في إزعاجهم واكتظاظ المكان، هنا تنتشر الأشواك والزواحف الخطرة والحشرات، ولا يوجد أي خيار آخر للعائلة في ظل اكتظاظ الأماكن وحالة الازدحام الكبيرة جداً".
خرق فاضح لكن إسرائيل تنفي
بسبب تحريك الخط الأصفر غرباً وجدت مئات الأسر نفسها بلا مأوى بعدما ابتلع المزيد من منازل الفلسطينيين في خرق واضح لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة، يقول متحدث "حماس" حازم قاسم "لقد تسبب ذلك بنزوح جماعي، إسرائيل ترتكب خرقاً فاضحاً بعملها المستمر على إزاحة الخط الأصفر بصورة يومية باتجاه الغرب، هذا التغيير على الخط الأصفر يخالف الخرائط المتفق عليها في اتفاق وقف الحرب".
لكن المتحدثة باسم الجيش الإسرائيلي إيلا واوية تنفي أي تغييرات على الخط الأصفر وتقول "نعمل في المنطقة الصفراء بغزة وفقاً لاتفاق وقف إطلاق النار من دون أي تغييرات".