Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ظلال التيتانيك" تطرح سؤال الهجرة اللبنانية إلى أميركا

محمد الحجيري يروي مغامرة المغترب متري وتحولات قرن

أسطورة التايتانك (سوشيل ميديا)

ملخص

كثيراً ما يُصدّر الروائيون رواياتهم بتصدير ينفون فيه صلة الرواية بالواقع، ويعزون أيّ تشابه بينهما إلى محض الصدفة، في محاولة مكشوفة منهم للتنصّل من تبعات المَرْوِيّ. غير أن هذا النفي كثيراً ما يستبطن الإثبات. وهذا ما ينطبق على رواية "ظلال التيتانيك" للروائي اللبناني محمد الحجيري، الصادرة حديثاً عن دار نلسن في بيروت. فالرواية تتشابه مع الواقع، إلى حدٍّ كبير، في المكان والزمان والشخوص والأحداث.

نشير أولاً إلى أن التيتانيك هي أكبر سفينة، في زمنها، غرقت في شمال المحيط الأطلسي، في 15 أبريل (نيسان) 1912، إثر اصطدامها بجبل جليدي، خلال رحلتها البحرية الأولى، من ساوثهامبتون إلى نيويورك، ما أدّى إلى وفاة أكثر من 1500 راكب من أصل 2224 راكباً، كانوا على متنها. واعتُبِرَت، في حينه، أكبر كارثة بحرية في التاريخ. وشكّلت مصدر إلهام لأعمال فنية وأدبية؛ فحوّلها المخرج الأميركي جيمس كاميرون إلى فيلم سينمائي عام 1997، وتنبأت بها رواية "حطام تيتان" للروائي الأميركي مورجان روبرتسون عام 1898، واستلهمتها الروائية الأميركية دانيال ستيل في روايتها "امرأة صالحة"، ووضع فيها المؤرّخ الأميركي والتر لورد، مستنداً لشهادات الناجين، كتابه "ليلة لا تنسى" عام 1955. ولعلّ آخر الأعمال الأدبية التي تستلهم تلك الكارثة، بعد مرور 113 عاماً على حصولها، هي رواية "ظلال التيتانيك" لمحمد الحجيري. غير أن هذا الاستلهام الأخير يتخذ منها مجرّد ذريعة للكلام على الهجرة، ولا يجعلها محوراً للأحداث.

يطرح الحجيري سؤال الهجرة إلى الغرب الأميركي، في القرن العشرين، هرباً من الفقر والجوع والبؤس والحرب، وبحثاً عن حياة كريمة في العالم الجديد، غنمها بعضهم، وعاد بعضهم الثاني من الغنيمة بالإياب، وتقطّعت السبل ببعضهم الثالث.  ويرصد ما يعانيه المهاجر في هجرته من قلق واقتلاع وغربة ووحدة وفقر وحنين، وما قد يتعرّض له من أخطار تحول دون بلوغه غايته، ومنها خطر الموت غرقاً، كما حصل لمهاجري التيتانيك. وهو يفعل ذلك من خلال حكاية متري التي يُفرّع بها عنوان الرواية الأصلي.

ثلاثة أجيال

تجري الأحداث في "ظلال التيتانيك"، خلال القرن العشرين، في أمكنة روائية متنوّعة. تتراوح بين الريفي (كفرمشكي)، والمديني (بيروت)، والصناعي (التيتانيك)، والاغترابي (نيويورك وأوتوا). وتغطّي ثلاثة أجيال؛ الجدّ (اسكندر)، والأبناء (مخايل وإيليا وجوزف)، والحفيد (متري). وتتمحور حول هذا الأخير، المولود في كفرمشكي عام 1942. وترصده في مراحله العمرية المختلفة، بدءاً من طفولته في القرية، مروراً بمراهقته وشطر من شبابه في بيروت، وصولاً إلى الشطر الآخر منه وكهولته وشيخوخته في أوتوا الكندية، وما تتضمّنه هذه المراحل من دراسة وعمل وزواج وهجرة وطلاق وغيرها.

يرسم الحجيري لروايته مساراً دائرياً، تلتقي فيه البداية والنهاية في تقديم الشخصية المحورية عجوزاً في الثمانين من العمر، وقد راحت حياته تتصدّع ببطء، فراح يستعيد وقائع سيرته التي هي سيرة أجداده وقريته وهجرته. والمفارق أن هذه الاستعادة يوليها الكاتب إلى الراوي العليم بدلاً من إيلائها إلى صاحب العلاقة. وفي محطات هذه السيرة: نشأته في أسرة تفتقر إلى التفاهم، يتباخل فيها الأب على أفرادها، وتقوم الأم المصابة بخلل نفسي بتعنيف الابن بقسوة. دراسته المرحلة الابتدائية في مدرستي القرية الرسمية والخاصة. دراسته المرحلة التكميلية في الكلّية الوطنية في الشويفات. دراسته المرحلة الثانوية في ثانوية الراعي الصالح في الأشرفية. زواجه من ابنة السمراني التي تخونه مع ابن خالتها. تعرّضه للخطف في منطقة البربير في مايو (أيار) 1976. هجرته مع أسرته إلى كندا.

نقاط تحوّل

كان لكلٍّ من هذه المحطات تأثيرها في حياة الشخصية المحورية؛ فَتَعَرُّضه للضرب المبرّح، على يدي الأم، يجعله يفشل في الحب. وإدمان المعلم نجيب، في مدرسة القرية الخاصة، على معاقرة الخمر، يدفعه للانتقال إلى مدرسة "الأفر غرين" في الأشرفية. وضيق زوجتي عمّيه مخايل وإيليا به يعيده من حيث أتى. ودخوله القسم الداخلي في الكلية الوطنية يشعره بقيمة الحرية. وتَعَرُّضُهُ للخطف يدفع به إلى الهجرة. وهكذا، تشكل بعض الوقائع نقاط تحول في حياة متري، فتجري وفق ما هو مقدّر له لا ما يختاره بنفسه. غير أن نقطة التحوّل الأكثر تأثيراً في حياته تتمثّل في خيانة زوجته له، فَيُلازمه وسواس الخيانة طيلة حياته، ويرهق كاهله شعور بالندم لعدم طلاقها في حينه، ويجد نفسه عاجزاً عن اتخاذ القرار بشأنها. لا هو يطيق الإقامة معها ولا يستطيع أن يطلّقها. وحين يرفع عليها دعوى طلاق في السنوات الأخيرة من عمره تحكم المحكمة الروحية لها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهكذا، تتجاذب الشخصية مجموعة من الثنائيات، تتموضع بين طرفي كلٍّ منها، وتعجز عن اتخاذ الموقع الذي يريحها. ومن هذه الثنائيات: الماضي/ الحاضر، كفرمشكي/ أوتوا، لبنان/ كندا، الزواج/ الطلاق، الحب/ الخيانة، الغربة/ الحنين، وغيرها. ولعلّ هذه الحالة من التجاذب والتموضع والعجز تلازم المهاجرين، على اختلاف مهاجرهم، لا سيّما في الشهور الأولى للهجرة. أما أن تلازمهم طيلة حياتهم، كما هي حالة متري، فنكون إزاء شخصية تعاني من أعطاب نفسية. لذلك، نراه في الثمانين من عمره يتابع كل ما يتعلق ببلدته كفرمشكي، ويهتم بكارثة التيتانيك التي حصلت، قبل ولادته بثلاثين عاماً، لأن اثني عشر راكباً من أبنائها قضوا فيها، ويقرر أن يروي وقائع سيرته لعلّه يتحرّر برويها ممّا يثقل كاهله من محطات هذه السيرة، وهو ما يسنده الحجيري إلى الراوي العليم. وعليه، حكاية متري نصرالله هي حكاية الآلاف من اللبنانيين الذين دفعت بهم الظروف إلى الهجرة، فانقطعوا عن جذورهم، وتقطّعت بهم السبل، فماتوا في المهاجر.

هذه الوقائع، بمعزل عن مشابهتها الواقع أو مفارقتها له، تشكّل المادّة الأولية التي يصنع منها محمد الحجيري روايته. وهو يفعل ذلك وفق مقتضيات الفن الروائي؛ فيطيح خطّية السرد، ويقوم بتوزيعها على الوحدات السردية المختلفة بمقادير معيّنة، فيقدم ويؤخر، ويُجْمل ويُفصّل، تبعاً لهبّات ذاكرة الراوي ووظيفة المروي الفنّية. لذلك، نتعرّف إلى متري نصرالله الثمانيني في بداية الرواية ونهايتها، ونتعرف إليه في مراحله العمرية الأخرى ما بين البداية والنهاية، في خروج على الخطّية الزمنية التي تعتري الرواية التقليدية، مما يطيح الحبكة الروائية، ويقدم متناً روائياً يخرج على الشكل الهرمي المعروف إلى آخر دائري. وهنا، نقع على مفارقة بين المادّة الأوّلية المشابهة للواقع وطريقة تشكيلها المفارقة له. ذلك أن المشابهة تتمظهر في الرواية في الزمان المحدّد بالسنوات والأشهر والأيام وحتى الساعات، والأماكن المسماة بأسمائها، والشخوص المحددة بالاسم وتاريخ الولادة والسفر والموت، والأحداث التاريخية التي حصلت بالفعل. وهذه التمظهرات تقترب بالرواية من الرواية السيرية والتاريخية، وتجعل منها وثيقة روائية شاهدة على تحولات قرن بكامله.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة