ملخص
أرى الشعراء والكتاب في نومهم الأبدي، وهم يفترشون التراب الغريب القاسي، قلقين كما كانوا في حياتهم في المنافي، يتقلبون على جوانبهم.
لا تشغل بال الكاتب العربي شؤون الحياة المعقدة السياسية والاجتماعية فقط، بل هاجسه أيضاً سؤال يسكن داخله كالنفس: بأي أرض سأموت يوماً، وأين سيكون مرقدي الغريب الأخير؟
يفكر الكاتب العربي في تراب قبره كما يفكر في سقف البيت الذي يقيم فيه حياً.
حين يرقد الغريب في قبر غريب في بلد غريب تكون الفاجعة مضاعفة والتراجيديا الإنسانية في قمتها.
إن علاقة الكاتب العربي بقبره علاقة معقدة ومأساوية، فليس القدر هو الذي يحدد القبر إنما الأنظمة السياسية العربية بما تتميز به من فنون القمع، منذ نشوء الدولة الوطنية إلى الآن، إنها هي من تجبر الكاتب على الهجرة وهي من تحدد له قبراً في المهاجر الباردة الكثيرة.
كنت وصديقي الشاعر العراقي الكبير علي جعفر العلاق نتجاذب أطراف الحديث، ونحن في رحلة قصيرة ما بين دبي والشارقة، رحلة عادة لا تطول أكثر من 20 دقيقة إلا أنها وبفعل زحمة المواصلات في ساعة الذروة فقد امتدت إلى ساعة ونصف الساعة وهو ما جعلنا نعيد خريطة مقابر الكتاب العرب، نسترجع بعض أسماء الكتاب الذين رحلوا في مدن لم يفكروا يوماً بأنهم سيدفنون بها وآخرين شاخوا وهم يقضون سنوات العمر الأخيرة تحت سماوات حزينة في مدن صماء على رغم ضجيجها.
لست أدري لماذا أشعر، بل إنني على يقين، بأنه كلما مات شاعر في المنفى تذبل شجرة في بلده الأصلي ويزحف رمل الصحراء نحو خضرة أحاسيس القلب فتتصحر المشاعر ولا ينزل مطر لأن سخاء السماء يجيء حين تشعر بهذه السماء، بأن الأرض التي تحت قبتها، تعانق في حضنها الدافئ رفات الشعراء والكتاب والمفكرين.
الكتاب المبدعون هم صناع الأساطير اليومية، والبلد الذي يهرب منه شعراؤه وروائيوه بلد بلا أسطورة، بلد بلا حلم.
حين أفكر في مصائر أجيال متلاحقة من الكتاب العرب وقد هاجروا أو هُجّروا من أوطانهم نحو شقاء الغربة وصقيع المنافي، ملاحقين حتى وهم في مهاجرهم البعيدة من قبل المخابرات والشرطة والأسلاك الأمنية، أفكر في قبور الذين قضوا منهم والذين ينتظرون. وأقول: لقد أصبحت كل البلدان الغريبة البعيدة والقريبة قليلاً مقابر للكتاب والمبدعين والمفكرين العرب.
كلما طال زمن القهر والقمع، وزمن القهر العربي الحديث يمتد منذ منتصف القرن الماضي، اتسعت مقابر الكتاب والمثقفين في الشتات وتلونت تراجيديا هذا الزمن العسير المرعب.
عشرات بل مئات من الكتاب والشعراء والروائيون والمفكرون العرب يرقدون في تراب غريب بعيداً من بلدانهم، يغطون في نومهم الأبدي القلق.
الشاعر وحتى وهو ميت يحلم كما الأحياء بأن يحصل على قبر في بلده، ذاك آخر حلم للشاعر والكاتب العربي!
أرى الشعراء والكتاب في نومهم الأبدي، وهم يفترشون التراب الغريب القاسي، قلقين كما كانوا في حياتهم في المنافي، يتقلبون على جوانبهم.
إذا كان الكاتب المبدع ينتعل حذاء من ريح يرحل به في كل مكان كما في حكاية بساط الريح فإن قلبه مربوط بحبل صلد إلى شجر أرضه، إلى أسوار بنايات قريته أو مدينته!
يخاف الشاعر أن يموت بعيداً من أرضه، هو آخر خوف يواجهه فاتحاً عينيه في منتصف الليل وحيداً.
هاجس مكان القبر كهاجس الوطن، الوطن الذي لا يمنحك قبراً وطن من فاجعة.
يحدث هذا منذ قرن تقريباً، يهاجر الشاعر أو الكاتب العربي أو بالأحرى يهجر، وهو الكائن الحساس الشفاف، بفعل السياسة من قبل أجهزة القمع التي تقوم عليها الأنظمة السياسية، ومرات يهاجر هارباً من روتين سجن الحياة اليومية الصعبة التي تنتجها القبيلة والأسرة أو العقيدة التي تسيّست وأضحت تجارة رابحة.
يشعر الشاعر الغريب وهو في غربته بالحرية لكنه لا يفتأ أن يدرك بأنها حرية مكسورة الجناح، كاذبة، وهم كسحابة صيف.
الحرية في بلدك لا تشبهها حرية أخرى، ولا وطن يمكنه أن يكون بديلاً عن الأرض التي ولدت عليها، وعليها وفيها ولد الأجداد، قد ترحل بعيداً ولكن في كل مرة تشعر برغبة العودة، وحتى إن لم تعد فالعودة تسكنك وتحفر لها مقاماً في ابتعادك وبعدك كل يوم أكثر فأكثر.
من بين ضحايا سياسات الديكتاتوريات المتعاقبة في العالم العربي، عسكرية كانت أم ثيوقراطية، يجيء الكتاب والشعراء والمفكرون على رأس قائمة الفارين والمهجرين قسراً.
هكذا أصبح العالم الغريب كله مقبرة عربية، مقبرة للكتاب والشعراء والمفكرين، من موسكو إلى مدريد مروراً بالسويد والنرويج وفنلندا وأستراليا وألمانيا وبلجيكا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وكندا وبلدان أميركا اللاتينية، كل البلدان أضحت مقابر لكتابنا.
لا أتصور شاعراً أو كاتباً عراقياً يدفن في مقابر أوسلو أو استوكهولم أو كوبنهاغن أو هلسنكي أو موسكو أو برلين أو جنيف... وهو الحالم أبداً بأكلة سمك المسكوف مع كأس عرق على ضفة دجلة! أقول ذلك وأفكر في قبور بعيدة غريبة يسكنها كل من: الجواهري وهادي العلوي والبياتي وبلند الحيدري وسعدي يوسف وفاضل الربيعي وعبد اللطيف الراوي وكاظم السماوي وكوكب حمزة والبوسطجي (محمد طالب محمد) وسركون بولص ومظفر النواب وغائب طعمة فرمان وجواد علي...
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وآخرون أراهم يراقبون سماء الغربة المتغيرة وينسجون لها معطفاً كل يوم من لغتهم في تراجيديا الغربة الطويلة من أمثال: جليل حيدر وعدنان الصايغ وضياء العزاوي وصالح نيازي وسميرة المانع وكاظم جهاد وعبدالله صخي وزهير الجبوري وعبد اللطيف أطيمش وفاضل العزاوي والقائمة طويلة أيضاً والمحنة أطول.
أما محنة الشاعر الفلسطيني فتلك محنة أخرى، شعب بشعرائه في المخيمات بقبورها وخيامها في الغربة، الشاعر الفلسطيني بنص الشهادة وبقبر من دون شاهدة، شعراء بحلم واحد حلم العودة وقبور موزعة مشتتة على جلد الأرض كلها، تزداد عدداً مع كل جيل وتزداد حيرة، من بوسطن إلى عنابة، من إدوارد سعيد إلى إسماعيل شتات إلى خالد أبو خالد إلى جبرا إبراهيم جبرا إلى...
"من يعيد جثمان حسان عزت إلى مقبرة غوطة دمشق؟" هكذا صرخت الشاعرة فاتن حمودي أرملة الشاعر حسان عزت قبل أيام، وفي هذه الصرخة الجريحة الرمزية تسكن مئات بل آلاف الأصوات الباحثة عن رقدة لأبنائها من شعراء سوريا في تراب سوريا، ومثل حسان عزت آلاف الشعراء والكتاب والمفكرين الذين رقدوا رقدتهم الأبدية بعيداً من تراب قراهم ومدنهم وأريافهم وأحبابهم من أمثال ميشيل كيلو وصادق جلال العظم ومحمد شحرور وجورج طرابيشي، وغيرهم، وآخرون يعيشون يوميات المنفى وشقاء "سيزيف" من زكريا تامر وسليم بركات وأدونيس ونوري الجراح وفرج بيرقدار وصبحي حديدي وهوشنك أوسي وغيرهم بعيداً من صخب النقاشات ودفء الأحاديث في فضاء اللاتيرنا وعلي بابا والريس والجندل والنوفرة والهافانا والروضة...
كتاب وشعراء ومفكرون كثر من البلدان العربية ينامون في مقابر مدن المنافي الباردة الغريبة وآخرون يعيشون فيها ينتظرون قطار العودة وآخرون يعيشون في تلك المدن التي يحلم هؤلاء المنفيون بالعودة إليها حيث لا حلم لهم سوى الهروب منها!
هو قدر الكاتب العربي، إذا غادر بلده منفياً تمنى العودة إليه وإذا عاش في بلده تمنى الهروب منه!