ملخص
رواية "الموت الأبيض" لفرانك هربرت عمل أدبي مظلوم طغى عليه صيت "كثبان"، لكنها تقدم تجربة سردية عميقة تمزج الإرهاب بالبحث في الروح الإيرلندية. من خلال حكاية انتقام مأساوية، يقترب هربرت من أدب جويس، متجاوزاً حدود الخيال العلمي إلى رواية تأملية كبرى.
قد يكون من الغريب أن نرى عملاً لصاحب رواية "كثبان" ذات الفرادة المطلقة في عالم أدب الخيال العلمي، فرانك هربرت، كعمل ظلمته رواية الكاتب الكبرى بحيث مر حين صدر بعد "كثبان"، بعقود من الزمن، مرور الكرام لنشتكي من كونه لم يحقق النجاح الذي كانت حققته تلك الرواية الكبرى التي حين وصلت إلى المرة الأولى إلى الشاشة، وصلت من طريق السينمائي الكبير ديفيد لينش، فعجز حتى هذا رغم عبقريته السينمائية، عن توفير ما تستحقه من نجاح كان صخبه كبيراً حين تحقق للرواية ككتاب. وكي لا يبدو هذا الكلام غامضاً، لا بد من توضيح الأمر: فرواية "كثبان" تعد عادة فريدة من نوعها في عالم النوع الروائي الذي تنتمي إليه. بل ربما كانت من أكثر روايات الخيال العلمي دنواً من الأدب الفلسفي الكبير والتحليل الميتافيزيقي والامتلاء بالأفكار التي تتجاوز كل ما قد يصل إليه كتاب النوع. ومن هنا تعامل دائماً من قبل النقاد والباحثين بتفرد تستحقه. بل وصل الأمر إلى حد أن كثيراً من القراء لا يتنبهون إلى أن لكاتبها ذا الأصل الإيرلندي أعمالاً أخرى لا تقل عنها أهمية. ومن هنا حين صدرت رواية لهربرت أكثر معاصرة لنا قبل نحو 30 عاماً، وبعد أعوام طويلة من صدور "كثبان"، دهش كثر إذ تنبهوا إلى أنها من إبداع هذا الكاتب الذي كانوا قد اعتادوا أن يعدوه "شبحاً" كتب روايته الكبرى واختفى. واحتاج الأمر حينها إلى انتظار عشرات الدراسات والتقريظات التحليلية قبل التنبه إلى أن فرانك هربرت كان لا يزال حياً يرزق... ويكتب. بل حقق من خلال روايته الجديدة "الموت الأبيض"، ولأنها كتبت عن إيرلندا وعن دبلن تحديداً، ما يمكن اعتباره مساهمة أدب الخيال العلمي في مقارعة جيمس جويس وروايته الكبرى "يوليسيس"، تلك المقارعة التي لم يتوقف الكتاب الإيرلنديون يوماً عن محاولة الخوض فيها. وذلك بالتحديد لأن "الموت الأبيض" من خلال أسلوبها ودنوها المذهل من الروح الإيرلندية، سرعان ما تنسي قارئها انتماءها إلى الصنف "الخيالي" الرائج لتعلن انتماءها إلى أدب كبير يتجاوز الأصناف وما شابه ذلك... ليبدو متاخماً لأدب جويس متاخمة لم يجرؤ على اقترافها أي كاتب من قبل.
رواية إرهاب كبرى
للوهلة الأولى ستبدو رواية "الموت الأبيض" رواية شديدة المعاصرة من حيث موضوعها إذاً، بل حتى يمكننا أن نقول إنها رواية شديدة الراهنية. فهي تدور من حول الإرهاب الذي ينظر إليه الكاتب بوصفه مرض العصر. غير أن هذا الجانب ليس سوى وجه واحد من وجهي الميدالية. الوجه الذي يبدو أساساً فيها، ولكن فقط بالنسبة إلى القارئ المستعجل. أما في العمق فإن الإرهاب هنا، ليس سوى ذريعة سرعان ما تتحول إلى خلفية لحكاية أكثر عمقاً وتركيبية، هي التي تحمل طابع الكاتب وفكره المتفرد. ولعل في إمكاننا أن نسميه هنا: الرد على الإرهاب، الإرهاب في مقابل الإرهاب لا أكثر ولا أقل. وهذا الرد هو جوهر ما يريد هربرت التعبير عنه، ليس كدرس أخلاقي حافل بالوعظ، وليس كنوع من دق جرس الإنذار، بل كنوع من الغوص غير المتوقع في الروح الإيرلندية. وربما تماماً كما يفعل جيمس جويس، إنما في ظروف مختلفة وانطلاقاً من حبكة وفي أزمنة مختلفة، في روايته الإيرلندية الكبرى "يوليسيس". فإذا كان للإرهاب الذي يذكر خلال القسم الأول من "الموت الأبيض" بكثير من الأحداث والجرائم الإرهابية التي شغلت البلاد والعباد عند نهايات القرن الـ20 وبدايات القرن التالي له، بعداً سياسياً وحدثياً يكاد يجعل من بداية الألفية الجديدة مفتتحاً لزمن يسود فيه الشيطان، فإن الأكثر أهمية إنما هو ذلك الإرهاب المضاد، كرد على الإرهاب الأول، الذي يشغل القسم الثاني من الرواية، ويكون هذه المرة من "عمل" فرد رأى بأم عينيه عائلته تباد في عملية إرهابية جماعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إبادة جماعية للنساء
هذا الفرد يحمل اسماً شديد العادية والإيرلندية هو جون رو ونيل. وهو نفسه شخص شديد العادية إلى حد أنه ما كان من شأنه أن يذكر لولا أن عملية إرهابية لا دخل له فيها من قريب أو من بعيد، اختارت من بين ضحاياها زوجته وولديه فيما كانا موجودين برفقته في أحد شوارع دبلن، حين انفجرت سيارة مفخخة في عمل إرهابي، أودت بعدد من المارة من بينهم أسرة رو أونيل فيما نجا رب الأسرة، الذي سيصبح بطل الرواية منذ تلك اللحظة، من القتل، لكنه لن ينجو من الحزن والرغبة في الانتقام ممن اقترفوا تلك العملية التي قضت على حياة أسرته، خدمة لقضية لا تعنيه على الإطلاق. صحيح أنه لا يعرف من هم الذين اقترفوا تلك الجريمة، لكنه قرر منذ البداية أنه، كما فعل الإرهابيون الذين لا اسم ولا وجه لهم، إذ حرموه من طفليه وبخاصة من زوجته الحبيبة، سيبادرهم هو بحرمان الرجال جميعاً من نسائهم الحبيبات. ليس طبعاً كرهاً في النساء، ولكن لإيلام الرجال وقد قرر بينه وبين نفسه أن قتله الرجال لن يؤلم هؤلاء لأن مقتلهم سيحرمه هو نفسه من لذة إشعارهم بالحرمان، لكن حرمانهم من حبيباتهم سيكون ترياقه الشافي: العين بالعين والسن بالسن، بالمعنى الحرفي، لا أكثر ولا أقل!
جنون الانتقام
هكذا، بعد تلك المقدمة التمهيدية التي أقل ما يمكننا أن نقول عنها إنها تمهد الأرضية الحدثية للقسم الثاني والأهم من رواية فرانك هربرت وتعطيها نكهتها غير الحدثية هذه المرة، بعد تلك المقدمة التي تبدو وكأنها تضعنا في مواجهة عمل أدبي من نوع معتاد بحفل بالأحداث المتلاحقة، سرعان ما سنجدنا في مواجهة عمل تأملي قوامه تحضير رو أونيل للانتقام "المبتكر". فهو، وفي وقت ينصرف فيه شاغلاً كل وقته في التحضير العملي للانتقام، نراه يمعن الفكر ليس في ما حدث له ولأسرته، بل في ما سيحدث لأعدائه المجهولين ولردود فعلهم على سقوط نسائهم "ضحايا" بريئة، براءة زوجته حين سقطت من قبلهن ضحية... والأحداث التالية تدور على أية حال في عمق تفكير البطل و"جنونه"، بأكثر مما تدور على أرض الواقع، ومن ثم ستبدو لنا مستقبلية في أسلوب الكتابة معظم خطوات المنتقم المجنون التالية، بدءاً من الإنذارات التي يوجهها إلى المجرمين وقادتهم الذين لا يعرف لا أسماءهم ولا نياتهم ولا وجوههم، لكنه يتخيلهم حين تصلهم أنباء فقدانهم النساء، يتخيلهم على شاكلته تماماً حين سقطت أسرته في حضوره، ويتوخى لهم نفس المصير الذي كان مصيره حين أدرك ما حدث لتلك الأسرة التي هي أسرته الخاصة. باختصار هنا، من الواضح أن هربرت، استخدم أسلوباً روائياً ولغوياً يسهل عليه الانتقال من عالم منطقي بأحداثه، مهما كانت قسوتها، إلى عالم نصف متخيل/ نصف واقعي، يدور في رأس الزوج والأب الحزين وهو يتخيل ضحايا يعيشون نفس اللحظات التي عايشها هو. بمعنى أننا حتى ولو كنا هنا في حضرة انتقام جماعي كابوسي يشبه نهاية العالم، لأن الانتقام هنا يشمل النساء بالتخلص منهن بفضل التحضير الكيماوي الذي يقوم به رو أونيل، ولكن لمجرد إيلام الرجال بالكيمياء الأكثر قسوة في عمليته المتجلية في خلق عالم للرجال ليس فيه نساء. وهو الإيلام الذي، بعدما يتسبب فيه المنتقم المجنون، سيرضيه كما حال الإمبراطور الروماني نيرون حين أحرق روما، ويمكنه من أن يصل في القسم الثالث من الرواية إلى جولته الإيرلندية الأخيرة في عالم مباد، جولة تهيمن عليها أنشودة يغنيها بوداعة ونسغ رومانسي، لا يبدو في البداية على علاقة بالواقعية الكارثية التي تهيمن على القسمين الأولين من الرواية. وهنا فقط في تلك الجولة/الأنشودة، سندرك كنه ما فعله جون رو أونيل رداً على ما فعله الإرهابيون إذ دمروا حياته. هنا فقط سندرك، إيرلندية هذه الرواية وانتماءها، إلى "يوليسيس" جيمس جويس.