ملخص
يعكس البيت هويتنا الثقافية وقيمنا ومعايير مجتمعنا. والتصميم الداخلي وتنظيم المساحات وهندسته الداخلية وديكوره والأثاث الموزع بين جنباته تحكي قصتنا وتراثنا وطموحاتنا، وبالطبع فإن البيوت المعاصرة استفادت من التكنولوجيا منذ تمديد الكهرباء إلى المنازل حتى عصر الذكاء الاصطناعي.
منزلنا أو بيتنا، مكاننا الذي يحتضن ذكرياتنا الممتدة عبر أعوام طويلة قضيناها فيه. هو المكان الذي شهد أسرار أمومتنا وأبوتنا الأولى، ومحاولات تعلم تأدية دور العائلة الناشئة، فيصير الأبناء شباباً ويرحلون إلى بيوت لهم يبنون فيها عائلاتهم.
نعود للبيت في النهاية، ننفض غبار أحذيتنا عند الباب، ثم ندخل وننتنفس قائلين "ما أحلى العودة للبيت"، وفيه نحتضن الأقارب ونرحب بالأصدقاء، وفي زواياه يجد كل منا ركناً خاصاً به، للقراءة أو الكتابة أو القيام بالأمور الشخصية.
البيت هو المكان الذي يشهد تحولاتنا الكبرى في الشكل والمضمون كلما تقدمنا في السن فيه وبين غرفه، وشهد دموعنا واعتذاراتنا وهمساتنا في آخر الليل، واحتفالاتنا الكثيرة في مناسبات العائلة وأفرادها أو حتى بلا مناسبة. فالبيت في النهاية هو المكان الذي نعيش فيه ونكون فيه أنفسنا، ومنه نخرج إلى العالم والآخرين والعمل والرحلات، ولكننا أثناء كل ذلك نفكر في موعد العودة للأريكة المريحة لنكون على سجيتنا، بعيداً من ضجيج الخارج وتطلباته.
ظاهرة أنثروبولوجية وأثرية
يجيب علما الأنثروبولوجيا والآثار عن سؤال مثل ما الفرق بين البيت والمنزل والمسكن، ومتى يكون البيت منزلاً؟ وهل فكرة البيت هي نفسها في الثقافات العالمية؟
بتعريف مبسط للبيت يمكن القول إنه بناء يوفر مأوى وحماية من الناس الآخرين ومن الطبيعة والمناخ، وهو مكان يحتفظ فيه الأشخاص عادة بممتلكاتهم وأسرارهم ومشاعرهم، وبذلك يتحول الفراغ إلى مكان سكني. لهذا فإن المنزل ليس مجرد هيكل مادي، بل هو اندماج المادي العمراني والهندسي بالنفسي، أي بسكانه ومشاعرهم وعلاقاتهم وذكرياتهم.
ومع تطور المجتمعات البشرية، بدأ البيت يكتسب معاني إضافية، فتطورت أدواره من مأمن ومأوى إلى مكان رفاهيتنا وتعبيرنا عن أنفسنا وبناء عالمنا المصغر، وتطورت الحاجة إلى أن تكون لدينا مساحة خاصة للراحة والعمل والأنشطة اليومية. ويعكس البيت هويتنا الثقافية وقيمنا ومعايير مجتمعنا.
والتصميم الداخلي وتنظيم المساحات وهندسته الداخلية وديكوره والأثاث الموزع بين جنباته تحكي قصتنا وتراثنا وطموحاتنا، وبالطبع فإن البيوت المعاصرة استفادت من التكنولوجيا منذ تمديد الكهرباء إلى المنازل حتى عصر الذكاء الاصطناعي. وخلال الأعوام الأخيرة، برزت المنازل المستدامة التي تستخدم الطاقة الشمسية وأنظمة جمع مياه الأمطار والعزل الحراري الذكي ومواد صديقة للبيئة تقلل التأثير السلبي في الطبيعة.
لقد بدأنا في الكهوف، ثم الخيم، وبعدها قمنا بتثبيت المسكن في أكواخ بسيطة من الخشب أو الطين أو الحجر لتحقيق الوظائف الأساسية. ولاحقاً، في حضارات مثل مصر واليونان وروما صممت البيوت تعبيراً عن الانتماء إلى الطبقات الاجتماعية، كما هي الحال اليوم في معظم المجتمعات البشرية، حيث منازل الأثرياء تقع في مناطق لهم معروفة في كل مدينة كبيرة بأنها أحياء الأثرياء، في مقابل بيوت الضواحي في مدن العالم الثالث وعواصمه، حيث تتراكم منازل الفقراء فوق بعضها بعضاً، وتطل على ناطحات السحاب الزجاجية ذات التصاميم الغربية هناك في مركز المدينة المحروس بشدة.
العائلة بوصفها نواة
أحد أكثر القواسم المشتركة عبر الثقافات، اقتران تعريف بناء البيت بالعائلة التي ستسكنه لا بالطوب والأسمنت. فبحسب تعريف معظم علماء الاجتماع، فإن المنزل هو جزء من فكرة البيت، أي يمكن أن تكون في المنزل بيوت كثيرة، كالمنازل الكبيرة والواسعة التي تسكنها عائلة من الأخوة أو الأقارب. والبيت ينسب كذلك إلى الشخص الذي عاش فيه بعد الولادة أو بيت العائلة في الطفولة، ومن دون العائلة يبقى البيت مجرد منزل أو نُزل، فهو يحتاج إلى سكان يعمرونه بعيشهم هم وحركتهم وأنفاسهم فيه وعواطفهم، كي يصبح بيتاً.
في تايوان مثلاً تعدّ مغادرة الابنة بيت الطفولة حدثاً حزيناً تفيض فيه الدموع على الفراق وخوف الخروج من الألفة، وقد تحول هذا المشهد إلى عرض تقليدي يقام في المناسبة كتعبير عن البر بالوالدين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى عالم الاجتماع كاننغهام (1964) تصنيفاً رمزياً يمكن البيت من أن يكون "وسيلة فاعلة لنقل الأفكار من جيل إلى آخر"، وذهب ليفي- شتروس (1982) إلى "مجتمعات البيت" بوصفها وحدة اجتماعية.
في إيران ظلت الثقافة الإيرانية تقدر الطبيعة والهواء الطلق في فضاء السكن، على رغم التوسع العمراني بوجود الفناء أو الحديقة كامتداد مثالي لنمط عيش العائلات الإيرانية وعلاقاتها الاجتماعية.
وفي بعض مناطق تركيا يركز السكان على قدسية المنزل وأمن النساء والأطفال، ويتجلى ذلك في الأفنية المسوّرة وتضامن الجوار، وتتآلف البيوت لتشكل "أحياء مدافعة" تتقاسم الأمن. من هنا يعتقد هايدغر بأن السكن قبل البناء، فنحن لا نبني لكي نسكن، بل نسكن الأرض ثم نبني تعبيراً عن ذلك السكن، أي إن السكن فعل سابق على العمارة، فالبيت ضرورة وجودية قبل أن يكون تفصيلة هندسية، بحسب هايدغر.
أما المهندس الفرنسي المعروف بتصاميمه المختلفة والإبداعية لو كوربوزييه، فيرى "البيت آلة للسكن"، أي إنه مكان يؤدي وظيفة ضرورية. أما رئيس وزراء بريطانيا الراحل وينستون تشرتشل، فعُرفت عنه مقولته إننا "نحن من نصوغ مبانينا، وبعد ذلك تروح هي تصوغنا".
اللعب بقوانين الطبيعة
في قرية شيمبارك (Szymbark) البولندية، وقف معماري مجنون ليبني بيتاً رأساً على عقب عام 2007، إذ إن الزوار يدخلون من النافذة العلوية، والأثاث متدلٍ من السقف الذي صار أرضاً. والهدف لم يكن مجرد نكتة سياحية، بل تمثيلاً لـ"العالم الذي يعيش بالمقلوب"، فهذا البيت يجعلك تشعر بالدوار ويربك توازنك، لكنه يتركك تبتسم لأن الواقع نفسه ربما يحتاج إلى هزة كهذه.
المهندس المصري العالمي حسن فتحي أعاد تعريف البيت كنتاج تعاون شعبي ومواد محلية، لتصبح العمارة صوت المجتمع لا صوت السلطة، وحاول تنفيذ رؤاه عبر بناء مجموعة قرى طينية تقليدية في مدينة الأقصر جنوب مصر، في مسعى لترسيخ طرق العيش التقليدية، إلا أن معظمها تحول إلى متاحف بعد تجارب سكن قصيرة لم تنجح.
وفي مدينة سوبوت في بولندا أيضاً، شيّد عام 2004 ما يعرف بـ"البيت المائل" الذي استلهم تصميمه من رسومات فنان كاريكاتير بولندي، إذ إن الواجهة كلها ملتوية ومنحنية كأنها انعكاس في مرآة مشوهة. ولم يكن المبنى بيتاً سكنياً، بل مركزاً تجارياً، ولكن الناس باتوا يتوقفون أمامه لالتقاط الصور.
وفي قلب براغ، العاصمة التشيكية ذات العمارة الكلاسيكية الرصينة، ظهر مبنى أثار الجدل هو مبنى الرقص (Dancing House) الذي صممه فرانك غهري وفلايدو ميلونيتش. والمبنى يبدو كراقصين يتمايلان معاً، وهو عبارة عن برج زجاجي نحيل يلتف حول برج أثقل. وفي البداية رفضه أهل براغ، إذ نظروا إليه على أنه مهزلة وسط مبانٍ تاريخية، لكن مع مرور الوقت صار رمزاً سياحياً محبوباً.
وفي دبي، بُني بيت مقلوب كجزء من منطقة ترفيهية، وفي الرياض والبحرين ظهرت مجسمات عملاقة، فناجين قهوة عربية ضخمة ومقاعد ملونة بحجم إنسان. هذه ليست "عمارة مرحة" بالمعنى الدقيق، ولكنها نوع من المرح البصري تحول الممرات العامة إلى مسرح صغير للبهجة.
أما في برشلونة، فبنى المهندس العالمي أنطوني غاودي كاتدرائية ساغرادا فاميليا، حيث تتحول الأعمدة إلى أشجار والضوء إلى غابة ملونة، وأثبت غاودي أن المبنى يمكن أن يكون مخلوقاً حياً لا بناء جامداً.
وفي جنوب فرنسا، شيد الفنلندي أنتي لوفاغ عام 1989 ما سماه "قصر الفقاعة"، إذ كان يرى المربع قفص، فرفض الخطوط المستقيمة وصمم مبنى من عشرات الغرف الدائرية. والنتيجة كانت قصراً يشبه عالماً تحت الماء أو محطة فضاء. ولاحقاً امتلكه مصمم الأزياء بيار كاردان ليصبح منصة عروض أزياء.
وفي بداية الستينيات ظهرت في بريطانيا جماعة معمارية طليعية اسمها Archigram لم تبنِ شيئاً تقريباً، لكن رسوماتها تخيلت مدناً تمشي على أرجل، أو مدناً مطاطية قابلة للنفخ، أو وحدات سكنية تطير. وبالنسبة إليها، العمارة لعبة مستقبلية ومختبر للخيال، وعلى رغم أنها بقيت على الورق، فإنها ألهمت أجيالاً من المهندسين، وحتى مخرجي أفلام الخيال العلمي وصانعي الألعاب الإلكترونية.
وفي الأندلس، كان "قصر الحمراء" لوحة معمارية كاملة، زخارف هندسية وآيات قرآنية منقوشة على الجدران ومياه تنساب في الأحواض والبساتين. والداخل إلى القصر يعيش في قصيدة مرئية، فالحجر يتحدث والماء يهمس والضوء يعزف موسيقى خاصة. ولم يكُن "الحمراء" فقط قصراً للحكم، بل مسرحاً للشعر والروح، حيث تتقاطع السياسة مع الفن مع الدين في لوحة واحدة.
وفي العاصمة الهندية، بُني معبد اللوتس عام 1986 كبيت عبادة للديانة البهائية. المبنى عبارة عن تسع بتلات رخامية ضخمة مفتوحة كزهرة بيضاء. والداخل إلى القاعة المركزية يكتشف أن الزهرة ليست مجرد شكل، بل إنها تعبير عن فلسفة الانفتاح على الجميع بلا تمييز. والضوء الطبيعي يتسلل من الأعلى فيحول الداخل إلى فضاء سلام.
وحديثاً، جاء مسجد الشيخ زايد في أبو ظبي (افتتح عام 2007) ليكون أيقونة روحانية حديثة. الرخام الأبيض يضيء بالنهار، بينما في الليل تُسقط الأضواء عليه ألواناً تحاكي أطوار القمر. والمسجد يجمع بين الزخرفة الإسلامية الكلاسيكية والهندسة الحديثة ليصير تجربة سحرية، فالقمر نفسه شريك في العمارة.