ملخص
يصف الإعلام ترمب بأنه يميني متطرف، لكنَّ كثراً من المحافظين لا يعدونه جمهورياً أو محافظاً أصيلاً، بل دخيلاً أو انتهازياً أو ذئباً في ثوب حمل. لا أحد سيكون أكثر سعادة بانتهاء عصر ترمب من المحافظين التقليديين الذين ينتهجون نهج رونالد ريغان أو من جناح آل بوش في الحزب الجمهوري.
شهد العام الأخير من الربع الأول خلال القرن الـ21 حدثاً يكاد لا يصدق في السياسة الأميركية وهو عودة دونالد ترمب إلى السلطة كأول رئيس يتبوأ ولايتين غير متتاليتين منذ غروفر كليفلاند في "العصر المذهب". ولا شك في أن أثر هذا الإنجاز المحير أكبر بكثير مما يبدو للوهلة الأولى، عندما نأخذ في الحسبان مدى صعوبة إلحاق الهزيمة برئيس يتمتع بقوة منبر الرئاسة، ومن المحير بالقدر نفسه أن يعيد الناخبون أنفسهم شخصاً إلى السلطة بعد أربع سنوات من إطاحتهم له.
عاد ترمب عبر الديمقراطية، وعادت المعارضة لحكمه كذلك، فمنتقدوه يقولون إنه يحكم وكأنه ملك. وبينما قد تمر عقود قبل أن يصبح التقييم العقلاني لترمب ممكناً، فإن التحليل التاريخي الأولي ضروري، وفي صلب هذا التحليل ثمة سؤال محوري: هل دونالد ترمب حركة أم مجرد رجل؟
يقول البعض إن التاريخ يعيد نفسه، ويقول آخرون إن أحداثه تتشابه. لست متأكداً من صحة المقولتين، لكن التاريخ يمكن أن يضيء على مسارات مستقبلية محتملة ولا سيما عندما تظهر أنماط بارزة، وربما لهذا السبب كان المؤرخون في العصور القديمة يؤدون دور العرافين. كمؤرخ يهمني أن أقدم صورة أفضل للتفاعلات السياسية عبر استخدام الماضي للإضاءة على الحاضر، وفهم الاتجاه الذي قد تسلكه الولايات المتحدة، ونظامها السياسي، وأثرها في العالم خلال الأعوام المقبلة، وهذا يستدعي النظر بحياد في أهمية عصر ترمب والإرث الذي قد يخلفه. وبغضّ النظر عن توجهات المرء السياسية، يجب ألا ننسى أن كثيراً مما يحدث في واشنطن لا يجري لأسباب حزبية أو سياسية، بل لدوافع شخصية وأنانية في معظم الأحيان.
لا نعرف الكثير عن التبعات المترتبة على حقبة دونالد ترمب، مثلاً هل سيعود الديمقراطيون إلى الوسط كما فعلوا في عهود جيمي كارتر وبيل كلينتون وجو بايدن، وحتى في معظم عهد باراك أوباما؟ وما الذي يتطلبه تحقيق السلام بين الجناح المعتدل والجناح التقدمي في الحزب؟ من سيبرز من الجيل الجديد من القادة، وهل سيتخلى قادة الحزب المخضرمون عن مواقعهم للجيل الأصغر سناً؟ وهل سيهيمن أوباما في نهاية المطاف على الحزب مع تراجع سلطة المخضرمين؟ أما على الجانب الجمهوري، فهل يستطيع نائب الرئيس جي دي فانس إشعال الحماسة لدى أنصار ترمب بالطريقة نفسها التي يتبعها ترمب؟ كيف سيبدو الحزب بعد ترمب، إذ من المرجح أن يكون دعمه لخلفه مهماً جداً؟ كيف ستؤثر فترة قصيرة نسبياً [بسبب تقدمه في السن] تلي رئاسته في إرثه؟ لدى كل حزب سردية تتردد على ألسنة أكثر قادته كلاماً.
يرى الديمقراطيون التقدميون في ترمب تهديداً وجودياً للديمقراطية، من دون أن يعترفوا بأن عودته مثلت أكبر انتصار انتخابي للجمهوريين منذ فوز جورج دبليو بوش بولاية ثانية عام 2004. ويرى الجمهوريون المنضوون تحت لواء "حركة جعل أميركا عظيمة مجدداً" في انتصار ترمب تأكيداً لقوته المطلقة، من دون أن يدركوا أن الولايات الرئاسية الثانية نادراً ما ترقى إلى التوقعات، ذلك أن قوته السياسية بدأت تتراجع لأنه لن يواجه الناخبين مرة أخرى. يكشف لنا التاريخ أن كلا الجانبين على خطأ، وهناك أمور يجب مراقبتها حتى عام 2028 موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة وما بعده.
أعظم عودة سياسية أميركية
توصف عودة ترمب إلى الرئاسة بأنها أعظم عودة سياسية في التاريخ الأميركي، أهم حتى من عودة ريتشارد نيكسون عام 1968، بعد خسارته انتخابات 1960 وخسارته انتخابات منصب الحاكم في ولاية كاليفورنيا عام 1962. قال أحد المعلقين إن انتصار ترمب أعظم حتى من انتصار المسيح. تتسم اللحظات السياسية بمبالغات، وسأترك للمؤرخين الحكم على الصفة المناسبة التي تستحق عودة ترمب إلصاقها بها. وبالحديث عن نيكسون، كنت أقول دائماً إنه أكثر سياسي تعرض إلى التحقيق والملاحقات في التاريخ الحديث، على رغم أن هذا القول يصح في آل كلينتون أيضاً، لكنني أعتقد أن ترمب يتصدر الآن القائمة ذات الصلة.
واجه ترمب محاولتين لعزله من منصبه، وجهوداً لتدميره سياسياً وشخصياً ومالياً، إذ وُجهت إليه 93 تهمة، ودهم مكتب التحقيقات الفيدرالي منزله، وحاولت 25 ولاية شطب اسمه من أوراق الاقتراع. كما نجا من محاولتي اغتيال، وأصيب في إحداهما بخدش في أذنه بفعل رصاصة، وحينها رأى بعض الديمقراطيين أن الديمقراطية الأميركية لا يمكن أن تكون في أمان طالما يسمح للناس بالتصويت له. لكن اسم ترمب بقي في أوراق الاقتراع. بعد انتخاب الأميركيين أوباما، من اللافت أنهم انتخبوا ترمب. ثم بعد إسقاط ترمب، جاء الرد على بايدن بإعادة انتخاب ترمب. هناك شريحة من الناخبين تتألف ربما من بضعة ملايين صوتت لأوباما ثم لترمب ثم لبايدن، ثم لترمب مجدداً. هذه المجموعة عبارة عن مجموعة تركيز انتخابية يجب مراقبتها بحرص.
مثلاً، كيف برز تركيز ترمب على الناخبين من العاملين الصناعيين والطبقة المتوسطة الدنيا خلال جلسات التخطيط الاستراتيجي التي استضافها "برج ترمب" عام 2015؟ هل خطط ترمب للتحول نحو اليمين مثلما فعل نيكسون عام 1968؟ هل مؤيدو ترمب مخلصون حقاً أم يستمر إخلاصهم له طالما تواصل اهتمامه بقضاياهم؟ هل ستتضاءل شعبيته في صفوفهم إذا تبنى منافسوه خطاباً مشابهاً لخطابه؟ وفي نهاية المطاف، هل يمكن للترمبية أن تستمر من دون ترمب؟ لم يترك كليفلاند حركة وراءه. ما الذي يجعل ترمب مختلفاً؟ تفيد دروس التاريخ أن خليفته المفترض فانس قد يصبح عامل تدميره بدلاً من داعمه الأبرز كلما اقترب عام 2028، فهو الجسر الواضح المفضي إلى مرحلة ما بعد ترمب. وعندما تنتقل الأضواء من ترمب إلى المنافسين، قد يحصل الديمقراطيون على عام سحري يصب في مصلحتهم نظراً إلى التقلب المعروف للمزاج الانتخابي الأميركي.
بالرغم من أن الإعلام غالباً ما يصف ترمب بأنه يميني متطرف، فإن كثيراً من المحافظين لا يرونه جمهورياً حقيقياً ولا محافظاً أصيلاً، بل يعتبرونه دخيلاً أو انتهازياً أو ذئباً في ثياب حمل. في "عشاء آل سميث" عام 2024، ذلك الطقس الأميركي غير المألوف الذي يواجه فيه الخصوم بعضهم بعضاً عشية الانتخابات الرئاسية، من خلال مناوشات مضحكة عبر كلمات معدة سلفاً، بدا ترمب وكأنه في مكانه الطبيعي بين أبناء مانهاتن مثل الديمقراطي تشاك شومر. لا أحد سيكون أكثر سعادة بانتهاء عصر ترمب من المحافظين التقليديين الذين ينتهجون نهج رونالد ريغان أو من جناح آل بوش في الحزب، فهم يرون أن ترمب خطر على المؤسسة الأميركية وأعرافها وتحالفاتها. يرى المحافظون التقليديون أن ترمب لا يتراجع عند التحدي، حتى عندما تكون الخسارة حتمية، ويكون في أفضل حال في المواجهات، على عكس صديقه نيكسون، الذي كان أحياناً يرى أن الانسحاب أفضل تكتيك قبل العودة الأقوى خلال وقت لاحق. هناك طاقة وزخم مختلفان تماماً هذه المرة مقارنة بالحال بعد فوز ترمب عام 2016. كان كثير من الجمهوريين حينئذ غير متأكدين مما أوقعوا أنفسهم فيه.
أثار فوز ترمب بترشيح الحزب الجمهوري في المؤتمر الذي استضافته كليفلاند شعوراً غريباً. أذكر ذلك جيداً، لقد كنت حاضراً. لم يكن فوزه عدوانياً، لكن فريق ترمب بدا غريباً في الغالب في نظر الجمهوريين التقليديين، بيد أن الحزب الجمهوري كان ضعيفاً وغير منظم وغير قادر على مقاومة إغواء ترمب القوي حتى لو رغب في ذلك. وخلال ولايته الأولى، شاع سردٌ حتى بين بعض الجمهوريين مفاده أن الخدمة في الحكومة لم يعد عملاً يتسم بالوطنية. وبوصفي واحداً من قلّة أعرفها شغلت مناصب في إدارتي ترمب وبايدن معاً، فقد مررتُ بفترة شعرتُ فيها بالقلق مما إذا كان ذلك الخيار حكيماً لمساري المهني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يواجه ترمب مقاومة أقل اليوم، ليس لأن المقاومة تراجعت، بل لأنها لا تعرف كيف تنظم نفسها بفاعلية. اعترف ترمب لمقدم البودكاست الشهير جو روغان بأنه لم يكن يعرف كيف يقوم بمهامه في ولايته الأولى، ولا سيما في ما يخص التعيينات. كان سياسياً فريداً إلى درجة أنه افتقر، على ما أعتقد، إلى من يساعده أو من يريد مساعدته أو من يطلب منه ترمب مساعدته، ناهيك عن غياب الحركة التي تأسست بعدئذ. اليوم هو أكثر نشاطاً في تنفيذ أجندته. الرقابة عليه أضعف حتى الآن نسبياً، على رغم أن نفوذه كان أضعف خلال ولايته الأولى، وسياساته التي كانت تستدعي رقابة كانت أقل وقتئذ. المفارقة أن تعييناته وأجندته اليوم يمكن وصفها بأنها أكثر راديكالية، ومع ذلك يبدو الجمهوريون أكثر استعداداً لتقبل ترمب بحسناته وسيئاته وقباحاته، بهدف عدم تفويت الفرصة، إذ يعتقدون على ما يبدو أن شخصاً مليئاً بالعيوب قابل للاستخدام لأغراض نبيلة.
معركة التاريخ المقبلة
الاختبار البارز المقبل سيكون انتخابات منتصف الولاية الرئاسية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) 2026، حين سينتخب الأميركيون أعضاء مجلس النواب الـ435 وثلث مجلس الشيوخ، والتي ستشكل بروفة للانتخابات الرئاسية عام 2028 وما بعدها. دائماً تقريباً يتكبد أي رئيس جديد خسائر كبيرة في أول انتخابات لمنتصف ولاية، لكن ترمب ليس رئيساً جديداً في ضوء الولايتين غير المتتاليتين اللتين تولاهما. من الصعب على حملة معارضة أن تصل للبيت الأبيض وأن تحافظ على الحماسة نفسها بعد عامين حين تصبح هي المؤسسة التي تقاوم حملة معارضة جديدة. بغض النظر عن نجاحات ترمب وقلة أخطائه، يشير التاريخ عادة إلى أن حزبه سيخسر الغالبية في مجلس النواب أو مجلس الشيوخ أو ستضيق هوامش الغالبية التي يتمتع بها في أي من المجلسين أو في كليهما معاً. وربما يحطم فانس الرقم القياسي الذي سجلته كامالا هاريس على صعيد كسر تعادل مجلس الشيوخ.
بغض النظر عن نتائج انتخابات عام 2026 وانتخابات عام 2028، يبدو عصر ترمب مرشحاً إلى أن يكون من أكثر العصور أثراً في التاريخ الحديث. مثلاً، شارك نيكسون في كل انتخابات من عام 1952 إلى عام 1972 باستثناء عام 1964 – ووقتئذ حتى، حاول الترشح إلى الرئاسة قبل أن يتراجع، مما جعل تلك الفترة تعرف بحق بعصر نيكسون. وتعرض الأميركيين المستمر لشخصية سياسية واحدة لمدة 20 عاماً جعل من الصعب العثور على أميركي لا يملك رأياً فيها. منذ عام 2016 نعيش في عصر ترمب، باستثناء فشله في نيل الترشح للرئاسة عام 2000. ربما من الصعب أكثر العثور على شخص لا يملك رأياً في ترمب. قضى نيكسون ستة أعوام في الظل خلال ستينيات القرن الـ20، بينما قضى ترمب أربعة مماثلة خلال العقد الثالث من القرن الـ21. ثم عاد كل منهما لينهي مرحلة نسيانه سياسياً، تحديداً لأنه لم يغب عن الصورة حقاً. وعلى رغم اعتبار الأعوام المشار إليها "أعواماً في الظل"، إذ ابتعد الرجلان من الضوء والعمل، يمكن القول إن كلاً منهما خصص جهداً أكبر حتى وهو خارج المناصب السياسية.
سواء دام عصر ترمب أم لم يدم، لقد غير الرجل بالفعل طبيعة الخطاب السياسي داخل الحزب الجمهوري. بتنا نتحدث بصورة مختلفة عن مواضيع مثل التجارة الحرة والمساعدات الخارجية والرسوم الجمركية. وعلى غرار نيكسون، يفضل ترمب الدبلوماسية الثنائية ويشكك في المنظمات الدولية والمؤسسات المتعددة الأطراف، التي لا تملك الولايات المتحدة حق التصويت فيها أو يتفوق عليها خصومها فيها عددياً. وعلى غرار نيكسون، ينتقد ترمب الحلفاء ويصفهم بالمتطفلين، ويتوقع من البلدان الأخرى أن تهتم أكثر بشؤونها الخاصة. ما من حديث عاد يدور عن تصدير الديمقراطية الأميركية أو بناء الأمم. استحضر نيكسون غالبية صامتة ضمن خطابه الأكثر شهرة عام 1969، لكن ترمب، الملياردير الشعبوي، بذل مزيداً من الجهد ليبني قاعدة جمهورية حول الناخبين من عاملين صناعيين منتمين إلى الطبقة العاملة – الناخبين الذين كانوا ديمقراطيين تقليديين قبل عقود قليلة من الزمن. يترك ترمب بصمة عميقة في مسائل الهجرة، وأمن الحدود، والتنوع والإنصاف والشمول، والجريمة، والمحكمة العليا، موجهاً البلاد نحو اليمين، ويعيد تشكيل الحزب الجمهوري إلى حزب قومي شعبوي – حاصداً عدداً قياسياً من الأصوات، ليس فقط من البيض، بل من الأقليات العرقية أيضاً. خاض ترمب حملته الانتخابية ضد "الحروب الأبدية"، وعلى رغم تصويره كشخصية عدوانية، يبدو متردداً باستمرار في استخدام القوة العسكرية. ومثل نيكسون، فإن ترمب مهووس بأن يعرف في التاريخ بأنه صانع سلام.
يظهر التاريخ أن نيكسون كان في أقوى حالاته قبل أن يتعثر. فاز في انتخابات ساحقة داخل 49 ولاية عام 1972 قبل أن تنهار شعبيته في استطلاعات الرأي العام خلال صيف عام 1973. استقال نيكسون غارقاً في عار خلال أغسطس (آب) 1974، وكان الرئيس الوحيد الذي استقال من منصبه، وقضى الأعوام الـ20 الأخيرة من حياته يناضل ليصبح رجل دولة محترماً قبل وفاته عام 1994. لن يحظى ترمب بفرصة مماثلة ليُعيد تشكيل صورته التاريخية خلال فترة ما بعد الرئاسة، وهنا تتباعد المقارنات بينه وبين نيكسون. فبينما لا نزال نتجادل حول إرث نيكسون الذي يبدو ليس فقط الأكثر إثارة للجدل، بل الأكثر تأثيراً وصعوبة في التقييم، يُنظر اليوم إلى نيكسون، على الأرجح، باعتباره نهاية حقبة “الصفقة الجديدة”، وربما آخر "الليبراليين" في زمنٍ كان يُنظر فيه إلى الحكومة كحلّ، لا كـ "عدو" كما وصفها الرئيس رونالد ريغان لاحقاً.
كان نيكسون يدرك أن الحملة الأخيرة ليست معركة أصوات بل معركة تاريخ. أما ترمب، فعلى عكس نيكسون، فإن إرثه سيتشكّل أساساً على يد ورثته السياسيين وخلفائه وممثليه. هؤلاء هم من سيحدّدون ما إذا كان ترمب هو الآخر بداية أم نهاية، حركة أم مجرد رجل.