ملخص
حين قرر الشاعر الفرنس الفونس دي قرر لامارتين في عام 1832 القيام برحلته الكبرى إلى الشرق بصحبة زوجته وابنته مروراً بإيطاليا واليونان وصولا إلى سوريا ولبنان وفلسطين، قبل أن يصل إلى مصر، كان مصراً على ألا يكون مجرد رحالة، بل شاهدا على العصر، يحمل في حقيبته دواوينه وتأملاته، وفي قلبه حنين إلى الفردوس المفقود
حين شد الشاعر الفرنسي الفونس دي لامارتين رحاله إلى الشرق في ثلاثينيات القرن الـ19، وغالباً كما بالنسبة إلى عدد آخر من الرحالة من مجايليه ومواطنيه، تحت تأثير رحلة شاتوبريان إلى ذلك الشرق نفسه تقريباً، كما ذكرنا في مقالة أخرى قبل أيام، لم يكن مجرد سائح في زمن الرومانسية، بل كان إنساناً يبحث، كما سيقول هو نفسه، عن الله في اتساع الصحراء.
كان يرى في الشرق مرآة تعكس ماضي الإنسانية وإمكانية خلاصها، وفي السفر "وسيلة للنجاة من محدودية أوروبا الحديثة". لم تكن رحلته رحلة جغرافية، بل تجربة روحية سيحولها لاحقاً إلى نص شعري طويل تتقاطع فيه الجغرافيا مع الميتافيزيقا، والسياسة مع الشعر، والذاكرة مع الأسطورة. أو هكذا سيحدد هو الأمور بنفسه لاحقاً في ثنايا كتاباته، معلناً أنه في نهاية المطاف ليس ساعياً في تضاريس الشرق إلى أي هدف آخر.
زمن القلق الأوروبي
ولد لامارتين في عام 1790، أي بعد شاتوبريان بـ22 عاماً، وفي ظل عالم غيرته الثورة الفرنسية جذرياً. وكان مثل سلفه الكبير ينتمي إلى الطبقة الارستقراطية نفسها التي أفقدتها تلك الثورة سلطتها ومكانتها، لكنه حمل قلقاً مختلفاً: قلق الشاعر المؤمن بعظمة الإنسان، والخائف من انحطاط روحه، وهو عاش مرحلة الحروب النابليونية حين بدأت أوروبا تستيقظ على فراغها الروحي. وكان الشرق، بوصفه الفضاء البعيد الذي تلتقي عنده الديانات والأساطير، يبدو كأرض وعد جديدة يمكن أن تعيد للروح الغربية توازنها.
ومن هنا قرر لامارتين في عام 1832 القيام برحلته الكبرى إلى الشرق بصحبة زوجته وابنته، وذلك في ما بدا أشبه بحج شخصي إلى منابع الإيمان. إنما مروراً بإيطاليا واليونان إلى سوريا ولبنان وفلسطين، قبل أن يصل إلى مصر. وهو كان مصراً على ألا يكون مجرد رحالة، بل شاهد على العصر، يحمل في حقيبته دواوينه وتأملاته، وفي قلبه حنين إلى الفردوس المفقود. ولاحقاً في كتاب لامارتين الشهير "رحلة إلى الشرق"، سنجد بالتأكيد واحداً من أجمل النصوص التي كتبها غربي عن المشرق.
بيد أن لامارتين لا يكتب بعيون المستشرقين الذين سيجعلون من الشرق موضوعاً للغزو أو الدراسة، بل بعين الشاعر الذي يرى في الصحراء مرآة للروح. فيصف بيروت مثلاً بأنها "مدينة تطفو بين البحر والسماء"، ويكتب عن بعلبك في الشرق اللبناني، كما لو أنها أطلال روحه هو لا أطلال الإمبراطورية الرومانية. وفي القدس يشعر أنه "يقف على حد ما بين التاريخ والأسطورة"، وفي صحراء الجليل يرى "السماء وقد هبطت من عليائها لتسكن الأرض".
المكان حالة وجدانية
ليس الشرق عند لامارتين مكاناً، بل حالة وجدانية. إنه زمن من الإيمان الخالص، في مقابل زمن أوروبا المتداعي الملوث بالضجيج والمصالح الشخصية.
ومن هنا تتحول الرحلة لدى شاعرنا الفرنسي الارستقراطي، إلى مواجهة بين عالمين: عالم الشرق الذي يمثل الصفاء والعراقة والروح، وعالم الغرب الذي يرمز إلى التمدن الفاتر والقلق الروحي. وفي هذه الثنائية تظهر الرومانسية الفرنسية في أنقى تجلياتها: حنين إلى الجذور، وشوق إلى المعنى، ورفض للحاضر المادي.
والحقيقة أن كل هذا يخبرنا بأن لامارتين لم يزر الصحراء ليراها فراغاً، بل ليتأكد من أنها ممتلئة بالرمز. فكتب في "رحلة إلى الشرق" أن "الصحراء ليست فراغاً، بل ممتلئة بالحضور الإلهي"، وفي هذا قد يكون من الطبيعي أن نعثر على تجربة تتطابق مع تجربة المتصوفة الذين رأوا في الفراغ شرطاً أساسياً للحضور الإلهي. فالصحراء في نصوص لامارتين، تتحول إلى نص صوفي مفتوح يتداخل فيه الخوف بالطمأنينة والعزلة بالسكينة. ترى أولسنا هنا أمام شاعر يبحث في امتدادات الرمل عن يقين، وفي "حقيقة" السراب عن معنى للوجود؟ من هذه الزاوية تتجاوز رحلة هذا الشاعر الفرنسي حدود أدب بلاده، إلى ما يشبه السيرة الروحية للإنسان الحديث. فلامارتين لم يكن يهرب من أوروبا المادية فحسب، بل من ذاته الممزقة بين العقل والإيمان. كان كمن يبحث عن صيغة للمصالحة بين القلب والفكر، بين المسيحية والعالم... وبين الإنسان وخالقه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الرحلة وتأمل التاريخ
حين يمر لامارتين بآثار تدمر وبعلبك، لا يصفها كما يصفها عالم آثار، بل كما يفعل ذلك شاعر يرى في الحجر تاريخ الإنسانية جمعاء. ويقول عن بعلبك: "هذه الأعمدة ليست أنقاضاً، بل أفكاراً ممددة تحت الشمس". وانطلاقاً من هذا المعنى تتحول الرحلة عنده إلى تأمل في مصير الحضارات: كيف تبنى الإمبراطورية ثم تندثر، وكيف تبقى الطبيعة وحدها شاهدة على زوالها. إنها، بصورة أو بأخرى، فلسفة للتاريخ تتأمله من منظور الجمال، إذ يصبح الخراب ذاته صورة من صور الأبدية.
ومع ذلك لا يمكننا فهم لامارتين كرحالة من دون التنبه إلى وجهه السياسي، فهو بعد عودته من الشرق، دخل الحياة العامة في فرنسا فصار نائباً ثم وزيراً، بل حتى بات لاحقاً واحداً من أبرز وجوه ثورة عام 1848. لكنه وسط كل ذلك، بقي يحتفظ بتلك النظرة نفسها إلى الشرق في داخله. لقد رأى في المجتمعات الشرقية نموذجاً لتوازن فقده الغرب، فحول تلك التجربة الروحية إلى السياسة مؤمناً بأن الحرية لا تكتمل إلا إذا تأسست على الإيمان، لكن السياسة سترهقه كما أرهقته المدن من قبل، فعاد لعزلة الكتابة ليتم حياته بين الشعر والتأمل، ولكن بفضل لامارتين صار الشرق في الأدب الفرنسي فضاء للرؤية الروحية، لا مجرد حيز للخيال الاستشراقي.
لقد فتح لامارتين الباب واسعاً، أمام دي نرفال وفلوبير، وحتى بودلير، ليجعلوا من السفر رحلة داخل الذات واعترافات حميمية، إذ إن ما بدأه شاتوبريان من الشرق كصورة للروح، أكمله لامارتين بإضفاء طابع صوفي عليه. كان الأول يبحث عن الله في التاريخ، أما الثاني فبحث عنه في الطبيعة، في النور، في الصحراء، ومن هنا صار لامارتين الرحالة الشاعر بامتياز: لا يصف ما يرى، بل يراه كحلم داخلي، يكشف له عن أسرار نفسه، بقدر ما يكشف له عن أسرار الشرق. وهكذا تمكن هذا الشاعر من أن يجعل من الشرق مختبراً للروح الأوروبية، ومن الرحلة فناً يجمع بين الاعتراف والتأمل والشعر. وإذا كان شاتوبريان قد كتب رحلته كحكاية عن الإيمان المفقود، فإن لامارتين كتبها كصلاة للعودة للنور، وهكذا يلتقي الاثنان على طريق واحد: طريق الشعر التي تمر من خلال الصحراء.