ملخص
على رغم أن فيردي حين عرضت "التروبادور" للمرة الأولى (1853) كان واثقاً من أنها ستحقق نجاحاً منقطع النظير، وجد نقاد كثر أن عليهم أن يشاكسوه بصورة أو بأخرى على ذلك النجاح بصرف النظر عما لمسوه في قاعة العرض من تصفيق وارتياح جماهيري واسع
عند أواسط سنوات الـ50 من القرن الـ19، وتحديداً في عام 1853 لم يعد على جوزيبي فيردي، سيد عوالم الأوبرا الإيطالية، أن يشعر بأنه يدين بأي شيء لأحد هو الذي حقق للإيطاليين ما كان كبار مبدعيهم يحلمون به منذ زمن بعيد: أن يصبح لديهم في بلدهم ملحن أوبرالي ينافس الألماني ريتشارد فاغنر في المجالين الأساسين: عدد الأوبرات التي يقدمها للجمهور في كل عام، سواء كانت تنتمي إلى سنواته السابقة، أم كانت من إنتاج العام نفسه، من ناحية، والمستوى بالغ التقدم والروعة لكل جديد له، من ناحية ثانية.
ولقد تجلى ذلك خاصة في عملين أوبراليين كبيرين ظهرا تباعاً ليحققا من النجاح ما أكد مكانة فيردي في الصف الأول، وهما طبعاً، "لا ترافياتا" المقتبسة من مسرحية ألكسندر دوما الابن "غادة الكاميليا"، و"التروبادور" المقتبسة بدورها من مسرحية للإسباني أنطونيو غارسيا غيتييريس.
ولئن تميز العملان بكونهما اعتبرا معاً من أكثر أوبرات فيردي رومنطيقية، فإن نجاح "لا ترافياتا" بدا مضموناً، وربما لأن مسرحية دوما الابن كانت حاملة في ذاتها للنجاح ومعروفة على صعيد العالم كله، بينما كان على فيردي أن يبذل جهداً مضاعفاً لفرض "التروبادور". وهو فعل ذلك بالتأكيد، وجُوبه على أية حال بقدر من التهجم لم يكن ثمة ما يماثله بالنسبة إلى الأوبرا الأخرى، بل سيقول البعض إن فيردي وإن عمل على الأوبراتين معاً، فإنه بدا أكثر تجديداً ومشاكسة في الأوبرا ذات الأصل الإسباني. وهذا على رغم أن الموسيقي الكبير حرص في العملين على أن يطعم موسيقاه الإيطالية الخالصة بأجواء فرنسية، في حال "لا ترافياتا"، وإسبانية فرنسية في حال "التروبادور".
وإذا كان مفهوماً هذا الحضور "الفرنسي" في "لا ترافياتا" بالنظر إلى أن هذه الأوبرا تدور وتنتمي إلى الحياة الاجتماعية والفنية الباريسية، فإن هذا الحضور في "التروبادور" يحتاج إلى توضيح سنصل إليه بعد سطور.
معركة حول تحفة
قبل ذلك قد يكون من الأفضل التوقف عند المعركة النقدية التي أثيرت من حول أوبرا "التروبادور" واستدعت تدخل الموسيقي الفرنسي جورج بيزيه الذي جاء متأخراً بعض الشيء.
فعلى رغم أن فيردي كان حين عرضت "التروبادور" للمرة الأولى - روما يوم الـ19 من يناير (كانون الثاني) 1853 - كان واثقاً من أنها ستحقق نجاحاً منقطع النظير، وجد نقاد كثر أن عليهم أن يشاكسوا بصورة أو بأخرى على ذلك النجاح بصرف النظر عما لمسوه في قاعة العرض من تصفيق وارتياح جماهيري واسع. بالمناسبة كانوا يرون أن مهنتهم نفسها تفرض عليهم أن يشاغبوا فانطلق "كورس الأصوات النشاز" - كما سيسميه جورج بيزيه، ولو بعد ذلك بسنوات - في حفلة تنديد وشجب يساعدهم فيها منذ اليوم التالي جمهرة الموسيقيين التقليدية الذين، كالعادة المستدامة، يخشون كل تجديد في الفن. وعلا صراخهم: "إن فيردي يسيء إلى هذا الفن الغنائي إساءات بالغة"، ولكن من دون أن يقول أحد "كيف". "ها هو فيردي يحطم أصوات المغنين ويمزق حناجرهم"، "لقد أضحى فن فيردي مبتذلاً كل الابتذال".
صحيح أن المعركة يومها لم تكن متكافئة، بين فنان كبير كان قد بات أيقونة قومية، وعدة أصوات "لا هي في العير ولا في النفير"، كما قال بيزيه صاحب أوبرا "كارمن"، لكن هذا وجد نفسه مع ذلك يطلق حكمه في الأمر كاتباً: "عندما يحدث لصاحب مزاج شغوف، عنيف، بل متوحش حتى، عندما يحدث لفيردي أن يعطي الفن عملاً حيوياً وقوياً مطعماً بالذهب، حتى وإن غاص في الوحل، في الخل أو في الدم، ليس لنا أن نتوجه إليه قائلين: رويدك يا سيدي، إن عملك يفتقر إلى الذوق، رويدك، إنه عمل غير متميز! ترى أيها السادة هل يزعم أحد أن مايكل أنجلو كان يحقق عملاً متميزاً؟ وهوميروس أو دانتي، شكسبير، بيتهوفن، تسربانتيس، أو رابليه... هل حقق أي منهم عملاً كان يراه أو يريده متميزاً؟".
نجاح عالمي
في الأصل كتب الشاعر الإسباني غيتييريس مسرحيته الشعرية هذه مستنداً إلى حكاية شعبية متداولة في إقليم أراغون الإسباني، ويحكى أنها ذات أصل فرنسي حقيقي حتى وإن كانت تدور حول السحر والسحرة وما شابه ذلك، وبخاصة أن التروبادور ذا العلاقات الغجرية الجوال بين المناطق الفرنسية والإسبانية الجنوبية، يشتهر بأشعاره الفرنسية وحكاياته.
المهم أن هذه المسرحية التي تروي "أحداثاً" تعود إلى بدايات القرن الـ15 اشتهرت وراحت تقدم لزمن طويل في المدن والقرى في تلك المنطقة من العالم. ومن هنا، ما إن وصلت ذات يوم إلى فيردي حتى تمسك بها معتبراً إياها عملاً من شأنه أن يعطيه حرية تعبير مطلقة، هو الذي بات في وسعه اليوم أن يفرض على جمهوره أي تجديد يشاء.
وهكذا ولد هذا العمل الذي يتبدى واضحاً كيف أن الموسيقي جمع في صلبه فولكلوراً حكائياً له مكانته وتاريخه المتداول في البلدان المتجاورة الثلاثة. وهو ما كان بتطلع إليه منذ زمن.
ولقد ولد هذا العمل ليدور من حول جنية تلقي اللعنة على واحد من طفلين وُلدا لسيد إقطاعي في الأراغون، ولاحقاً يختفي الطفل الملعون ليخيل إلى الجميع أنه مات. وتدور الحكاية متنقلة بين أوساط الغجر، قوم تلك التي أطلقت اللعنة، وقصر الدوق الإقطاعي لتتخللها حكايات غرام وخيانات ولوحات رومنطيقية وما إلى ذلك إضافة إلى مرور للزمن هو ما مكن فيردي من أن يدمج هنا تنوعاً تلحينياً لا سابق له في موسيقاه، تنوعاً يجد في مجرى الحكاية وقلباتها المسرحية المدهشة ما يبرره. ولقد أتاحت له تلك الحرية مع تنوع الطبقات والأجواء أن يحدث في العمل تجديدات فاجأت أهل المهنة، لكنها راقت للجمهور الذي كان يحس خلال العرض بانتقال بديع من عالم إلى آخر ومن جو مفاجئ إلى آخر أكثر إدهاشاً منه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انقلاب موسيقي متكامل
والحقيقة أن ما كان فيردي يتوخى منذ البداية الوصول إليه لم يكن أقل من أحداث انقلاب شامل في فن الغناء "البل كانتو" نفسه يقوم على تغيير جذري في الأداء يتطلب من مغنيه اللجوء إلى أقصى ما يتمكنون منه في مجال الأداء، حيث لا يفوت متفرج الأوبرا أن يجد نفسه في مواجهة خشبة مليئة حيناً بصراخ الألم، وأحياناً بعبق الحب، وروعة المسرة وجنون الحياة. وكل ذلك في نسيج موسيقي، كان دائماً ما يدفع لاعبي دور مانريكو، التروبادور نفسه - وهو الفتى الذي كان من المعتقد أنه مات باكراً، ثم قيل: لا بل إنه قتل في الحرب - من أن يدرب صوته أسابيع طويلة كي يتمكن من تأدية الدور شديد التلون بين مشهد وآخر، وكذلك كانت الحال مع الساحرة الغجرية أزوتشينا، التي قيل إن دورها قد أتاح للمرة الأولى استخدام صوت نسائي حاد على خشبة أوبرالية برنة درامية... وكانت تلك هي الصورة الفنية التي رسمت مكانة فيردي والقتل أهل أمته من حوله.