ملخص
بعدما تخلت أوكرانيا عن ترسانتها النووية وصناعتها العسكرية عقب الاستقلال، أعادت بناء قدراتها من الصفر، فأنشأت صناعة سلاح محلية تمزج بين التكنولوجيا القديمة والابتكار الحديث، لتصبح اليوم قادرة على تصنيع صواريخ وطائرات مسيرة فعالة، وتنافس روسيا على رغم تردد حلفائها الغربيين.
بسذاجة مفرطة، وبنزعة انهزامية، وبينما كانت مخترقة حتى العظم بجواسيس موالين لموسكو، تخلت أوكرانيا [عام 1994] عن ترسانتها النووية وعن بنية صناعية كانت تؤمن ثلث إنتاج الاتحاد السوفياتي من السلاح، ووضعت ثقتها في الغرب وفي الكرملين لحمايتها، فإذا بها تترك وحيدة تقاتل من أجل البقاء.
واليوم، بعد مرور ثلاثة عقود، تجد الدولة الناشئة في مجال الابتكار العسكري التي تعيد رسم ملامح الحروب الحديثة، نفسها مضطرة إلى الخوض في عالم التصنيع العسكري المرتجل، حيث تمزج بين التكنولوجيات القديمة وخبرات تكنولوجيا المعلومات، في محاولة لكسر قيود فرضها عليها حلفاؤها، وأجبرت كييف على القتال بموارد محدودة.
أحدث ابتكاراتها هو صاروخ كروز يصل مداه حتى 3 آلاف كيلومتر، وتبلغ سرعته القصوى 900 كيلومتر في الساعة، فيما يتجاوز وزن رأسه المتفجر الطن الواحد، وقد استخدم بالفعل في ضربات داخل العمق الروسي.
ويعمل صاروخ "أف بي- 5 فلامينغو" Flamingo FP-5 بمحرك صاروخي ومحرك نفاث توربيني من الحقبة السوفياتية مثبت فوقه، وقد أعيد استخراج بعض هذه المحركات من مكبات النفايات الصلبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويملك الصاروخ الأوكراني ضعف مدى "توماهوك" الأميركي الشهير، وضعف كمية المتفجرات، أما كلفته فتكاد تكون مماثلة.
لكن ميزته الرئيسة في كونه خاضعاً بالكامل لسيطرة القوات الوطنية [لا تحتاج إلى موافقات دول الغرب]. في المقابل، فرضت المملكة المتحدة وفرنسا قيوداً على استخدام صواريخ "ستورم شادو" Storm Shadow المشتركة الإنتاج، فسمحتا باستخدامها فقط ضد أهداف روسية داخل الأراضي الأوكرانية طوال أشهر عدة.
قلصت الولايات المتحدة قدرة أوكرانيا على استخدام صواريخ "أتاكمز" الأميركية ضد أهداف روسية داخل روسيا، ولم تحسم قرارها بعد حول إمداد كييف بصواريخ "توماهوك"، التي ستغطي كلفتها دول أوروبية حليفة.
في المقابل، تستطيع كييف إطلاق صواريخ "فلامينغو" على أي هدف تختاره، من دون أن تخضع لضوابط وقيود "الحلفاء" في شأن ما يمكنها أو ما لا يمكنها فعله أثناء مواجهة القوات الروسية الغازية.
طليت النماذج الأولية من الصواريخ باللون الوردي بغية تسهيل عملية استعادتها بعد رحلات الاختبار، علماً أنها تستهدف عمق الأراضي الروسية، وقد صممت لتعطيل قدرة موسكو على مواصلة العمليات العسكرية في أوكرانيا.
وقد كان لاستهداف مصافي النفط أثر واضح في السوق الروسية. ففي بعض الفترات، فقدت روسيا نحو 20 في المئة من قدرتها الإنتاجية للوقود، مما دفع بأسعار البنزين عند المضخات إلى الارتفاع بنسبة 10 في المئة.
ركزت أوكرانيا هجماتها على "محطات التكسير الحفزي السائل" داخل المصافي، وهي في الغالب مستوردة من الغرب، ويحظر على روسيا شراء مزيد منها [تستخدم هذه الوحدات لتحويل الهيدروكربونات الثقيلة ذات نقاط الغليان المرتفعة إلى منتجات أخف وأكثر قيمة مثل البنزين وزيوت الوقود].
وبينما إمدادات الأسلحة من الغرب إلى أوكرانيا مشوبة بالغموض وعدم اليقين، أعلن فولوديمير زيلينسكي أن بلاده باتت تنتج الآن نحو 60 في المئة من أسلحتها محلياً.
وتقول مديرة القسم التقني لدى "فاير بوينت" Fire Point، الشركة المنتجة لصواريخ "فلامينغو" وأنواع أخرى من الذخائر، إينا تيريخ، إنه "حين يكون السلاح موجهاً إلى رأسك، لا تشغلك المعايير أو البروتوكولات، فكل ما يهم هو ’أن يعمل السلاح فعلاً‘".
وتضيف "والإنجاز الأكبر للحكومة الأوكرانية يكمن في تقليص الضغوط البيروقراطية إلى أقصى حد، لتمكين التكنولوجيا من التطور والازدهار".
وتتابع "هذا تحديداً ما واجهته شركتنا، لم نهتم بالتزام معايير حلف الناتو. لم يكن همنا سوى أن تكون أسلحتنا فاعلة على خط المواجهة، لا مجرد استيفاء أوراق بيروقراطية. وبفضل ذلك صنعنا سلاحاً ذا كفاءة عالية".
إلى جانب صواريخ "فلامينغو"، تنتج "فاير بوينت" أيضاً مسيرات قصيرة المدى على طراز "شاهد" تسمى "أف بي 1" (FP1) و"أف بي 2" (FP2)، وقد استخدمت المسيرة الأولى مراراً في هجمات على روسيا وصلت أحياناً إلى مشارف موسكو.
أما "أف بي 2"، التي تبلغ حمولة متفجراتها 150 كيلوغراماً، فقد تسببت قوتها التدميرية بالتباس لدى بعض المراقبين، إذ ظنوا خطأ أنها صواريخ أميركية بعيدة المدى.
تكمن ميزة هذه المسيرات في كلفتها المتدنية وسرعة تصنيعها. مثلاً، يستغرق تصنيع الأجنحة بضع ساعات، وهيكل الطائرة نحو 30 دقيقة باستخدام خليط من البلاستيك وألياف الكربون.
تقوم "فاير بوينت" بتجميع أجزاء هذه الآلات الخفيفة الوزن باستخدام طابعات كربونية، وتشغلها بمحركات جزازات العشب، كذلك تعتمد هذه المسيرات على أنظمة ملاحة مفتوحة المصدر.
وتؤكد تيريخ أن الشركة لا تدخر أي جهد أو مال في تطوير الإلكترونيات الخاصة بالأسلحة، إذ صممت لتفادي أنظمة التشويش الروسية.
تعترض القوات الأوكرانية نحو 90 في المئة من المسيرات الروسية من طراز "شاهد". من ثم، فمن المعقول افتراض أن المسيرات الأوكرانية تواجه معدل خسائر مماثلاً. بناء عليه، لا بد من أن تكون هذه الطائرات ذكية ورخيصة الإنتاج كي تنجح في اختراق منظومات الدفاع الجوي.
تبلغ كلفة الدرون الواحدة من طرازي "أف بي 1" و"أف بي 2" نحو 50 ألف دولار. ويقدر المسؤولون الأوكرانيون أن كلفة المسيرات الحديثة من طراز "شاهد" ربما تصل إلى 250 ألف دولار لكل طائرة، في حين تشير تقديرات مستقلة إلى أن كلفة النسخ الروسية نحو 80 ألف دولار.
بالنسبة إلى أوكرانيا، تكتسي المنافسة على الأسعار أهمية كبيرة. معلوم أن الاتحاد الأوروبي، علماً أنه الداعم الأكبر لكييف، يشكل تكتلاً اقتصادياً يتجاوز حجمه اقتصاد روسيا بتسع مرات في أقل تقدير، وتملك دوله قوة إنفاق تعادل أربعة أضعاف قوة روسيا.
يستطيع حلفاء أوكرانيا أن يتفوقوا على روسيا في الإنفاق لو أرادوا، ولكنهم حتى الآن لم يفعلوا.
وصلت الحرب الآن إلى حال من الجمود المرهق، فروسيا تتفوق في العدد والموارد البشرية، فيما تراهن أوكرانيا على الحماسة والابتكار. غير أن هذا التفوق الأوكراني مهدد بالتراجع، بعدما بدأت موسكو تتعلم بسرعة من أخطائها الدموية السابقة في ميدان القتال.
وحظيت روسيا بأعوام طويلة من الاستعداد لغزو أوكرانيا. وبالنظر إلى الوراء، فقد ساعدها في ذلك انهيار قطاع صناعة السلاح الأوكرانية عقب استقلال كييف عن الاتحاد السوفياتي عام 1991.
آنذاك، كانت أوكرانيا تمتلك ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم، وتنتج نحو 30 في المئة من إجمال الأسلحة السوفياتية.
كانت أوكرانيا تصنع بعضاً من أكثر أسلحة الكرملين رعباً، من قبيل "أس أس- 18" (SS-18)، الصواريخ الباليستية العابرة للقارات المعروفة باسم "الشيطان" Satan.
ما زال في كييف مصنع كانت شركة "أنتونوف" Antonov تنتج فيه أعداداً كبيرة من طائراتها، كما كانت العاصمة أيضاً مركزاً لإنتاج الصواريخ المضادة للدبابات والمضادة للطائرات.
كانت مدينة خاركيف، في شرق أوكرانيا، تنتج الدبابات، وضمت نحو 40 جامعة ومؤسسة تعليمية، وقد أنجبت علماء شاركوا في تطوير صواريخ بيعت لاحقاً في مختلف أنحاء العالم.
ولكن عام 1994، اقتنعت أوكرانيا بالتخلي عن ترسانتها النووية في مقابل اتفاق مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا يضمن أمنها.
لاحقاً، انضمت الصين وفرنسا إلى الاتفاق، ولكن أوكرانيا كانت الوحيدة التي اعتبرت أن هذه الوثائق التي تحمل نصوص الضمانات الأمنية تستحق كل الجهد المبذول في تدوينها.
بعد مرور 10 أعوام، تركت أوكرانيا صناعتها العسكرية تنهار، فتراجع عدد العاملين فيها من 3 ملايين إلى أقل من مليون.
الجيش الأوكراني المتهالك واجه أول غزو روسي لبلاده عام 2014، وكانت ميليشيات المتطوعين الخاصة هي التي أنقذت البلاد إلى حد كبير.
واليوم، تعتمد أوكرانيا على شركات ناشئة من قبيل "فاير بوينت" و"جنرال تشيري" General Cherry. تنتج الأخيرة أسبوعياً آلاف المسيرات لاعتراض صواريخ "شاهد" في مواجهة روسيا، إضافة إلى حماية القوات الأوكرانية على الخطوط الأمامية، حيث تحول القتال من حرب خنادق تقليدية إلى كابوس مستمر للمشاة، الذين تطاردهم بصورة فردية طائرات صغيرة قاتلة.
في مواقع سرية منتشرة في مختلف أنحاء أوكرانيا، تعمل الطابعات الثلاثية الأبعاد على مدى الساعة من دون توقف. وفي حجرات مخصصة، تدوي أصوات المثاقب، وتذوب مادة اللحام، وينكب العمال على تركيب الدوائر الكهربائية لطائرات درون الرباعية شبه المستقلة، التي ترسلها القوات الأوكرانية كل ليلة لاعتراض الصواريخ القادمة.
وتقدر قيمة صناعة السلاح الأوكرانية حالياً بنحو مليار دولار فحسب، لكنها تنمو بسرعة هائلة — تماماً كإحدى طائرات "الرصاصة" المسيرة التابعة لشركة "جي سي" GC الأوكرانية، التي تنطلق عمودياً من الأرض لتصل سرعتها إلى أكثر من 200 كيلومتر في الساعة في مواجهتها طائرات "شاهد" الروسية.
وفي منتصف هذه الحرب الطويلة، يسود شعور متزايد بالثقة داخل قطاع الصناعات الدفاعية الأوكراني، مدفوعاً بوتيرة النمو السريعة والنجاحات المحققة في ميادين القتال.
لكن هناك أيضاً إدراكاً بأن أوكرانيا تمتلك اليوم أقوى جيش في أوروبا الغربية، وأن الدروس المستفادة من ساحات القتال ومن ورش التصنيع ستجعل من كييف قوة مهيمنة في مستقبل القارة.
وتوضح تيريخ "علينا جميعاً أن ننضج ونتحمل المسؤولية ونصنع أمننا بأيدينا نحن".
وهذا يعني إنهاء الاعتماد على الولايات المتحدة.
وتختم تيريخ كلامها قائلة: "ما نتعلمه من العمل هنا هو أنك يجب أن تنوع مصادر اعتمادك وأن تعتمد على نفسك. عليك أن تراهن على مواردك الخاصة، وهذا بالضبط ما يجب أن تفعله أوروبا".