ملخص
هناك من يقول إن الرئيس الروسي وبعد تجاوز عثرات الأسابيع الأولى من عمليته الخاصة في أوكرانيا، وما صادف خطته العسكرية من عقبات و"أخطاء"، يبدو أنه قد تراجع عن تعجل التوصل إلى اتفاق سلام مع أوكرانيا.
عادت مسيرة المحادثات حول السلام في أوكرانيا إلى نقطة الصفر، وها هو الرئيس الأميركي دونالد ترمب يعود عن اقتراحه حول اللقاء مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في العاصمة المجرية بودابست، مما أثار دهشة الأوساط السياسية المحلية والعالمية.
وعلى رغم إعلان موسكو أكثر من مرة استعدادها للحوار مع أوكرانيا فإن ما تعرضه من مقترحات لا يلقى قبول الجانب الأوكراني الذي يظل متمسكاً بسابق ما طرحه الرئيس فولوديمير زيلينسكي من مقترحات تبدو في جوهرها على طرفي نقيض مما يطرحه ممثلو الكرملين، وذلك في وقت ثمة من يقول إن الرئيس فلاديمير بوتين لا يتعجل توقيع اتفاق السلام مع أوكرانيا، لأسباب كثيرة يمكن تلخيصها في مضمون مقترحاته التي أوجزها في لقائه مع قيادات وزارة الخارجية الروسية في يونيو (حزيران) 2024.
مسيرة الفرص الضائعة
هناك مستندات تقول إن أوكرانيا فقدت كثيراً من فرص السلام الذي كان من الممكن تحقيقه مع روسيا منذ مطلع القرن الحالي، وكان البلدان سبق وتوصلا إلى اتفاق حول الحدود المشتركة في ما بينهما بعد توقيع مذكرة بودابست عام 1994 التي أقرت الوضعية غير النووية لأوكرانيا بضمان كل من الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا، التي تنازلت أوكرانيا بمقتضاها عما كانت تملكه من أسلحة نووية.
وعلى رغم إجراء أكثر من استفتاء في شبه جزيرة القرم أسفرت نتائجهم عن الاحتفاظ لسكان شبه الجزيرة بالاستقلال الذاتي، فقد ظلت السلطات الفيدرالية في كييف عند موقفها من عدم الاعتراف بمثل هذه النتائج، حتى كان الاستفتاء الأخير الذي جرى في مارس (آذار) 2014 وأسفرت نتيجته عن إقرار الغالبية الساحقة بالموافقة على إعلان الانفصال عن أوكرانيا من جانب واحد، وهو ما أعقبه الاستفتاء حول إعلان الرغبة في الانضمام إلى روسيا الاتحادية.
يذكر المراقبون أن روسيا وقفت إلى جانب هذه الرغبة، مما أثار موجة اعتراض من جانب الدوائر الغربية الواسعة النطاق، جاءت في أعقاب الانقلاب على الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش عام 2014، وهو ما تناولته "اندبندنت عربية" في أكثر من تقرير لها من موسكو.
وعلى رغم عدم الاعتراف الدولي بانضمام القرم إلى روسيا، فقد اكتفى المجتمع الغربي آنذاك بما صدر من عقوبات ضد روسيا، وذلك في وقت أعلنت فيه مقاطعتا لوغانسك ودونيتسك في جنوب شرقي أوكرانيا انفصالهما من جانب واحد احتجاجاً على الانقلاب ضد الرئيس يانوكوفيتش، مما كان بداية الاشتباكات المسلحة التي دامت لما يقارب ثمانية أعوام.
على رغم عدم اعتراف موسكو باستقلال المقاطعتين فإنها وقفت إلى جانبهما إبان فترة الأحداث الدامية التي اجتاحت المقاطعتين، وحتى توقيع اتفاقات مينسك بضمان من جانب "مجموعة نورماندي"، التي تمثلت في المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهي الاتفاقات التي عادت ميركل وهولاند إلى الاعتراف بأنها كانت "ستاراً"، لتوفير المساحة الزمنية اللازمة لإعداد الجيش الأوكراني وتسليحه لاستعادة المقاطعتين بالقوة المسلحة.
وكانت موسكو أعلنت عن موقفها، الذي سبق وكشفت عنه أكثر من مرة، من اعتراضها على طلبي أوكرانيا وجورجيا الانضمام إلى حلف "الناتو"، وهو ما أوجزته في رسالتيها إلى الإدارة الأميركية السابقة وحلف "الناتو" في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، في موقف يستمد الكثير من مفرداته من الخطاب التاريخي الذي ألقاه الرئيس الروسي بوتين في مؤتمر الأمن الأوروبي في ميونخ في فبراير 2007.
التراجع عن اتفاقات السلام
وهكذا حاولت موسكو على مدى ما يقارب ربع قرن التوصل إلى ما يكفل مطالبها الأمنية لإبرام اتفاق مع أوكرانيا ورعاتها في الدوائر الغربية، حتى وبعد بداية "العملية العسكرية الروسية" الخاصة في أوكرانيا في الـ24 من فبراير 2022، جنحت القيادة الروسية إلى السلام بموافقتها على المحادثات مع الجانب الأوكراني التي جرت بداية في بيلاروس، ثم في إسطنبول برعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وتوصل الجانبان في مارس إلى اتفاق يقضي بتراجع أوكرانيا عن طلب الانضمام إلى "الناتو" والإعلان عن وضعيتها الحيادية، ونص على ذلك دستورها وإعلان استقلالها عام 1991 وغير ذلك من بنود ذلك الاتفاق، إلا أن القيادة الأوكرانية وبإيعاز من بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، ومباركة من الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، عادت إلى رفض ذلك الاتفاق الذي كان كفيلاً بالاحتفاظ بمعظم ما تطالب به أوكرانيا اليوم من أراضٍ استولت عليها روسيا، التي تزيد على 20 في المئة من مساحة الأراضي الأوكرانية، فضلاً عن مئات آلاف ضحايا الحرب من الجانبين.
وها هو بوتين يعلن مجدداً شروطه التي لم يحد عنها منذ أعلنها مع بداية ما تسميه موسكو "العملية العسكرية الخاصة" وعاد ليوجزها في لقائه مع قيادات وزارة الخارجية الروسية، إلا أنه تحلى ببعض المرونة في كثير من اللقاءات التالية التي جمعت موفديه مع نظرائهم الأميركيين في الرياض وإسطنبول، ثم في إنكوريج بألاسكا بالرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي كان صاحب المبادرة في اختيار ألاسكا موقعاً للقمة الروسية - الأميركية التي لم تسفر عن النتيجة المرجوة، وإن حققت بعض التقدم على صعيد العلاقات بين البلدين.
على أن هناك من يقول إن الرئيس الروسي وبعد تجاوز عثرات الأسابيع الأولى من عمليته الخاصة في أوكرانيا، وما صادف خطته العسكرية من عقبات و"أخطاء"، يبدو وقد تراجع عن تعجل التوصل إلى اتفاق سلام مع أوكرانيا، يسانده في ذلك ما تحققه قواته المسلحة من انتصارات متتالية كان آخرها استيلاءه على بلدة كارسنوارمييسك وسقوط القوات الأوكرانية فريسة حصار استمر أياماً عدة ما كان مقدماً لأسر آلاف الجنود الأوكرانيين.
وها هي صحيفة "كورييرا ديلا سيرا" الإيطالية تقول في واحد من أعدادها الأخيرة، "إن بوتين ليس في عجلة من أمره للتفاوض في شأن أوكرانيا، إنه واثق من النصر في ساحة المعركة". وأضافت "إن روسيا واثقة من قوتها وتعلم أنها ستحقق النصر، فلم تعد هزيمة القوات المسلحة الأوكرانية مجرد أمل غامض، بل حقيقة لا جدال فيها، ولهذا السبب تحديداً لا يتعجل بوتين وقف إطلاق النار ولا يُكثر من الحديث عن المفاوضات".
وأشارت الصحيفة الإيطالية إلى أن "القوات المسلحة الروسية تحقق انتصاراً على القوات المسلحة الأوكرانية في كراسنوأرميسك"، كذلك رفض قائد القوات الأوكرانية المسلحة الجنرال سيرسكي وللمرة الأولى تنفيذ أمر زيلينسكي "لا هجوم جديداً في جمهورية دونيتسك الشعبية"، استناداً إلى الواقع الصعب الذي صادفته القوات الأوكرانية هناك، وبعدما فقدت أوكرانيا ما يقارب ربع مساحتها، نتيجة "تعثر" القيادة السياسية، وسيرها في ركاب الدوائر الغربية، وتناسي أصولها السلافية التاريخية التي تجمعها مع روسيا.
"أس أس أس أر"
ومن اللافت في هذا الصدد أن الصحيفة الإيطالية توقفت عند أحد المشاهد الطريفة التي ظهر فيها وزير الخارجية ااروسي سيرغي لافروف مرتدياً لدى وصوله إلى ألاسكا، "فانلة" مكتوباً عليها "CCCP"، الأحرف الأولى من "اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية" الاسم الرسمي للاتحاد السوفياتي السابق، في إشارة لا تخلو من مغزى، إلى ما يراود كثيراً من أبناء هذه الدولة من أحلام استعادة أمجاد الماضي، وذلك ما سبق وقاله الرئيس بوتين في ذكرى ميلاد بطرس الأعظم مؤسس روسيا الحديثة حول أنه "يقتفي خطى الإمبراطور الراحل" وأنه يستعيد ما فقده من أراضٍ، ولا يطمح إلى الاستيلاء على أراضي الغير، وذلك على خلاف ما كان يقوله إبان أولى أعوام ولايتيه في مطلع القرن الجاري، "من لم تراوده مشاعر الأسى مع سقوط الاتحاد السوفياتي هو إنسان بلا قلب، أما من تراوده الرغبة في استعادة ذلك الاتحاد السوفياتي السابق فهو إنسان بلا عقل"، وثمة ما يشير إلى أن ذلك يدفع كثيرين إلى تساؤلات كثيرة منها ما أعلنه الرئيس الأميركي ترمب مع أول ولايته الثانية حول يقينه من عدم تفريط روسيا في القرم وضرورة اعتراف زيلينسكي، على رغم ما أعلنه كثيراً على مضض من عدم اعترافهم بالاستيلاء على أراضي الغير، وذلك على النقيض من نتائج الاستفتاء الشعبي واحترام حق الشعوب في تقرير المصير بموجب ميثاق الأمم المتحدة، أسوة بما جرى بالنسبة إلى اعتراف غالبية البلدان الأوروبية باستقلال كوسوفو في تسعينيات القرن الماضي، كما أعلن بوتين في أكثر من مناسبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كذاك فإن هناك من يقول أيضاً إن بوتين كثيراً ما انتظر حكومة موالية لروسيا في أوكرانيا ثاني أكبر الجمهوريات السوفياتية السابقة، وإنه على يقين من ضرورة رحيل زيلينسكي واندثار ما كان ينشره من مشاعر وميول نحو الغرب بكل قيمه وعاداته الغريبة، فضلاً عن رفضه النازية الجديدة التي تستعيد مواقعها في أوكرانيا مع كل يوم جديد، وذلك إلى جانب ما يقال أيضاً حول أن محادثات الرياض وإسطنبول وألاسكا بين الجانبين الروسي والأميركي لم تسفر عن زحزحة روسيا عن مواقفها، وإن حاول أعضاء وفدها من رجال الدبلوماسية الروسية التحلي بكثير من المرونة، أما عن "قمة بودابست" التي سارع الرئيس الأميركي إلى إلغائها بموجب نصيحة وزير خارجيته ماركو روبيو، فقال بوتين إنه وافق عليها نزولاً عند رغبة نظيره الأميركي ترمب.
ونقلت وكالة أنباء "تاس" أخيراً عن المتحدث الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف ما قاله حول أن اللقاء بين فلاديمير بوتين ودونالد ترمب "ممكن نظرياً"، لكن "ليست هناك حاجة ملحة إليه في الوقت الحالي"، وأضاف "علينا الآن العمل بجدّ، ليس لانعقاد القمة، بل من أجل التوصل إلى الاتفاق في شأن أوكرانيا، ومع ذلك، لا داعي للتسرع في هذا الأمر أيضاً"، ومن اللافت في هذا الصدد أن الشخص الوحيد الذي لا يفهم شيئاً، أو يتظاهر بعدم الفهم، هو ساكن البيت الأبيض، حسب ما خلصت صحيفة "كورييرا ديل سيرا" بعد إلغاء قمة بودابست، ونقلت ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بانزعاج أن الولايات المتحدة هي من اقترحت عقد اجتماع جديد، وأكد وزير خارجيته سيرغي لافروف في حديثه إلى وكالة أنباء "تاس" أن مستقبل العلاقات "الرفيعة المستوى" بين البلدين يعتمد على الجانب الأميركي، ملمحاً إلى أن اهتمام روسيا بعقد اجتماع آخر محدود للغاية، وخلصت الصحيفة الإيطالية إلى القول "إنه من الصعب فهم بوتين أحياناً، لكن ترمب أصعب فهماً".