ملخص
يتولى حراس العمارات مسؤوليات متعددة، وعلى رغم تعدد المهمات، إلا أن الراتب الشهري نادراً ما يتجاوز سقف 350 دولاراً، في ظل ما يشهده الأردن من ارتفاع للأسعار وكلف المعيشة، التي تعد الأعلى في المنطقة.
يشكل "حارس العمارة" أو "البواب" في الأردن، بخاصة في العاصمة عمان، أكثر من مجرد موظف نظافة أو حارس ليلي، بل هو جزء أصيل ومهمش في آن واحد من النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمدن الأردنية.
لكن خلف هذا اللقب البسيط، تختبئ طبقة اجتماعية تكاد تكون "منسية"، تسكن تحت الأرض في غرف ضيقة تعرف بـ"الطابق صفر"، وتعمل بلا ضمانات أو حد أدنى من الحقوق.
يصفهم البعض بأنهم سكان الظل في المباني التي تبهرنا بواجهاتها الزجاجية، يحملون مفاتيح كل الأبواب، غادروا أوطانهم وأحلامهم بحثاً عن لقمة العيش، ينامون قرب أبواب البنايات التي يحرسونها، في مزيج بين الحضور الدائم والغياب عن العدالة الاجتماعية.
مهمات ومسؤوليات متعددة
تواجه هذه الفئة أبعاداً إنسانية واجتماعية واقتصادية، وقصصاً لم ترو بعد، وفقاً لتقديرات غير رسمية من نقابة العاملين في الخدمات العامة، فإن عدد حراس العمارات في الأردن يتجاوز 30 ألف شخص، معظمهم من العمال الوافدين (مصريين وسودانيين وبنغلاديشيين) إلى جانب نسبة ضئيلة من الأردنيين الذين دفعتهم الظروف الاقتصادية القاسية إلى هذه المهنة.
يتولى حراس العمارات مسؤوليات متعددة، وعلى رغم تعدد المهمات إلا أن الراتب الشهري نادرا ما يتجاوز سقف 350 دولاراً، في ظل ما يشهده الأردن من ارتفاع للأسعار وكلف المعيشة، التي تعد الأعلى في المنطقة.
ينجح بعضهم في مهمتهم سريعاً، ويتحول معظمهم إلى "أمين السر" أو "العين الساهرة" للسكان، ويصبحون جزءاً من الأسر، بخاصة أن بعضهم يمارس هذه المهنة منذ أكثر من 20 عاماً.
يعيش الحراس وعائلاتهم، إن كانوا محظوظين بإحضارها، في ظروف سكنية متواضعة جداً، وغالباً ما تكون "غرفة الحارس" مجرد مساحة وظيفية لا تفي بمتطلبات العيش الكريم.
لكن في المقابل ثمة من يتحدث عن ممارسات سلبية لبعض حراس العمارات، كسيطرتهم المطلقة على مناطق وأحياء بعينها، وعدم تفرغهم التام لمهنتهم، وسفرهم إلى بلادهم لأشهر طويلة، إضافة الى تقاضي بعضهم "خلو رجل" في مقابل التنازل عن وظيفته في البناية لشخص آخر.
مصادر رزق أخرى
يقول محمد الذي يعمل حارس عمارة في العاصمة عمان إنه يعوض الدخل الشهري القليل بغسيل السيارات والقيام ببعض المهمات كتنظيف الشقق وإحضار طلبات ربات البيوت، حتى يتمكن من تحويل مبلغ شهري إلى عائلته في مصر.
بينما الأوفر حظاً من حراس العمارات هم من يعملون في بنايات فارهة غرب العاصمة عمان، حيث تقطن العائلات الثرية والميسورة.
ومع ارتفاع رسوم ترخيص حراس العمارات من وزارة العمل الأردنية إلى 1000 دولار سنوياً، يواجه عدد منهم معضلة كبيرة في توفير هذا المبلغ، إذ استحدثت وزارة العمل العام الماضي تصريح عمل جديد تحت مسمى "عامل خدمات عمارة".
ويعتمد معظم العاملين في هذه المهنة على مصادر أخرى كالإكراميات الموسمية والأعياد للوفاء بالتزاماتهم، إذ يرسل هؤلاء الحراس جزءاً كبيراً من دخلهم كحوالات مالية إلى عائلاتهم في بلدانهم الأصلية، مما يجعلهم جزءاً من شبكة التحويلات المالية التي تسهم في دعم اقتصاديات دولهم، وفي الوقت نفسه يسهمون في الاقتصاد الأردني بتوفير اليد العاملة الرخيصة والجاهزة.
مسكن الطابق صفر
" أنا بشوف الكل، بس محدا بشوفني" بهذه الجملة يلخص محمد، وهو حارس عمارة في منطقة تلاع العالي بالعاصمة عمان واقعه اليومي، يسكن محمد في غرفة صغيرة قرب مدخل العمارة التي يعمل بها، التي لا تتجاوز مساحتها ثمانية أمتار مربعة، وتفتقر إلى التهوية، والنوافذ ونظام الصرف الصحي، ويشكو محمد من مسكنه الذي يتصف بالحرارة الشديدة صيفاً والبرد القارص شتاء.
ويصنف مركز "الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية" مساكن هؤلاء الحراس بأنها من أدنى مستويات السكن في الأردن من حيث المعايير الصحية والإنسانية، كما يعاني معظمهم عدم وجود عقود عمل رسمية، أو تأميناً صحياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى مدار اليوم، يراقب حراس العمارات تفاصيل حياة عشرات الأسر، من خروج الأطفال إلى المدرسة، وعودة الأزواج من العمل، لزيارات الأقارب، ومع ذلك يعيشون عزلة إجبارية يخفف من وطأتها تجمعات أسبوعية للعاملين من الجنسية نفسها.
يصف أحدهم جانباً اجتماعياً ملحاً في حياة حراس العمارات بالقول "في لحظات الطوارئ، نكون أول من يستدعى، وفي الأعياد والمناسبات، غالباً آخر من يجري تذكره".
اقتصاد الظل
تشير دراسة صادرة عن مركز "تمكين للمساعدة القانونية" إلى أن نحو 70 في المئة من حراس العمارات يعملون في الاقتصاد غير المنظم، أي من دون تسجيل رسمي في الضمان الاجتماعي أو وزارة العمل.
في المقابل ثمة من ينادي بتوطين هذه العمالة بحيث يصبح حراس العمارات أردنيون، لكن هذه الدعوات تصطدم بقلة الإقبال على هذا النوع من العمل من الشباب الأردني، ويعتقد هؤلاء أن تنظيم هذا القطاع سيحفز الأردنيين على العمل فيه.
وأظهرت دراسة أعدها المنتدى العربي للبيئة والتنمية الحضرية 2023 أن نسبة كبيرة من حراس العمارات يشعرون بـ"نظرة دونية" من السكان، لكن هذه النظرية لا تنطبق على الجميع، إذ ترى كثير من العائلات أن حارس العمارة بات جزءاً من حياتهم اليومية وأحد أفراد الأسرة.
فراغ قانوني
على رغم وجود قانون العمل الأردني الذي ينظم علاقات العاملين في القطاع الخاص، إلا أن فئة الحراس تقع في "المنطقة الرمادية"، فالقانون لا يفرض على البنايات تسجيلهم رسمياً، مما يجعلهم خارج مظلة الضمان الاجتماعي، ويفقدهم حقوقهم في التعويض أو الإجازة أو الرعاية الصحية.
ولذلك يطالب قانونيون باعتبار حرس العمارات جزءاً من منظومة الأمان والخدمة المدنية في المدن، على رغم غياب الاعتراف الرسمي بهم كـ"مكون خدمي أساسي" مما يجعلهم عالقين في الهامش.
ويدعو هؤلاء إلى إدراج هذه الفئة من العمالة تحت مظلة الضمان الاجتماعي، ووضع حد أدنى موحد للأجور والسكن اللائق، ومراقبة العقود التي تنظم العلاقة بينهم وبين السكان عبر الجهات الرسمية.
توطين المهنة
يؤكد المرصد العمالي الأردني وجود أكثر من 9 آلاف تصريح عمل لحراس العمارات في الأردن، في خطوة تعد اعترافاً رسمياً يمهد لتوطين هذه المهنة وفتحها أمام الأردنيين، بدل أن تظل حكراً على العمالة الوافدة.
بينما يقول خبير الحماية الاجتماعية موسى الصبيحي إنه يفترض أن تقوم مؤسسة الضمان الاجتماعي بشمول العاملين في هذه المهنة باعتبار العمارة منشأة خاضعة للقانون، وأن ذلك من شأنه أن يوفر حماية اجتماعية للعاملين ويعزز المركز المالي للمؤسسة.
يقدر الصبيحي عدد حراس العمارات بنحو 100 ألف شخص، موضحاً أن أسباب عزوف الأردنيين عن هذه المهنة ليست اجتماعية، بل لأنها مهنة غير منظمة وتفتقر إلى معايير واضحة.
ومرت هذه المهنة بتحولات تاريخية واجتماعية من "الناطور" التقليدي إلى عامل خدمات المباني الحديثة، ففي المجتمعات الأردنية القديمة كان "الناطور" أو "الحارس الليلي" يمثل نموذجاً وظيفياً ذا مكانة اجتماعية نسبية، خصوصاً في الأحياء الصغيرة والبلدات.
ومع التوسع الحضري السريع في العاصمة عمان من منتصف الـ20، خصوصاً مع ظهور المباني السكنية متعددة الطوابق، بدأ دور "الحارس" بالتحول إلى وظيفة تتطلب مهارات متعددة، فتحولت هذه المهنة من قيمة اجتماعية إلى قيمة خدمية واقتصادية.