ملخص
الأردنيون يعيشون صموداً فريداً من نوعه بفضل شبكة اجتماعية قوية من التكافل غير الرسمي، واستراتيجيات للبقاء بعد تبخر الراتب أبرزها تطبيقات "الكاش باك"، والمقايضة، و"دفتر الدين" في البقالة يعود للواجهة.
في قلب المدن الأردنية وعلى وقع ضجيج الحياة اليومية فيها يختبئ واقع مرير يعيشه معظم الأردنيين، راتب يكاد يغطي نفقات أسبوع واحد، تاركاً وراءه صراعاً يومياً من أجل البقاء على خط الفقر وسط اقتصاد متقلب وأسعار ترتفع بلا رقيب. وفيما يحلو للبعض تسمية دخله الشهري بالشبح الذي لا يظهر إلا في الإحصاءات الرسمية، يقاتل آخرون للاندماج في اقتصاد مُوازٍ، أو التحايل على هذا الواقع باللجوء إلى بدائل تجسد واقعاً اجتماعياً وثقافياً جديداً تمثل شبكة أمان خفية لملايين المواطنين، كالمقايضات، والديون الصغيرة، وتطبيقات "الكاش باك"، وبيع الذهب.
استنزاف يومي
يرى مراقبون أن الراتب الشهري أصبح وسيلة مجرد دفعة أولى في سباق البقاء، في وقت تراجعت قدرة المواطنين على الادخار، وتحولت الأصول الصغيرة إلى مصدر تمويل طارئ متكرر في حلقة مفرغة من الاستنزاف المالي اليومي. وأكد المحلل الاقتصادي بسام الزعبي أن 70 إلى 80 في المئة من رواتب الأردنيين تنفق خلال الأيام الثلاثة الأولى من كل شهر بسبب الالتزامات الثابتة، مثل إيجار السكن، فواتير الخدمات، وأقساط القروض.
وأشار في الوقت نفسه إلى وجود التزامات اجتماعية وسلوكيات استهلاكية تضغط على موازنات الأسر، مثل التنافس في المظاهر، اقتناء سيارات حديثة، أو تسجيل الأبناء في مدارس باهظة الكلفة. واعتبر الزعبي "أن الحد الأدنى للأجور البالغ 400 دولار لا يعكس الواقع المعيشي للأردنيين، ما يدفعهم لإدارة دخلهم المتواضع بحلول شخصية مبتكرة، لكنها تبقى غير كافية لمواجهة الضغوط الاقتصادية اليومية". ولفت إلى أن ما بين 60 و65 من الأردنيين ملتزمون أقساطاً شهرية وفق دراسة حديثة، وبذلك يذهب الجزء الأكبر من الراتب إلى التزامات لا يمكن تأجيلها، تاركاً القليل جداً للنفقات المعيشية المتغيرة.
ابتكار أفكار
تقول سارة، التي تعمل موظفة في القطاع الخاص براتب شهري يبلغ 560 دولاراً "مع أسعار المواد الغذائية، الوقود، والفواتير، يكاد راتبي يذوب في الأسبوعين الأولين من الشهر على أحسن تقدير"، وتضيف أنها تضطر إلى ابتكار أفكار لتغطية بقية أيام الشهر، كالاستفادة من العروض وتطبيقات "الكاش باك" وبطاقات الحسم، والاقتراض من الأصدقاء. هذه الاستراتيجيات اليومية، كما تصفها سارة، "تعكس كيف أصبح الاقتصاد الموازي شريان حياة لكثيرين من الأردنيين، وهو اقتصاد لا يظهر في التقارير الرسمية، لكنه ذو أثر حقيقي على جيوب الناس".
يذهب آخرون بعيداً إلى حد اللجوء للمقايضات الغريبة كتبادل المواد الغذائية، والملابس، أو حتى الخدمات، والاعتماد على جمعيات المجتمع المحلي التي يوفر بعضها دعماً غذائياً أو نقدياً موقتاً للأسر المحتاجة، أما الحيلة الأكثر تداولاً فهو اضطرار بعض الأسر لبيع الذهب لتغطية الحاجات الطارئة، على رغم ما يمثله المعدن النفيس من رمز للأمان والاستقرار الاقتصادي للأسرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعمل سائدة، منذ سنتين، في خدمة بيع الأطعمة المنزلية لربات البيوت، بخاصة الموظفات، وتقول إنها نجحت بالكاد في توفير دخل إضافي لراتب زوجها المتواضع، ويضطر محمد الذي يعمل في وظيفة خارج العاصمة إلى المخاطرة، والعمل كسائق أجرة في طريق عودته إلى منزله على رغم عدم قانونية ما يقوم به، في محاولة لتأمين دخل إضافي شهري، كما يعمل صديقه سائقاً من خلال أحد التطبيقات غير المرخصة.
في الأحياء الشعبية الأكثر فقراً عادت ظاهرة دفتر البقالة كواحدة من تجليات التعايش مع تبخر الرواتب سريعاً، إذ يحتفظ البقال بدفتر صغير يسجل فيه "الذمم" الشهرية للعائلات، على أمل السداد عند قبض الراتب. وتحولت هذه الثقة الاجتماعية بين البائع والزبون إلى آلية تمويل مجتمعية غير رسمية، وأشبه بقرض شعبي من دون فوائد. في حين قفزت إلى الواجهة حيلة جديدة تمثلت في المشاركة السكنية وتجزئة الإيجار، إذ يضطر كثر من الشباب والعائلات الصغيرة لتشارك السكن لتقليل الكلف.
تضخم يلتهم الرواتب
في فجر اليوم الـ27 من كل شهر تتحول شاشة هاتف أبو خالد (50 سنة)، وهو موظف في القطاع العام، إلى شريان حياة لثوانٍ معدودة، إذ بعد إيداع الراتب في حسابه البنكي، سرعان ما يختنق ويختفي راتبه.
فقبل أن يشرق صباح اليوم التالي، يكون 70 في المئة من المبلغ قد تبخر آلياً: قسط البنك، إيجار الشقة، وفواتير الخدمات المتراكمة. ويتبقى لأبو خالد وأسرته المكونة من خمسة أفراد ما يقارب 200 دولار، لتغطية الغذاء، المواصلات، والتعليم لأكثر من ثلاثة أسابيع مقبلة.
تظهر دراسة حديثة لمؤسسة النقد العربي أن معدل التضخم السنوي في الأردن تجاوز تسعة في المئة في بعض القطاعات، في حين ترصد دائرة الإحصاءات العامة الأردنية تضخماً وارتفاعاً للأسعار بنسبة 1.85 في المئة خلال هذا العام، بينما لا تتم زيادة الرواتب أكثر من ثلاثة في المئة سنوياً في المتوسط، مما يخلق فجوة توجد ضغطاً مستمراً على المواطن وتدفعه إلى تبني حلول غير تقليدية.
في السياق أشار المتخصص في الشأن الاقتصادي حسام عايش إلى أن إيجار الشقق في الأردن مرتفع بصورة لا تتناسب مع دخل المواطن، موضحاً أن إيجار الشقق يستحوذ على نحو 40 إلى 50 في المئة من معدل الدخل، مضيفاً "إيجار الشقق إلى جانب كلف الطعام والشراب تستنزف نحو 80 في المئة من دخل الأردنيين، مما يترك المواطن مع مبالغ ضئيلة لتغطية الحاجات الأخرى".
وتظهر الأرقام الرسمية والتقديرية في الأعوام الأخيرة أن هناك فجوة كبيرة بين متوسط دخل الفرد في الأردن وتكلفة المعيشة الضرورية، وانهيار القدرة الشرائية لجزء كبير من المواطنين. ووفقاً لتقرير مؤسسة الضمان الاجتماعي للعام 2024 فإن متوسط الأجر الشهري لا يزيد على 700 دولار.
طوق نجاة
ثمة أسلوب شعبي آخر يعرف باسم "التكييش"، ويعني بصورة عامة تحويل أي أمر إلى "كاش" فوري، والحصول على سيولة نقدية بأي وسيلة ممكنة لتغطية النفقات اليومية بعد تبخر الراتب. ويلجأ بعض المواطنين الأردنيين إلى كل ما يمكن تسييله، عبر بيع أشياء ومقتنيات، تصريف شيكات ومستحقات عمل مؤجلة، أو حتى بيع راتب التقاعد، أو التقاعد المبكر، في ظاهرة يحلو للبعض تسميتها اقتصاد البقاء السريع، إذ يسعى المواطن لتحويل أي شيء يمكن أن يباع أو يرهن إلى سيولة نقدية عاجلة لتغطية الحاجات الأساسية. وعلى رغم أن "التكييش" يعكس براعة الأردني في التأقلم، إلا أنه دليل على هشاشة الوضع المعيشي.
وتحدث اقتصاديون عن إحدى صور الهرب المالي السائدة اليوم بين الأردنيين، وهي تدوير الدين أو الاستدانة لتسديد دين آخر، إما عبر استخدام البطاقات الائتمانية أو قروض صغيرة لتغطية فجوات زمنية بين الرواتب.
ووصف آخرون ما يحدث بأنه إجهاد مالي ونفسي، ويطرح مراقبون سؤالاً "هل يمكن إعادة الروح إلى الراتب الشهري؟". واعتبروا أن الأمر يمثل التحدي الأكبر على طاولة الحكومة والقطاع الخاص، ويتطلب إجراءات عاجلة مثل ربط الأجور بالتضخم ومراجعة الإنفاق العام وتوجيهه نحو المشاريع التنموية التي تخلق فرص عمل منتجة، وتخفيف الأعباء الثابتة للخدمات الأساسية كالطاقة، والمياه، والإيجارات التي تلتهم جزءاً كبيراً من الراتب في الأسبوع الأول.
في الموازاة يضطر كثر إلى تأجيل قرارات حاسمة مثل الإنجاب، وتغيير الوظيفة، أو إكمال التعليم العالي بسبب عدم القدرة على تحمل المخاطرة المالية.