Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وسائل التواصل الاجتماعي... بوصلة لعالم جديد

تحولت من مجرد أدوات للترفيه إلى منصات سياسية وثقافية وساحات لحروب المعلومات والتضليل

قدمت "ثورة الياسمين" النموذج السلمي للانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية والفضل لوسائل التواصل الاجتماعي (أ ف ب)

ملخص

منصات "فيسبوك" و"إكس" و"يوتيوب" كانت حجر الأساس في آلية عمل في غاية التنظيم، إذ تحول "فيسبوك" إلى منصة للتنظيم والتخطيط والتعبئة، وأصبح "إكس" منبراً للصحافيين والنشطاء أما "يوتيوب" فكان المحرك الفعلي للتعاطف العالمي.

شكلت الـ25 عاماً الماضية من القرن الـ21 نقطة تحول كبرى في التاريخ الحديث، وبرزت ملامح هذا التحول في مجالات عدة اقتصادية وسياسية وجيوسياسية، وكذلك في القضايا العالمية والتحولات الثقافية والاجتماعية، وبصورة خاصة في مجال التكنولوجيا والرقمنة.

ومع صعود الثورة الرقمية والبيانات الضخمة أصبحت البيانات هي العملة الجديدة، كما شهدنا تحول الذكاء الاصطناعي من مفهوم نظري نقرأ عنه إلى جزء عملي من حياتنا اليومية، إذ شهد الربع الأول من الألفية الثالثة تحول ما كان رفاهية إلى ضرورة غيرت طريقة التواصل والعمل والتسوق ونمط الحياة اليومي.

وفي خضم كل هذه التطورات الرقمية شهدت وسائل التواصل الاجتماعي عملية صعود تدريجي ومعقد خلال الأعوام الـ25 الماضية، حولتها من مجرد أدوات للترفيه إلى منصات سياسية وثقافية، وساحات لحروب المعلومات والتضليل وأصبحت الخوارزميات بالنسبة إلى الرأي العام القوة الجديدة التي تحدد ما يراه ويتفاعل معه الناس.

صعود منصات التواصل الاجتماعي

مرت عملية التحول هذه بمراحل زمنية عدة، بدأت مع بداية ظهور "فيسبوك" عام 2004 و"إكس" (تويتر سابقاً) عام 2006، بغرض تعزيز التواصل الاجتماعي والمهني، والحقيقة أن هذه المنصات لم تركز طويلاً على الغرض الأولي، إذ ما لبثت أن استخدمت عام 2008 في تنظيم الحملات الانتخابية للمرة الأولى في حملة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، التي شكلت ثورة حقيقية في تاريخ الحملات الانتخابية، إذ استخدمت التقنيات الرقمية بطريقة غير مسبوقة لتغير طريقة إدارة الحملات السياسية إلى الأبد.

 

ثم بدأ دورها في التوسع بين عامي 2010 و2016 لتلعب دوراً محورياً فيما عرف بـ"الربيع العربي" عام 2011، كأداة تنظيم وإعلام بديل مع تزايد استخدام السياسيين لها للتواصل المباشر مع الناخبين، إضافة إلى ظهور ظاهرة "الروبوتات السياسية" والبدء بالتأثير المنظم، عبر استخدام حسابات آلية بهدف التلاعب بالرأي العام وتضخيم رسائل سياسية محددة بصورة منظمة وواسعة النطاق.

وشهدت هذه الفترة انتشاراً هائلاً لهواتف الذكية ومنصات مثل "فيسبوك" و"إكس" و"يوتيوب" على مستوى عالمي، ومنذ هذه اللحظة لم تعد هذه الأدوات حكراً على النخب أو المتمرسين في مجال التكنولوجيا، بل أصبحت في متناول الطلاب والطبقات المتوسطة في العالم العربي.

السوشيال ميديا عربياً

الحقيقة أن المنصات الثلاث تلك كانت حجر الأساس في آلية عمل في غاية التنظيم، إذ تحول "فيسبوك" إلى منصة للتنظيم والتخطيط والتعبئة عبر الاستعانة بمجموعاته المغلقة والخاصة لتحديد أوقات وتواريخ التجمعات وتنسيق العمل ليكون بمثابه نشرة إخبارية، وأصبح "إكس" منبراً للصحافيين والنشطاء والنخب ومنصة لنشر الأخبار العاجلة والتواصل مع العالم الخارجي، أما "يوتيوب" فكان المحرك الفعلي للتعاطف العالمي، من خلال المقاطع المرئية لتحويل الرأي العام العالمي لمصلحة الثورات، عبر نشر مقاطع فيديو توثق رد فعل الأنظمة على المتظاهرين.

وضمن هذه الآلية مرت الثورات في دول عربية بمراحل أساسية، بدأت بالشرارة في تونس خلال ديسمبر (كانون الأول) عام 2010، والتي لا بد لها من حدث محفز، ثم بدأ دور وسائل التواصل الاجتماعي بنقل الصورة وكسر احتكار الإعلام الرسمي، ثم التضخيم وبعدها التنفيذ عبر استخدام "فيسبوك" لتنظيم التظاهرات الكبرى، وصولاً إلى النتيجة المرغوبة، أما المرحلة الثانية كانت تمدد الشرارة وانتشارها كالنار في الهشيم مع أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011 في مصر لتمر أيضاً بالمراحل ذاتها مع بعض الاختلافات، والمرحلة الأخيرة هي تحويل القضية إلى صراع، كما حدث في سوريا وليبيا.

 

ومن هنا بدأ دور وسائل التواصل الاجتماعي يتشعب ليشمل جوانب مظلمة، فأصبحت منصات تواصل عبارة عن أرشيف لجرائم حرب وأدوات لتجنيد جماعات المسلحة، بما فيها المتطرفة مثل "داعش"، وأصبحت وسائل التواصل ساحة لحرب المعلومات ونشر الروايات المتضاربة، ليصبح نشر الأخبار المزيفة والإشاعات لا يقل تأثيراً عن أسلحة الاقتتال، وصولاً إلى التحول الخطر في استخدام المنصات للترهيب والدعاية الإرهابية مع صعود التنظيمات الإرهابية واستغلال المنصات بدءاً من عام 2014.

ساحات للصراعات السياسية

وصلت عملية التحول هذه إلى مرحلة النضج والتأثير بين عامي 2016 و2020، وخلالها تحولت المنصات إلى ساحات للصراعات السياسية الدولية مع انتشار نظريات المؤامرة والأخبار الملفقة على نطاق واسع، ثم تلت هذه المرحلة مرحلة الهيمنة التي امتدت منذ عام 2020 إلى العام الحالي، وهنا تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى قنوات رسمية للسياسيين والحكومات، وأصبحت المنصة السياسية الرئيسة خلال جائحة كورونا، وعبرها نشأت معارك قانونية وتنظيمية حول الدور السياسي الذي تقوده منصات التواصل الاجتماعي.

وقاد عملية التحول هذه آليات عدة بدأت بكسر احتكار الإعلام التقليدي والعمل من خلال خوارزميات التضخيم على تعزيز المحتوى المثير والعاطفي، بغض النظر عن دقته، وإنشاء غرف الصدى وفقاعات الترشيح التي تعزز التعاطف، وساعد في هذا كله وجود البيانات التي مكنت من استهداف شرائح ديموغرافية ضيقة برسائل مخصصة بصورة دقيقة للغاية، فتحولت الحملات السياسية إلى عمليات تسويق متطورة، وتحول الصراع السياسي إلى معركة ضارية على جذب الانتباه وتحريض المشاركة، ليتفوق المحتوى العاطفي والبسيط على المحتوى المعقد والموضوعي.

التأثير المنظم والتلاعب بالرأي العام

ويشمل تفعيل هذه التأثير المنظم آليات عمل عدة، منها التضخيم الاصطناعي لخلق اتجاهات تجعل الموضوع يبدو شعبياً أو الإيهام بإجماع الرأي العام على اتجاه معين والعمل على جعل موضوع ما يبدو شائعاً لدى البشر لكسر الحواجز وفتح باب التفاعل والمشاركة، كذلك استخدمت آلية التلاعب بالخوارزميات عبر خلق إعجابات ومشاركات وهمية وتكثيف استخدام هاشتاغ معين لإدخاله في لعبه الترند أو خلق حسابات وهمية وتفعيلها لتتفاعل مع بعضها بغرض تعزيز الصدقية.

إضافة إلى الاعتماد على الهجمات المنسقة التي تجلت عبر مهاجمة شخصية محددة من عدة اتجاهات أو القيام بحملات تشويه عبر نشر معلومات سلبية مكثفة عن شخص أو قضية ما أو من خلال ما يسمى الاحتلال الرقمي، أي السيطرة على نقاش حول موضوع محدد.

وطبقت هذه الآليات بصورة خاصة في الحملات الانتخابية وحملات التضليل وخلق انقسام سياسي وعمليات استقطاب وقمع الاحتجاجات.

تطور إدارة الحملات الانتخابية

تعد حملة أوباما عام 2008 نموذجاً رائداً في استخدام المنصات لإدارة الحملات الانتخابية، فقد استطاعت هذه الحملة جمع 500 مليون دولار من خلال تبرعات صغيرة عبر الإنترنت واستخدم موقع إلكتروني خاص كمنصة تنظيم ذاتي للمتطوعين، وبناء قائمة بريدية ضخمة ضمت 13 مليون عنوان، وكذلك تبعتها حملة مشابهة عام 2012، لكن الحقيقة أن أدوات والتكتيكات استخدام السوشيال ميديا في إدارة الحملات الانتخابية تطورت مع الوقت، ففي حين بدأت في المرحلة المبكرة بجمع البيانات عبر قوائم بريدية أساسية واستهداف ديموغرافيا محددة من خلال الرسائل الموحدة، تطورت لتتحول إلى تحليلات سلوكية متقدمة مع استهداف دقيق تبعاً للاهتمامات واختبارات مكثفة وصلت إلى قمع للناخبين، ثم في مراحلها المتقدمة وصولاً إلى 2025 أصبحت عملية جمع البيانات تعتمد على الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، وهيمنت النماذج التنبؤية النفسية على مجال الاستهداف المحتوى الذي أصبح متخصصاً بصورة ديناميكية.

 

السيطرة الخوارزمية وتفتيت الحقيقة

في حين استطاعت هذه الموجة الرقمية من تمكين الحركات الاجتماعية وزيادة تأثيرها وكسر احتكار النخب وزيادة مشاركه الشباب في الشأن العام مع مراقبة أداء الحكومات والمسؤولين، بدت تبعات أخرى للأمر، فقد أسهم هذا التحول في تفتيت الحقيقة الموضوعية وتعزيز الاستقطاب والانقسام المجتمعي وتآكل الثقة بالمؤسسات التقليدية مع زيادة تدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية للدول وتهديد الأمن القومي عبر الحرب الإلكترونية النفسية.

ووصلنا اليوم إلى عالم تحدده الخوارزميات التي تعمل وفق آليتين محددتين، الأولى هي الترشيح والفرز من خلال استخدام خوارزميات التوصية لاختيار ما تراه وترتيب أي منها ستظهر أولاً وأيها سيجري إخفاؤه، إضافة لخلق عوالم مصغرة مختلفة للمستخدم، وصولاً إلى الآلية الثانية التي تعتمد التضخيم والترويج عبر تفضيل محتوى معين مثير، بغض النظر عن دقته، ونشره بطريقة فيروسية، ودعم المحتوى العاطفي والاستقطابي للمساهمة في وصوله بصورة أسرع، والاعتماد على شبكات التضخيم التي تضم بوتات وحسابات مزيفة لتعزيز سرديات معينة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والأكيد أن لهذه السيطرة الخوارزمية تأثيرات كبيرة على المجتمعات، أخطرها المعرفية منها، فقد فقدنا السياق وأهميتها في فهم المعلومة بسبب نشر معلومات متفرقة منفصلة عن سياقها، وتقلصت المساحات المشتركة بين البشر بعد خلق فقاعات منفردة لكل شخص، والأخطر العودة إلى التفكير القبلي وتغذيته عبر تعزيز الانتماءات والهويات، وتقلص حضور الحقيقة الموضوعية بعدما أصبحت المشاعر والمعتقدات الشخصية أكثر تأثيراً في تشكيل الرأي العام من الحقائق الموضوعية والأدلة القابلة للتحقق، وهذا ما أطلق عليه مصطلح "ما بعد الحقيقة".

الأوليغارشية الخوارزمية والديمقراطية

الأكيد أن تعزيز واستمرار كل ما سبق يشكلان تهديداً وجودياً لمستقبل الديمقراطية، فالديمقراطية تبنى على عقد اجتماعي قائم على واقع موضوعي وحقائق مشتركة تشكل أساساً للحوار والعيش الحضاري المشترك. وهنا لا بد من الربط بين المعرفة والديمقراطية، فالمعرفة التي يحملها الأفراد تلعب دوراً أساس في التمييز بين الحقيقة والزيف، وتحدد قدرتهم على فهم القضايا واتخاذ القرارات بناء عليها، فالديمقراطية ترتكز على مواطن مُلم ومساحة عامة مشتركة للنقاش ووجود خطاب عام يمكن محاسبته ووسائل أعلام تلتزم بمعايير موضوعية.

وفي العصر الحالي جرى تفكيك كل هذه العناصر مع تقويض المنهج العلمي والتحول إلى ثقافه الشك، وكأننا نعاود السير كل مرة لتدمير هذه الركائز، والحقيقة أن الديمقراطية تحولت اليوم إلى معركة خوارزميات، فمن يملك بيانات أفضل يربح الحرب وتآكلت الشرعية الحقيقية، لتصبح شركات تكنولوجيا لاعباً سياسياً أقوى من الأحزاب في زمن الأوليغارشية الخوارزمية.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات