ملخص
لو تخيّر إمرؤ على موقع "فيسبوك" مجموعة من الأدباء والكتّاب المهرة الحاذقين، وإن لم يكونوا من صف النجوم، فإنه سيجني، غالب الوقت، قراءات عذبة ومثيرة ترتحل به بين أقاليم متعددة، شرط ألا يكون كلها ذات طابع سياسي مباشر وحسب.
أكثرية الكتّاب لهم حسابات وصفحات في فضاءات "السوشيال ميديا"، وأكثرية هذه الأكثرية منخرطة في السجال حول القضايا التي تعصف بالعالم، وأكثرية هؤلاء المواظبين على الكتابة آتون من حقل الإبداع الأدبي، لذا تتمتع تعليقاتهم، في جلها، بمذاق من خارج الصندوق، لأنها بنتُ اللحظة العفوية الانفعالية، كما أنها تكشف عن ثقافة عميقة تقرأ الحدث السياسي، مثلاً، بمنأى عن قواعد التحليل، أو لغته، أو حساباته. ثمة طيش أحياناً، ولكنه محمود ومستحسن ومطلوب.
متعة التجول بين هذه الحسابات أنها، في مرات عديدة، لا تخضع للتحرير المتأني الذي يسلكه الكتّاب قبل دفع مؤلفاتهم للمطبعة، كما أنها متنوعة، فقد يحلو للكاتب أن يعلق على حدث ثقافي، أو رياضي، أو يكتب عن فيلم أو مسلسل، أو يعرض رأيه في كتاب. ولأهمية هذه المنشورات صارت وسائل الإعلام تنقل عن هذه الصفحات، ما وفر للطرفين (الكاتب والإعلام) سهولة الوصول إلى المصادر ومصداقية الاقتباس. وقد قاد هذا التوافق المصلحي المضمَر إلى أن تتخلص وسائل الإعلام من عناء الموافقة المسبقة على الاقتباس، ما دام منشوراً على صفحة الكاتب الرسمية المعتمدة.
"الفضاء الأزرق"
ما لا تسعه الكتب، يمكن أن يفعله "الفضاء الأزرق" الذي يتخفف فيه الكتّاب والأدباء من أثقال العبء الاجتماعي والنفسي وهواجس الرقابة، فيأخذون في البوح وفي تقديم اعترافات شخصية ومباوحات ذاتية واستعراض آرائهم في الطعام والشراب واللباس والنوم واليقظة والتفضيلات التي تأخذ سياقاً تثاقفياً يتحلل من المنطق وترابطاته. ويحضرني كدليل على ذلك كتابة الشاعر محمود درويش في "ذاكرة للنسيان" عن القهوة وطبائع البن، وصلة كل مذاق بشخصية صاحبه، وكان ذلك قبل عهد "السوشيال ميديا".
أكثر ما يؤرق الكتّاب هو قادح الكتابة، أو الشرارة، أو لحظة الإلهام. هذه الأوقات تكون معذبة أحياناً. أما في "فيسبوك" فإنها "مثل الهمّ على القلب!" لكثرتها وتنوعها، وقد تنتقل وتمتد وتؤسس كتابة طويلة تتغذى، وهذا ملمح مهم، على التفاعلية المباشرة، وعلى التعليقات والردود، ما يفتح كوى في المقاربة الكتابية كانت مستعصية حتى على الضوء الشحيح.
القارئ كاتباً
في غضون هذا التفاعل، جرت عملية تبادلية بين الكتّاب والقراء، بحيث انتقل القارئ إلى منصة الكتابة، وأصبح الكاتب قارئاً. ومع الوقت أجبر القارئ الجديد، بمثابرته ومهارته، الكاتبَ العريق على القراءة والتعليق والاعتراف، بل ورفع القبعة لهؤلاء الزوار/ المقيمين المدهشين.
وما تتعين الإشارة إليه، فضلاً عما سبق، أنّ عدداً من الأدباء، لهم مقالات في صحف ومجلات ومنصات، فيقومون بإعادة نشرها، أو نشر رابطها على صفحاتهم الشخصية، ما يضيف غنى على الصفحة وعلى معرفة متابعيها، وهذا ما يحدث أيضاً عندما يتم نشر حوارات أجريت مع هذا الكاتب وذلك الأديب.
وبما أننا نتحدث عن أدباء معروفين، فهذا يجنبنا الخوض في الحكم على المنتج، ما يعني أننا لا نعاين هنا كل ما يكتب في "فيسبوك" وغثه أكثر من سمينه، ولكننا نركز على الطائفة الناجية من الغثاثة، ممن تمنح المتابعين وجبة معرفية طازجة، حتى صار "فيسبوك" مصدراً للتثقيف والإحاطة بما يجري من حولنا.
بيْد أنّ هذا المصدر لا يوفر، في أغلب الأحيان، إشباعاً للعقل المستزيد، نظراً لطبيعة "السوشيال ميديا" عموماً التي تجعل المتابع لها يشعر بالسعادة "المؤقتة" إن تسنى له أن يقطف من كل مليون حقل زهرة واحدة. وفي أكثر الأوقات هو لا يظفر حتى بهذا النزر اليسير، لأنّ "تسونامي" المعلومات اليومي أشدّ من أن يحيطه حيّز.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يضاف إلى ذلك أنّ إغراء النشر في "فيسبوك" مثلاً، جعل كثيراً من الكتّاب يستغنون عن المنصات الأخرى، وبالتالي التلكؤ في إنتاج كتابات متصلة تشكل وحدة مضمونية وموضوعية للنشر في كتب، لأنّ الأخيرة تحتاج إلى جَلَد وأناة وانقطاع وبحث وتنقيب ومراجع.
ثقافة القراءة السريعة
ذريعة هؤلاء العازفين عن إصدار كتب، هي أنّ الناس لم تعد تقرأ النصوص الطويلة، وأنّ زمن السرعة يتطلب إيقاعاً خاطفاً، في إلماحة إلى ثقافة الوجبات السريعة Fast Food)) التي كما يقول هؤلاء يجب أن تترافق مع ثقافة القراءة السريعة Fast Reading)) التي لا تستغرق أكثر من 5 دقائق في كل إدراج منشور، حيث إنّ زمن الروايات الملحمية الكلاسيكية قد ولى وانقرض (أو كاد) قراؤه، فلن تجد إلا ندرة ممن هم مستعدون، الآن، للاعتكاف من أجل "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست.
غالب الكتاب لا يعودون إلى جمع ما ينشرونه، ما يعني أنّ الكتابة الجديدة تجّب القديمة، في تسارع جنوني محموم، يشبه الكتابة على الماء، أو على رمل الشواطئ والصحارى سرعان ما تتكفل بمحوها هبّة هواء، لا عاصفة.
ومع الوقت ينحسر الشعور بالأسى لغياب هذه الكتابات التي ستظل محفوظة في خزائن أرشيف شركة (Meta Platforms) التي تمتلك "فيسبوك" و"إنستغرام" و"واتساب" و"ماسنجر"، و"ثريدز"، وسواها من منصات تضم يوميات أغلب أهل الأرض منذ 2004 حتى يشاء آلهة التقنية المبجلين في أزمنة الذكاء الاصطناعي.
حقبة جديدة من التأريخ الأدبي
الكتابة على الماء في الفضاء الأزرق قد تكون حقبة جديدة من التأريخ الأدبي، أو تاريخ الكتابة. فقبل ثورة "السوشيال ميديا"، كنا نحتفي بالبَرديات التي استخدمت في الكتابة قبل 3000 عام قبل الميلاد، ثم تطور الأمر إلى الكتب والمكتبات التي ظلت تتبارى الدول والإمبراطوريات في تدشينها ورفدها بأكبر قدْر من الكتب والمخطوطات التي صنعت معجزة العقل البشري.
الآن، وفي عصر الكتابة على الماء، بماذا سيجري الاحتفاء، وكيف ستتم الإحاطة بالقراءة حتى لو جرت بطريقة Fast Food)) إذا ما علمنا أنّ عدد المحتوى الذي يبث يومياً على منصات "السوشيال ميديا" يتعدى مليار منشور، سرعان ما يدفعها إلى التراجع مليارٌ آخر، وهكذا دواليك.
قد يتم الاحتفاء بالمحو والاختفاء!