ملخص
أظهرت قضية التجسس التي وُجهت إلى رجلين بريطانيين ثم أُسقطت لاحقاً حجم الارتباك في سياسة لندن تجاه بكين، بين رغبة قديمة في التعاون ومخاوف متصاعدة من النفوذ الصيني. وبينما تراجع الحماس لـ"العقد الذهبي" الذي حلمت به بريطانيا، تكشف الخلافات الراهنة أن الدول لا تملك أعداء أو حلفاء دائمين، بل مصالح دائمة فقط.
سوف يصعب على الباحث عن دليل على الفوضى التي تحكم سياسة تعامل المملكة المتحدة مع الصين أن يعثر على مثال أوضح من اتهامات التجسس التي وجهت بضجيج إعلامي كبير إلى رجلين يدعى كل منهما كريس، ثم أسقطت قبل موعد المحاكمة بقليل.
أما الرجلان فهما كريستوفر كاش، الذي كان يعمل باحثاً برلمانياً لحظة اعتقاله، وكريستوفر بيري، المدرس الذي عمل في الصين سابقاً، وقد دفع كلاً منهما ببراءته، وهما يتمتعان الآن بحرية مواصلة حياتهما، لكن وصمة الاتهام لا تزول بسهولة.
لكن يحسب للجمهور البريطاني تعامله مع هذه الضجة بهدوء، ربما لأنه يرى هذا الأمر على حقيقته: جولة جديدة في الجدل الداخلي حول العلاقات مع الصين، البعيدة تماماً عن اهتماماته اليومية. أما الحكومة والسياسيون، فما زالت قضية التجسس هذه تسيطر عليهم حتى بعد عطلة البرلمان التي استمرت ثلاثة أسابيع. فمن أين يأتي هذا التباين في الموقف؟
حتى عندما طرحت القضية على أنها فضيحة مدوية لبريطانيين شابين (نسبياً) يزعم أنهما يتجسسان لمصلحة الصين، لم تكن أبداً بمستوى خيانة كيم فيلبي أو غاي بورغيس للمصالح الحيوية لبريطانيا العظمى. صحيح أن الصين تحتل مكانة بارزة في الوعي السياسي البريطاني، لكن شي جينبينغ والصين التي يقودها لديهما ما هو أهم بكثير من الانشغال ببريطانيا ذات النفوذ المتوسط. هذا لا يعني أن الصين غير مهتمة بإبرام اتفاقات تجارية أو بجمع المعلومات الاستخباراتية عن بريطانيا - فهي بالتأكيد مهتمة بذلك - لكن حجم هذا الاهتمام يجب أن يقاس بميزانه الصحيح. وما عليكم إلا النظر إلى الاهتمام الذي توليه الصين لكل من الولايات المتحدة والهند والاتحاد الأوروبي.
توضحت الصورة بعض الشيء هذا الأسبوع في شأن التهم التي أسقطت الآن عن كاش وبيري، بعد نشر المذكرات التي كتبها نائب مستشار الأمن القومي ماثيو كولينز. ومع ذلك لا يزال قدر من الغموض يكتنف تعريف "التجسس" في هذه الأيام التي تتوفر فيها المعلومات المفتوحة المصدر على نطاق واسع. فمهمة الباحثين البرلمانيين، شأنهم شأن الأكاديميين والصحافيين والدبلوماسيين، هي فرز كميات هائلة من المعلومات المتاحة علناً واستخلاص الاستنتاجات منها.
في أي مرحلة يمكن أن تتحول هذه المهمة إلى تجسس أو مساعدة لقوة أجنبية أو معادية؟ قد يبدو الجواب واضحاً من أحد الجوانب: إذا كانت المعلومات مصنفة "سرية للغاية" أو نقلت عن علم إلى شخص يحتمل أن يستخدمها ضد مصلحة المملكة المتحدة، لكن ماذا لو كان مسؤول صيني - أو أي مسؤول أجنبي آخر - يعرف ببساطة أين يبحث وكيف يفسر ما ينشر عن عمل المؤسسات البريطانية؟ عندئذٍ لا يكون أي تجاوز قانوني قد حدث. وماذا لو أرشد باحث أو دبلوماسي زميلاً أجنبياً إلى موضع العثور على مثل هذه المعلومات؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كانت السرعة التي سعى بها جميع الأطراف المعنيين إلى إلقاء اللوم بعيداً من أنفسهم، من هيئة الادعاء الملكية إلى أجهزة الاستخبارات المعروفة عادة بتحفظها، مثيرة للدهشة. وفي نهاية المطاف، بدا أن المسؤول الأدنى مرتبة نسبياً، ماثيو كولينز، هو من ستتوقف عنده المسؤولية. لكن، وفي إجراء غير مسبوق ومثير للجدل، جرى نشر مذكراته، على رغم أن ذلك لم يحسم الجدل حول ما إذا كان ينبغي اعتبار الصين دولة عدوة أم لا.
زاد دور كريستوفر كاش كباحث برلماني من احتدام الجدل السياسي، إذ أسهب رئيس مجلس العموم، السير ليندسي هويل، في التحذير من الأخطار التي تهدد أمن البرلمان من قوى مثل الصين. وتبع ذلك ما وصفه كثر بأنه تدخل "غير بناء" من دومينيك كامينغز، المستشار السابق لبوريس جونسون [رئيس الوزراء السابق]، زعم فيه أن الصين تمكنت من اختراق أمن الحكومة مرات عدة.
ومع ذلك يبدو أن الرأي العام لا يشارك السياسيين غضبهم، وهو أمر غير مفاجئ بالنظر إلى اضطراب سياسة المملكة المتحدة تجاه الصين. فقد مر نحو عقد منذ أن دعا وزير الخزانة آنذاك، جورج أوزبورن، إلى "عقد ذهبي" في العلاقات البريطانية - الصينية، وهو طموح سرعان ما كبحته تيريزا ماي. إذ لم تكد تدخل مقر رئاسة الوزراء قادمة من وزارة الداخلية حتى عبرت عن قلقها من مدى تغلغل الأموال والخبرات الصينية في المصالح الحيوية البريطانية، من الطاقة النووية (مشروعا هينكلي بوينت وسايزويل سي) والاتصالات ("بي تي" و"هواوي") إلى التعاون البحثي في الجامعات البريطانية.
سمح بنشوء مستوى من التعاون والاعتماد المتبادل مع الصين، وهو ما لم يكن ليسمح به إطلاقاً مع روسيا أو مع كثير من الدول الأخرى. غير أن الصين، بحجمها الهائل وإمكاناتها الاقتصادية الضخمة، كانت تُرى آنذاك كشريك يصب التعامل معه في مصلحة بريطانيا. واليوم، وبعد تجاوز تعقيدات قضية التجسس، يلوح في الأفق سبب جديد للتوتر، يتمثل في خطط بكين لإنشاء سفارة ضخمة على موقع دار سك النقود الملكية القديمة قبالة برج لندن، في مشروع سيرتبط حتماً بخطط المملكة المتحدة لبناء سفارتها الجديدة لدى بكين.
والأهم أن ما تكشفه هذه الخلافات الجديدة هو حماقة النظر إلى أي دولة بوصفها عدواً بطبيعتها. فكما ينسب إلى اللورد بالمرستون [سياسي بريطاني بارز وأحد أشهر رؤساء وزراء بريطانيا في العصر الفيكتوري]، وكرره هنري كيسنجر من بعده، ليست للدول حلفاء أبديون ولا أعداء دائمون، بل مصالح دائمة يتعين عليها السعي وراءها. ولو تذكر المعنيون بهذه القاعدة في الأسابيع الأخيرة ورددوها مراراً، لكان ذلك قد وفر على الجميع، بمن فيهم رئيس الوزراء، كثيراً من العناء.
© The Independent