Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لخضر حامينة... صوت العالم الثالث

كتاب جماعي عن المخرج الجزائري في مناسبة اليوبيل الذهبي لحصوله على السعفة الذهبية عام 1975

المخرج لخضر حامينة (1934 - 2025) - (مواقع التوصل)

ملخص

 لا يمكن الحديث عن السينما الجزائرية، أو حتى عن السينما العربية والأفريقية في القرن الـ20، من دون المرور عبر تجربة هذا الرجل، حامينة لم يكن "ابناً" للثورة فقط، بل أحد من حاولوا صياغة خطابها البصري.

منذ "ريح الأوراس" (1966) فيلمه الأول، بدا واضحاً أن لخضر حامينة ليس مجرد مخرج يختبر الكاميرا في بلد خرج تواً من الاستعمار، كان شاباً مفتوناً بفعل المقاومة، يؤمن أن السينما يمكن أن تكون سلاحاً موازياً للبندقية.

لم يلتفت إلى الكوميديا أو الدراما الاجتماعية الخفيفة كما فعل كثير من مجايليه، بل وضع الوطن في صلب مشروعه، بالنسبة إليه الفيلم ليس ترفيهاً بل وثيقة، واللقطة ليست صورة جمالية بل رصاصة في معركة الذاكرة.

وتكريماً لمسيرته الحافلة، صدر أخيراً كتاب جماعي بعنوان «Hamina the Majestic»، وهو إنجاز مشترك لمهرجان عنّابة للفيلم المتوسطي مع الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين، ومساهمات لـ20 ناقداً من 17 دولة.

 

 

وأتت وفاة ابن ولاية المسيلة (مايو "أيار" 2025 عن 91 سنة) في مناسبة اليوبيل الذهبي لحصوله على السعفة الذهبية من مهرجان كان عن فيلمه "وقائع سنوات الجمر".

خطاب بصري

لا يمكن الحديث عن السينما الجزائرية، أو حتى عن السينما العربية والأفريقية في القرن الـ20، من دون المرور عبر تجربة هذا الرجل. حامينة لم يكن "ابناً" للثورة فقط، بل أحد من حاولوا صياغة خطابها البصري، أعماله اليوم بمثابة سجل حيّ، ليس للوقائع كما جرت فقط، بل للكيفية التي أراد الجزائريون أن تُروى بها قصتهم.

 

 

عاش المخرج تناقضات المرحلة: جُنّد قسراً في الجيش الفرنسي، ومن ثم هرب بعد شهرين فقط ليلتحق بالحكومة الجزائرية الموقتة في تونس، هناك عمل في قطاع الاتصال وتدرّب على إنتاج الأخبار السينمائية.

هذه التجربة المبكرة صقلت وعيه بأن الصورة قادرة على نقل خطاب سياسي أسرع وأشد أثراً من البيانات أو الخطب، وعندما درس السينما لاحقاً في براغ لم يذهب بعقلية التلميذ فقط، بل بعقلية المقاوم الذي يبحث عن أدوات جديدة للصراع.

الأم كرمز للأرض

في "ريح الأوراس" لا نرى سوى حكاية أم تبحث عن ابنها المعتقل، لكن خلف هذا السرد البسيط تختبئ ملحمة وطنية كاملة، الأم هنا ليست مجرد شخصية، بل رمز للأرض التي تبحث عن أبنائها الضائعين، ربما لهذا السبب أثار الفيلم تفاعلاً واسعاً عند عرضه: الجمهور الجزائري لم ير فيه قصة فردية، بل صورة جمعية عن أعوام القهر.

الناقد الفرنسي جان دوشي كتب آنذاك أن الفيلم "ينتمي إلى مدرسة الواقعية الشعرية، لكنه يتجاوزها إلى خطاب سياسي واضح"".

الأرض كبطل أول

أما "وقائع سنوات الجمر" (1975) فهو تحفته الأشهر والأكثر تأثيراً. حين أشاهده اليوم أشعر أن الأرض هي البطل الحقيقي للفيلم، اللقطات الطويلة للحقل، للصحراء، للصمت الممتد… كلها تجعل المشاهد يعيش تجربة أشبه بالانتظار الوجودي، التحرر هنا ليس سياسياً فقط، بل بحثاً عن معنى للوجود في مكان مسلوب.

تتويج الفيلم بالسعفة الذهبية في "كان" لم يكن مجرد إنجاز شخصي، بل لحظة اعتراف عالمي بأن الجنوب قادر على إنتاج خطاب سينمائي منافس، وأن قضايا التحرر ليست محلية بل كونية.

 

 

لم يكتف بسرد الوقائع، لكن غاص في الأعماق الإنسانية للصراع، صوّر حامينة في فيلمه كيف حوّل الاستعمار حياة الجزائريين إلى جحيم، وينظر للعمل كملحمة وطنية وإعادة رسم تاريخ الثورة بلغة سينمائية شاعرية ومؤثرة.

فتح هذا الإنجاز الباب أمام جيل كامل من المخرجين العرب والأفارقة ليجربوا ويغامروا، مدفوعين بإمكان أن يصل صوتهم إلى العالم، وهو ما جعل حامينة بمثابة "الأب الروحي" للسينما الملتزمة في المنطقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حين كان يتحدث عن فيلمه "وقائع سنوات الجمر" قال "لقد قلت وأكرر: أنا لم أحقق فيلماً تاريخياً، فيلمي ليس سوى رؤية شخصية حتى وإن كان قد استند إلى وقائع محددة (...). أنا لم يكن فى نيتى أبداً أن أعطي رؤية شاملة عن الجزائر كلها في تلك الحقبة التاريخية، خاصة أنني إنما كنت أعيش خلالها فى قرية صغيرة (...)، بيد أن رؤيتي تحيل إلى مرجعيات تاريخية محددة، وهذا ما جعل سياق الفيلم يوزع على عناوين مختلفة تظهر على الشاشة…".

لكن ماذا حدث بعد ذلك؟ هذا السؤال يطرح نفسه بقوة.

بعد السبعينيات دخل حامينة في صمت طويل، ولم يقدم سوى أربعة أفلام لاحقاً "ريح الرمال" (1982) و"الصور الأخيرة" (1986) و"خريف أكتوبر في الجزائر" (1993) و"غروب الظلال" (2014)، أعمال لم تلقَ الصدى نفسه، بل ووجهت بانتقادات عن ضعف البناء أو الاستطراد الميلودرامي. هل أحبطه الاستقبال الفاتر؟ أم أن الظرف السياسي والثقافي في الجزائر لم يعد يحتمل هذا النوع من السينما الثقيلة؟ يصعب الجزم، لكن المؤكد أن ظله بقي ثقيلاً على كل من أتى بعده.

 

 

لا تكمن أهمية حامينة فقط في المواضيع، بل أيضاً في اللغة البصرية. شخصياته رموز أكثر من كونها أفراداً: الأم رمز للأرض، الفلاح رمز للمقاومة، والوجوه البسيطة التي يملأ بها الشاشة صور جماعية لروح الجزائر.

هذه الرمزية لم تكن ترفاً جمالياً، بل ضرورة سياسية: في بلد يبحث عن صورته بعد الاستقلال، كان لا بد من تحويل المعاناة اليومية إلى أيقونات بصرية.

لم تكن أفلامه تُشاهد فقط في صالات السينما، في سبعينيات القرن الـ20 وثمانينياته، كانت تُعرض في المهرجانات الطلابية والنوادي الثقافية، وتُناقش بوصفها نصوصاً فكرية لا مجرد أفلام.

جيل كامل من الجزائريين والعرب بنى وعيه السياسي والثقافي على هذه الصور، لهذا السبب يمكن القول إن حامينة لم يكن مجرد مخرج، بل مثقف مقاوم، أسهم في صياغة خطاب عن الهوية والتحرر.

اليوم، ونحن نقرأ تجربته بعد رحيله (1934 ــ 2025) يظل السؤال مفتوحاً: هل كان حامينة مخرج فيلم واحد عظيم أم سينمائي حمل على كتفيه عبء تأسيس لغة بصرية لبلد بأكمله؟ ربما الجواب في الوسط: لقد منح الجزائر صورتها الأولى على الشاشة الكبيرة، وجعلها مرئية في أعين العالم، هذه في حد ذاتها معركة لا تقل شرفاً عن معارك الميدان.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما