ملخص
إذا تصاعد الصراع التجاري بين الصين والولايات المتحدة فقد تصبح روسيا ثاني أهم وجهات التصدير الصينية إن لم تكن الأولى.
ترفع الولايات المتحدة من حدة لهجتها مهددة بفرض رسوم جمركية بنسبة 100 في المئة على الواردات الصينية، لكن رد الصين كان استراتيجياً وفعالاً على حد سواء لتفرض ضوابط محددة على تصدير المعادن الأرضية النادرة. هذه السلعة التي لا يعرفها كثر هي جوهر عالمنا الحديث، وهي أساسية للهواتف الذكية والمركبات الكهربائية وتوربينات الرياح وأنظمة الأسلحة المتطورة.
لكن هذا النزاع يتجاوز مجرد حرب اقتصادية، بل هو صراع شرس على التفوق التكنولوجي والأمن القومي والسيطرة على سلاسل التوريد العالمية المستقبلية. فبينما تسعى الولايات المتحدة لحماية صناعتها بفرض رسوم جمركية وحظر على صادرات أشباه الموصلات، تستخدم الصين احتكارها شبه الكامل للمعادن الأرضية النادرة كأداة ضغط قوية.
ويمثل النزاع الجمركي الحالي بين الصين والولايات المتحدة تقاطعاً معقداً للمصالح الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية في العالم. ويتمثل جوهره في موارد استراتيجية رئيسة، مثل المعادن الأرضية النادرة وسلع صناعية واعدة كأشباه الموصلات ورقائق الحاسوب.
يستغل كلا الجانبين هذا النزاع لتعزيز مصالحهما وحماية قطاعيهما التكنولوجيين. تستفيد الصين من هيمنتها على سوق المعادن الأرضية النادرة والتقنيات الملكية، بينما تسعى الولايات المتحدة إلى حماية صناعتها وممارسة نفوذها الجيوسياسي من خلال الرسوم الجمركية وضوابط التصدير.
الحروب التجارية والاقتصاد العالمي
يثير هذا النزاع حالة من عدم اليقين الشديد في الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية، مما قد يؤدي إلى تقلبات في الأسعار وانقطاعات في الإمدادات وتراجع في الابتكار استجابة للقيود التجارية. لا تلوح في الأفق حالياً نهاية لهذا النزاع، وستحدد تطورات الأشهر والأعوام المقبلة ما إذا كانت المفاوضات البناءة والتنويع التكنولوجي سيفضيان إلى تخفيف التوترات على المدى الطويل.
في حين توفر الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين بعض الفرص لروسيا، فإن التأثير الطويل الأمد على الاقتصاد الروسي يظل غامضاً ومحفوفاً بالأخطار.
لقد أصبح تعزيز العلاقات مع الصين عاملاً مهماً في سياق العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، ولكن العواقب الاقتصادية العالمية قد يكون لها تأثير سلبي.
فوائد لروسيا
أسواق البيع والتوريد البديلة: دفع النزاع التجاري مع الولايات المتحدة الصين إلى البحث عن شركاء جدد للواردات، لا سيما في قطاع الطاقة. وقد سمح ذلك لروسيا بزيادة إمدادات الغاز والنفط إلى الصين لمستويات قياسية، في ظل خفض الصين مشترياتها من الولايات المتحدة.
زيادة صادرات الطاقة: في ظل التوترات التجارية مع الولايات المتحدة، تسعى الصين إلى الحصول على إمدادات طاقة أكثر موثوقية واستقراراً، مما يجعل روسيا الباحثة عن أسواق جديدة لصادراتها من مواد الطاقة مورداً جذاباً للسوق الصينية الكبيرة والغنية.
التجارة مع الصين في نمو مستمر: تعززت العلاقات التجارية بين روسيا والصين بصورة ملحوظة. ففي عامي 2024 و2025، احتلت روسيا المرتبة الخامسة بين شركاء الصين التجاريين، ونمت التجارة المتبادلة بأكثر من سبعة في المئة.
فرص تصديرية إضافية: يعتقد بعض الخبراء أن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة قد تعزز الطلب العالمي على المنتجات الزراعية الروسية، بما في ذلك الحبوب.
تحويل البضائع الصينية: كلما واجهت البضائع الصينية تعريفات جمركية أعلى في الولايات المتحدة، أدى هذا إلى تحويل الكميات الفائضة إلى السوق الروسية، حيث سيتم بيعها بأسعار أقل.
الأخطار والعوامل السلبية
الاعتماد على الصين: في ظل العقوبات الغربية والحرب التجارية مع الولايات المتحدة، يزداد اعتماد روسيا على السوق الصينية. وبدورها، تكتسب الصين القدرة على فرض شروط تجارية أكثر ملاءمة.
خطر انخفاض أسعار النفط العالمية: قد تؤدي حرب تجارية مطولة إلى تباطؤ اقتصادي عالمي، مما يؤدي إلى انخفاض الطلب على النفط وانخفاض الأسعار. وسيشكل ذلك ضربة موجعة للاقتصاد الروسي، الذي يعتمد بصورة كبيرة على صادرات الطاقة.
الآثار الجانبية والأخطار: إذا امتدت العقوبات الأميركية لتشمل الشركات الصينية التي تعمل مع شركاء روس، فقد يعقد ذلك المعاملات التجارية ويؤدي إلى زيادة الكلف. وقد بدأت بعض البنوك الصينية فعلاً في رفض التعامل مع العملاء الروس خشية التعرض لعقوبات ثانوية.
عدم كفاية القدرة السوقية: لا تتمتع السوق الروسية بالقدرة الكافية لاستيعاب الفائض من البضائع الصينية التي كانت مخصصة في الأصل لسوق الولايات المتحدة الواسع والغني والقادر على استيعاب الطفرات الصناعية الصينية.
وفي نهاية المطاف، قد تكون الفوائد التي تستمدها روسيا من الصراع التجاري قصيرة الأجل ومحدودة، في حين أن العواقب طويلة الأجل، مثل التباطؤ الاقتصادي العالمي، قد تسبب أضراراً جسيمة ليس فقط على السوق العالمية ومن ضمنها روسيا، بل وعلى الصين نفسها باعتبارها دينامو النهوض والترقي الصناعي في العالم.
آراء الخبراء
أفاد خبراء روس استطلعت "اندبندنت عربية" آراءهم أن الصين لا تعتزم التراجع عن موقفها في الحرب التجارية التي شنتها وبادرت إليها الولايات المتحدة من دون سابق إنذار ومن دون أسباب وجيهة. وقد تفيد خطواتها الانتقامية روسيا، كما قد تسبب مشكلات جديدة لها ولاقتصادها الذي يعاني عقوبات غربية لا مثيل لها في التاريخ، بهدف استنزافه وإنهاكه بحجة قطع مصادر التمويل عن الحرب الدائرة بين روسيا ودول حلف شمال الأطلسي بالوكالة في أوكرانيا.
يؤكد أليكسي ماسلوف، مدير معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية بجامعة موسكو الحكومية، أن "الصين مستعدة لمواجهة تجارية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة". ويضيف "إنهم يقيمون كل ما يحدث ليس فقط من منظور اقتصادي، بل أيضاً من منظور سياسي، بل وحتى من منظور قائم على الصورة. لا يزالون يتذكرون أحداث منتصف القرن الـ19 عندما تعدت الدول الغربية على استقلال بلادهم الاقتصادي، ولا يريدون تكرار ذلك. الصينيون يوحدون صفوفهم حول زعيمهم، والأفكار المعادية لأميركا تزداد شعبية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عمالقة التجارة
انطلقت شرارة الحرب التجارية الجديدة في أوائل فبراير (شباط) 2025، عندما فرضت الولايات المتحدة رسوماً جمركية بنسبة 10 في المئة على جميع السلع الصينية. ردت الصين بحذر، ففرضت رسوماً جمركية مستهدفة بنسبة 10 في المئة على النفط والمنتجات الزراعية والسيارات الأميركية، إضافة إلى 15 في المئة على الفحم والغاز الطبيعي المسال. ثم توالت الأحداث سريعاً، إذ رفعت واشنطن الرسوم الجمركية إلى مستويات أعلى، وردت بكين بالمثل. ونتيجة لذلك، وصلت الرسوم الجمركية الأميركية إلى مستوى باهظ بلغ 145 في المئة على جميع السلع الصينية. واستقرت الرسوم الجمركية الصينية على السلع الأميركية عند 125 في المئة.
تقول إيكاترينا زاكليازمينسكايا، الباحثة الرائدة في مركز السياسة العالمية والتحليل الاستراتيجي بمعهد الصين وآسيا الحديثة التابع للأكاديمية الروسية للعلوم "على عكس الحرب التجارية الأولى التي بدأها ترمب خلال ولايته الرئاسية السابقة، ترد الصين الآن بصورة متكافئة على الرسوم الجمركية الأميركية" مستندة إلى تحالفها غير المكتوب وغير المعلن مع روسيا. وتضيف، "علاوة على ذلك، يتجلى هذا، إضافة إلى فرض رسوم جمركية على السلع الأميركية، في فرض ضوابط على تصدير المعادن الأرضية النادرة، وإدراج الشركات الأميركية على قائمة الشركات غير الموثوقة، وبدء تحقيقات مكافحة إغراق ضد الشركات الأميركية".
يخوض أكبر اقتصادين في العالم حرباً تجارية، حيث يقترب حجم التبادل التجاري بينهما من 600 مليار دولار خلال عام 2024، وقد يسفر ذلك عن كلفة باهظة للجميع.
يقول ألكسندر كازوس المتخصص في دعم الأعمال الصينية في روسيا والشريك الإداري لشركة المحاماة "سونيتشيف كازوس وشركاؤه"، إن "النتائج المباشرة للصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين ستتمثل في ضعف الروابط الحيوية، لا سيما في قطاع التكنولوجيا المتقدمة". ويضيف "يعتمد إنتاج أشباه الموصلات ومعدات الاتصالات المعقدة على التعاون، وهو أمر يتعرض حالياً لضغوط"، وروسيا لا يمكنها فعل كثير في هذا المجال.
الحل الوحيد يكمن بالمفاوضات
خلف الأرقام الضخمة لحجم التجارة المتبادلة، لا ينبغي لنا أن نغفل طبيعة هيكل التجارة الأميركية - الصينية، وهذا يتحدث ببلاغة لمصلحة بكين.
أشارت زاكليازمينسكايا إلى أن "الواردات الصينية من الولايات المتحدة تتكون أساساً من مواد خام وليس صناعات متقدمة، ويشمل ذلك النفط والغاز الطبيعي المسال والمنتجات الزراعية. في المقابل، تشتري أميركا سلعاً صناعية ذات قيمة مضافة عالية من الصين، مثل الإلكترونيات وأجهزة الحاسوب. وفي أسوأ الأحوال، ستتمكن الصين من استبدال الواردات الأميركية بسهولة لأنها متوافرة بكثرة عند غيرها من الدول، لا سيما عند روسيا القريبة منها، التي هي على استعداد لتقديم حسومات وأسعار تفضيلية لها. فبالنسبة إلى الطاقة، قد تكون روسيا هي الحل الأمثل، وبالنسبة إلى فول الصويا يمكن الاعتماد على البرازيل، على أي حال سيتم إيجاد موردين بديلين. لكن الأميركيين سيجدون أنفسهم في وضع أكثر صعوبة. فالعثور على مصنع إلكترونيات قادر على تلبية الكميات الصينية بأسعارها أمر شبه مستحيل".
سيؤدي هذا حتماً إلى ارتفاع أسعار الهواتف الذكية أو أجهزة الكمبيوتر المحمولة في السوق الأميركية، على سبيل المثال، وهو أمر لم تكن واشنطن مستعدة له. بفرض الرسوم الجمركية، تتصرف واشنطن وفقاً لمصالحها الوطنية فحسب، ورفع أسعار السلع الاستهلاكية يتعارض تماماً مع هذه المصالح.
لذلك، اضطرت الولايات المتحدة بالفعل إلى رفع الرسوم الجمركية على عدد من السلع الصينية، كما يتابع الخبير. "بما في ذلك الإلكترونيات ومنتجات أشباه الموصلات".
لكن الحرب التجارية لن تفيد الصين أيضاً. ففي عام 2024 وحده، شحنت بضائع بقيمة 439 مليار دولار من الصين إلى الولايات المتحدة، وسيكون إيجاد سوق ثانية كهذه أمراً بالغ الصعوبة، في أقل تقدير.
تؤكد زاكليازمينسكايا أن "الرسوم الجمركية المرتفعة لا تصب في مصلحة الصين، ولا تصب في مصلحة المستهلكين الأميركيين. لذا، من المرجح أن تبدأ المفاوضات، وستحاول بكين وواشنطن التوصل إلى اتفاق ما".
لكن الحوار والتفاوض سيكون صعباً وطويلاً، ولن يكون من الممكن تغطية القائمة الواسعة من الصادرات والواردات الأميركية الصينية دفعة واحدة.
يقر ماسلوف بأن "المفاوضات ستركز على الأرجح على إلغاء الرسوم الجمركية على فئات محددة من المنتجات". ويضيف "نظراً إلى طموحات القادة، ستسعى الأطراف جاهدة لضمان ألا يبدو ترمب وشي جينبينغ خاسرين".
إلكترونيات رخيصة
في حين يسعى الدبلوماسيون جاهدين لإيجاد نقاط اتصال مفيدة للطرفين، فإن بنية تدفقات التجارة العالمية قد تخضع لتغيرات جذرية تستفيد منها روسيا التي تعاني عقوبات غربية شاملة.
أشار ماسلوف إلى أن "الصين ستبدأ بإعادة توجيه تدفقاتها التجارية نحو دول جنوب شرقي آسيا، بما في ذلك إندونيسيا وماليزيا وكمبوديا، وإلى حد ما فيتنام. وبالطبع، لا يمكن لأي دولة أخرى أن تضاهي حجم التجارة مع الولايات المتحدة، لكن إجمالي حجم التجارة بين دول رابطة دول جنوب شرقي آسيا والصين عام 2024 تجاوز 900 مليار دولار، أي ما يزيد بمقدار الثلث على حجم التجارة بين الولايات المتحدة والصين. علاوة على ذلك، ستعمل بكين بنشاط على تطوير أسواق آسيا الوسطى، ومن المحتمل جداً أن تغرق روسيا أيضاً في بحر من البضائع الصينية الرخيصة".
بحلول نهاية عام 2024، بلغ إجمالي الواردات الروسية من الصين 115.5 مليار دولار، شكلت المعدات (27 مليار دولار)، والمركبات (25 مليار دولار) الحصة الأكبر منها. وإذا استمرت الحروب التجارية العالمية، فسترتفع هذه الأرقام بصورة ملحوظة.
أكدت زاكليازمينسكايا أن "الصين في حاجة إلى تصدير منتجاتها إلى مكان ما". وأضافت "الانخفاض الحاد في حجم الإنتاج أمر غير مقبول بالنسبة إلى بكين. لذلك، ستتدفق المنتجات الصينية إلى أسواق أخرى، بما في ذلك روسيا. في هذه الحالة، يمكننا توقع انخفاض أسعار السلع الاستهلاكية".
بالنسبة إلى المواطن الروسي العادي، فإن الترويج لأسعار السلع الصينية في السوق المحلية قد يؤدي إلى ظاهرة منسية منذ فترة طويلة تسمى خفض الأسعار.
ويرى كازووس أن "الأسعار الخاصة بالإلكترونيات الاستهلاكية والأجهزة المنزلية قد تصبح أرخص بنسبة تراوح ما بين 10 و15 في المئة".
ولكن بالنسبة إلى المنتجين المحليين فإن هذا سيكون بمثابة أخبار سيئة، إذ ستتعرض أعمال الشركات الروسية لضغوط بسبب الإغراق.
وأشار ماسلوف إلى أنه "في هذا الصدد، يجب على الدولة وضع تدابير لحماية المصالح الاقتصادية للشركات الوطنية. سيكون من الأفضل ألا تصبح روسيا سوقاً للسلع الصينية، بل أن تجذب الاستثمارات الصينية وتنشئ مشاريع مشتركة لصنع المنتجات في روسيا".
ربح غير متوقع
"أوقات الأزمات تخلق فرصاً جديدة" لا تزال هذه المقولة القديمة صحيحة حتى اليوم، ومن الممكن أن تجني روسيا فوائد إضافية غير متوقعة على الإطلاق من الحروب التجارية العالمية، كما يقول الخبراء بالإجماع.
يعتقد كازووس أن "الشركات على جانبي المحيط الهادئ ستجبر على البحث بصورة محمومة عن أسواق وموردين جدد". ويضيف "إلى جانب البحث عن خيارات مشروعة، سيزداد الاهتمام بأساليب التحايل على القيود حتماً. وفي مواجهة النقص الحاد أو خطر توقف الإنتاج، قد تطرح مقترحات لاستخدام ولايات قضائية تحافظ على علاقات تجارية محايدة نسبياً مع كلا الطرفين المتنازعين. وروسيا، التي لا تفرض أي حواجز تجارية محددة مع الولايات المتحدة أو الصين، كما هي الحال حالياً، قد ينظر إليها اللاعبون كمنصة محتملة لمثل هذه "المناورات الالتفافية"، سواء من خلال إعادة التصدير أو إنشاء سلاسل توريد أكثر تعقيداً".
سبب تصاعد النزاع التجاري
السبب الرئيس لتصاعد هذا النزاع التجاري القديم، هو تهديد الحكومة الأميركية بفرض رسوم جمركية جديدة توازي أو تفوق أسعار السلع الصينية الموردة للولايات المتحدة. إذ أعلن الرئيس دونالد ترمب فرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 100 في المئة على الواردات من الصين، اعتباراً من الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. ينطبق هذا على مجموعة واسعة من السلع الصينية، وهو جزء من سلسلة إجراءات تجارية ممتدة بين البلدين منذ أعوام عدة. ردت الحكومة الصينية سريعاً ببيان رسمي اتهمت فيه الجانب الأميركي بازدواجية المعايير والحمائية الاقتصادية القومية.
كما تتهم الصين الولايات المتحدة بتعميم مبدأ الأمن القومي واستخدامه ذريعة لتشديد ضوابط التصدير. وتنتقد وزارة التجارة الصينية الولايات المتحدة بسبب إجراءاتها التمييزية ضد الشركات والمنتجات الصينية. وتعتقد بكين أن واشنطن توسع سيطرتها بصورة أحادية على التجارة الدولية، لا سيما في قطاعي أشباه الموصلات ورقائق الكمبيوتر. وهذا يعطل سلاسل التوريد العالمية ويقوض نتائج مفاوضات التجارة السابقة.
وتشعر الصين بالظلم من الإجراءات الأميركية، وتدعو حكومة الولايات المتحدة إلى التخلي عن "نهجها الخطأ". وينبع اتهامها بازدواجية المعايير، تحديداً، من تشجيع الولايات المتحدة للتجارة الحرة، بينما تعزل قطاعات اقتصادية مهمة بفرض رسوم جمركية وضوابط تصديرية، بذريعة الأمن القومي. وتدعو بكين الولايات المتحدة إلى احترام نتائج المفاوضات التجارية السابقة وحل القضايا الثنائية عبر الحوار. وإلا، هددت وزارة التجارة الصينية باتخاذ إجراءات انتقامية حاسمة لحماية حقوقها ومصالحها المشروعة.
ورداً على الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة، تخطط الحكومة الصينية لتوسيع نطاق ضوابط تصدير المعادن الأرضية النادرة، التي تعد مواد خاماً استراتيجية للصناعة، وبخاصة للأغراض العسكرية، وهنا لا حاجة إلى شرح مدى استفادة روسيا من هذا الأمر. ولا يقتصر هذا على التعدين، بل يشمل أيضاً معالجة وتصدير هذه المعادن. وتؤكد بكين أن هذا ليس حظراً شاملاً على التصدير، إذ ستظل طلبات التصدير المدني مقبولة. ويهدف هذا الإجراء في المقام الأول إلى تعزيز تطوير نظام الرقابة على الصادرات المحلية وضمان مزايا تنافسية دولية.
العناصر الأرضية النادرة ودورها المهم في الصراع
العناصر الأرضية النادرة هي مجموعة من 17 عنصراً كيماوياً أساسية لإنتاج مجموعة واسعة من المنتجات التكنولوجية الحديثة. من أشهرها النيوديميوم والبراسيوديميوم والديسبروسيوم والإتريوم وغيرها. خصائصها المغناطيسية والإلكترونية والبصرية الفريدة تجعلها مكونات أساسية في إنتاج المحركات الكهربائية والتوربينات وأشباه الموصلات ومختلف المنتجات عالية التقنية، وكذلك الدفاعية منها على وجه الخصوص.
مع أن مصطلح "نادر" مضلل، إلا أن هذه العناصر ليست نادرة بالضرورة، بل غالباً ما توجد في قشرة الأرض بتركيزات منخفضة فقط. ويعد استخراجها تحدياً تقنياً، إذ غالباً ما ترتبط ببعضها بعضاً في خليط معدني معقد. ويتطلب فصل العناصر ومعالجتها اللاحقة استثماراً بيئياً وتكنولوجياً كبيراً. وعلى مدى العقود الماضية، طورت الصين صناعة متخصصة تعد رائدة عالمياً في استخراج المعادن ومعالجتها.
من منظور اقتصادي، تلعب المعادن الأرضية النادرة دوراً محورياً في عديد من التقنيات الصناعية والمستقبلية. وتراوح تطبيقاتها بين الهواتف المحمولة وتوربينات الرياح وشاشات "أوليد" والمركبات الكهربائية والأسلحة الدقيقة. ونظراً إلى دورها المحوري، تُعد السيطرة على تعدينها ومعالجتها مورداً استراتيجياً.
من الناحية الجيوسياسية، يمنح موقع الصين المهيمن في السوق نفوذاً قوياً على الدول الأخرى، وبخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في المفاوضات التجارية. تمثل الصين أكثر من 60 في المئة من الإنتاج العالمي وأكثر من 80 في المئة من عمليات المعالجة. غالباً ما ترسل الدول الأخرى المنتجة للمعادن الأرضية النادرة هذه المعادن إلى الصين لمعالجتها، نظراً إلى امتلاكها خبرة فنية فريدة وبراءات اختراع عدة، مما يصعب على المنافسين إنشاء مرافق إنتاج خاصة بهم.
هيمنة الصين على المعادن النادرة
إن الدور المحوري للصين في استخراج ومعالجة المواد الخام يعني أن جزءاً كبيراً من الاستهلاك العالمي من المواد الخام والمنتجات الوسيطة المسموح بها يورد إلى الصين. وقد نشأت شبكة عالمية احتكرت فيها الشركات والهيئات الحكومية الصينية عمليات المعالجة الرئيسة والتصنيع النهائي. ونظراً إلى امتلاك الصين عديداً من براءات الاختراع التقنية لاستخراج ومعالجة المواد الخام، غالباً ما تضطر الدول الأخرى لشحن موادها الخام إلى الصين للمعالجة النهائية. وهذا يمنح بكين نفوذاً هائلاً على توريد المواد الخام الاستراتيجية في النزاعات التجارية، مثل النزاع الحالي على الرسوم الجمركية مع الولايات المتحدة.
وتعتقد الصين أن ضوابط التصدير والرسوم الجمركية الأميركية على أشباه الموصلات ورقائق الحاسوب وغيرها من المكونات عالية التقنية لا تنبع فقط من المصالح الاقتصادية، بل أيضاً من المخاوف الأمنية. وكثيراً ما تبرر الولايات المتحدة إجراءاتها بمخاوف الأمن القومي، مثل السيطرة على التقنيات التي قد تستخدم لأغراض عسكرية. بالنسبة إلى الصين، يعد التدخل في القطاعات الصناعية المتقدمة والقيود المفروضة على أنشطة الشركات الصينية تدخلاً في التنمية الاقتصادية والمنافسة العالمية.
وتشدد بكين على أن مثل هذه الإجراءات تعطل سلاسل التوريد العالمية وتعوق التجارة الدولية. في الوقت نفسه تسعى الصين إلى ضمان تطورها التكنولوجي من خلال بناء قدرتها على الابتكار وزيادة تسجيل براءات الاختراع. من جانبها، تخشى الولايات المتحدة من أن يهدد اعتمادها على المعادن الأرضية النادرة والمكونات التكنولوجية الصينية أمنها وقدرتها التنافسية.
على مدى العقود الماضية، نجحت الصين في تسجيل عديد من براءات الاختراع المتعلقة بالتطوير التكنولوجي والمعالجة الفعالة للمعادن الأرضية النادرة. تشكل هذه الملكية الفكرية عائقاً كبيراً أمام الدول الأخرى، حيث يمنع الوصول إلى بعض العمليات والتقنيات أو يمنح فقط من خلال رسوم ترخيص باهظة.
تحمي هذه البراءات الابتكارات الصينية وتمنح الصناعة المحلية ميزة كبيرة. وتواجه دول مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، التي تسعى إلى بناء قدراتها التصنيعية الخاصة، صعوبات تقنية وقيوداً قانونية أيضاً. ونتيجة لذلك، تصدر المواد الخام إلى الصين، وتعالج هناك، ثم تباع في السوق العالمية كمنتجات نهائية.
الحروب التجارية كأسلحة جيوسياسية
بدأت دول عدة بالفعل في تطوير دفاعات استراتيجية تحسباً لتدهور الوضع التجاري. وتستثمر الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي، على وجه الخصوص، في تطوير قدراتها الخاصة في مجال التعدين والمعالجة وتطوير رواسب جديدة وتطبيق أساليب معالجة. كما تعمل هذه الدول على تطوير التعاون الدولي لتقليل الاعتماد على التكنولوجيا.
حتى الآن، كان النجاح محدوداً، إذ تتمتع الصين بميزة تكنولوجية واقتصادية في عديد من مجالات المعالجة. يتطلب تطوير عمليات بديلة واستكشاف رواسب جديدة استثمارات ضخمة ومرحلة تطوير تمتد لأعوام. لذلك، على المدى المتوسط، سيظل هيكل السوق صينياً في الغالب، مما سيمنح بكين مكانة متميزة في النزاعات التجارية.
لا نعرف ما إذا كانت الولايات المتحدة قد استوعبت هذه الحقائق الصينية المرة، لكن المفاوضات التجارية بين البلدين شهدت درجات متفاوتة من النجاح منذ اندلاع النزاع التجاري الحالي عام 2018. وتعاقبت مراحل من الانفراج، مثل ما يسمى "اتفاق المرحلة الأولى"، مع فرض عقوبات وحزم تعريفات جمركية جديدة. وقد أحرز شركاء التفاوض تقدماً متكرراً، على سبيل المثال، في توضيح القضايا المتعلقة بالزراعة أو تحرير الأسواق. ومع ذلك لا تزال القضايا الخلافية الرئيسة، مثل الوصول إلى أسواق التكنولوجيا المتقدمة أو السيطرة على التقنيات الرئيسة، من دون حل.
وأظهرت الجولة الجديدة من مفاوضات التعريفات الجمركية والتوسع المتجدد في ضوابط التصدير، بوضوح أن كلا الجانبين غير مستعدين حالياً للتنازل، وغير مهتمين بحل سريع. وازدادت حدة اللهجة: إذ تؤكد الصين والولايات المتحدة، في تصريحاتهما الرسمية، أنهما لا تريدان حرباً تجارية، لكنهما لا تخشيانها أيضاً.
تأثير الرسوم بنسبة 100 في المئة على صادرات الصين
سيؤدي فرض رسوم جمركية إضافية إلى ارتفاع حاد في أسعار السلع الصينية في الولايات المتحدة. سيؤثر ذلك على السلع الاستهلاكية والإلكترونيات والمعدات وعديد من المنتجات الوسيطة التي تخضع لمزيد من المعالجة في المصانع الأميركية. بالنسبة إلى المستهلكين النهائيين، قد يعني هذا ارتفاعاً فورياً في أسعار المنتجات اليومية، من الهواتف الذكية إلى الأجهزة المنزلية.
تواجه الصناعة الأميركية خطر فقدان قدرتها التنافسية، نظراً إلى ندرة المنتجات الوسيطة وعدم إمكانية الحصول عليها بسرعة من مصادر أخرى. ستجبر الشركات على تحمل كلف أعلى أو نقل إنتاجها إلى الخارج. كما أن إغلاق أو نقل بعض منشآت التصنيع قد يؤثر سلباً في الوظائف.
الدوافع الأميركية والترقب الروسي
تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيق أهداف عدة من فرض هذه الرسوم الجمركية. فمن جهة، تهدف إلى حماية الصناعة المحلية من المنافسة غير العادلة والمدعومة، ومن جهة أخرى منع شركات التكنولوجيا الأميركية من الاعتماد على الموردين ومقدمي الخدمات الصينيين. وفي الوقت نفسه غالباً ما تبرر هذه الإجراءات بمخاوف الأمن القومي، لا سيما في مجال التكنولوجيا العسكرية.
لكن روسيا التي تمتلك علاقات استراتيجية مع الصين، وليست لديها مخاوف على أمنها القومي من استخدام التكنولوجيا والمعادن الصينية النادرة في صناعاتها العسكرية الفائقة التقنية، تستفيد من القيود الأميركية المفروضة على هذه التكنولوجيات الصينية، لتستوردها بأسعار معقولة من أجل استخدامها في صناعاتها العسكرية التي هي بأمس الحاجة إليها في حربها الدائرة في أوكرانيا ضد الغرب الجماعي الذي يتولى عملية توريد الأسلحة إلى كييف بعد شرائها من الولايات المتحدة وإسرائيل.
سياسياً، تلعب الدوافع الشعبوية دوراً. يمكن استغلال النزاعات التجارية في الخطاب السياسي المحلي لتعزيز موقف جهة ما، وكأداة ضغط في المنافسة الدولية. وبخاصة في الفترة التي تسبق الانتخابات، غالباً ما يستشهد المتنافسون في الولايات المتحدة بالإجراءات الدفاعية ضد الصين كدليل على اتخاذ إجراءات حاسمة.
من جهتها، تبرر الصين توسيع نطاق ضوابط التصدير بهدف تحسين نظامها الخاص وتطويره وفقاً للقانون. وتشير الحكومة إلى أهمية المعادن الأرضية النادرة في المنتجات العسكرية وفي النزاعات المتكررة حول العالم. ستستمر مراجعة طلبات الاستخدام المدني السلمي، ولا يخطط لفرض حظر عام على التصدير. تعارض بكين الحرب التجارية، لكنها تؤكد في الوقت ذاته أنها لا تخشى التصعيد وستدافع بحزم عن مصالحها.
يلعب اتهام الولايات المتحدة بازدواجية المعايير دوراً محورياً في حجج الصين. فالتنين الصيني يعد نفسه ضحية من ضحايا التدابير الحمائية الأحادية الجانب والتمييزية، ويدعو إلى الالتزام بمبادئ التجارة الحرة وحل النزاعات عبر الحوار.
الأمن القومي والصراع التجاري
في الأعوام الأخيرة، أصبحت مصالح الأمن القومي الحجة السائدة في التجارة عبر الأطلسي والمحيط الهادئ. تبرر الولايات المتحدة عديداً من الإجراءات باعتبارها حماية من إساءة استخدام التكنولوجيا من قبل القوى الأجنبية. في المقابل، تنظر الصين إلى توسيع ضوابط التصدير كإجراء دفاعي، لا سيما في ضوء التطورات العسكرية وعدم اليقين الجيوسياسي.
يستخدم كلا البلدين ذريعة الأمن القومي للدفاع عن إجراءاتهما الوقائية من الانتقادات الخارجية ولترسيخ شرعيتهما القانونية. وهذا يفاقم التوترات السياسية والاقتصادية، ويصعب حل النزاع التجاري بالاعتماد فقط على نموذج اقتصادي ومعايير تجارية بحتة.
وعلاوة على ذلك، تطبق الولايات المتحدة بصورة متزايدة مبدأ الولاية القضائية خارج الإقليم، لا سيما في ما يتعلق بالمنتجات التي تحوي تقنيات أو مكونات حساسة. هذا يعني أن قوانين مراقبة الصادرات الأميركية قد لا تشمل المنتجات المصنعة في الولايات المتحدة فحسب، بل تشمل أيضاً السلع المستوردة من دول ثالثة في حال كانت تحوي تقنيات أميركية.
يؤثر هذا غالباً على أشباه الموصلات ورقائق الحاسوب، وقد تطلب من الشركات في أوروبا وآسيا ومناطق أخرى الامتثال للأنظمة الأميركية والحصول على موافقات من السلطات الأميركية. تسبب هذه الممارسة ذات الدوافع الجيوسياسية، مزيداً من عدم اليقين والتعقيد في التجارة العالمية، حيث يتعين على الشركات التكيف مع أنظمة قانونية مختلفة وإجراء عمليات امتثال معقدة، لكن روسيا خارج هذه الدائرة المغلقة نهائياً وليست مضطرة للامتثال لأي قيود أميركية، لأنها تستورد هذه المنتجات من الصين مباشرة.
الشركات العالمية وحالة عدم اليقين المتزايدة
بدأت عديد من الشركات العاملة دولياً بإعادة النظر في سلاسل التوريد وعمليات الإنتاج وتنويعها. على سبيل المثال، تدعو استراتيجية "الصين زائد واحد" إلى إنشاء مواقع تصنيع قرب الصين للاستجابة بمرونة للنزاعات التجارية، وتعد روسيا موقعاً مثالياً لذلك بسبب قربها الجغرافي من الصين. وتستثمر شركات أخرى في تطوير تقنياتها وبراءات اختراعها الخاصة لتجنب الأخطار القانونية.
في الوقت نفسه يتزايد الاهتمام بأساليب إعادة التدوير الجديدة وتطوير مواد بديلة، لا سيما للمعادن الأرضية النادرة والمكونات عالية التقنية. وتعمل الشركات على إنشاء إدارات للامتثال وتدريب الموظفين على لوائح التصدير الدولية وطلب المشورة القانونية للاستعداد لمختلف المواقف.
وتظهر النزاعات التجارية السابقة، كتلك التي اندلعت بين اليابان والولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي، أنماطاً مماثلة: التعريفات الجمركية وقيود التصدير والنزاعات القانونية ونزاعات الأمن القومي. وكانت التكنولوجيا أيضاً محوراً رئيساً للصراع في ذلك الوقت.
ما يجعل النزاع الحالي فريداً هو الترابط العالمي والأهمية الاستراتيجية للمعادن الأرضية النادرة. فبينما اقتصرت النزاعات التجارية السابقة غالباً على قطاعات محددة، يمس النزاع الحالي قطاعات واسعة من الصناعة والتكنولوجيا. ويمنحه اعتماده العالمي غير المسبوق على الصين أداة إضافية للقوة السياسية.
كيف ستتطور العلاقات التجارية على المدى المتوسط؟
التوقعات قاتمة. على المدى القصير، من المرجح حدوث مزيد من التصعيد، إذ يتصرف كلا الجانبين بحزم ويرفضان التنازل. على المدى المتوسط، قد تظهر سلاسل توريد بديلة وحلول تكنولوجية جديدة لتقليل الاعتماد على النفط.
على المدى البعيد، يمكن العودة إلى التنسيق متعدد الأطراف للتجارة الدولية إذا أدرك البلدان أن الإجراءات الحمائية تهدد الازدهار والابتكار العالميين على المدى الطويل. وسيتطلب ذلك مفاوضات مكثفة وتنازلات متبادلة والعودة إلى الحوار البناء.
تواجه الصناعة الألمانية والأوروبية أيضاً تحديات جسيمة. فالعديد من المنتجات عالية التقنية والسلع الصناعية تتطلب معادن أرضية نادرة ومواد خاماً أخرى، تستورد بصورة رئيسة من الصين. كما أن عدم اليقين في شأن الإجراءات الجمركية وضوابط التصدير يعقد التخطيط ويزيد الكلف. لذا، تعمل الشركات على وضع استراتيجيات طوارئ، والبحث عن مصادر توريد بديلة، والاستثمار في البحث والتطوير.
في الوقت نفسه تتاح فرص جديدة للابتكار والتعاون في مجال استخراج المواد الخام ومعالجتها. ويعمل الاتحاد الأوروبي على تمويل برامج تهدف إلى توسيع السيادة التكنولوجية وتضييق الفجوة في براءات الاختراع وتقنيات المعالجة.
لكن بالنسبة إلى عديد من الدول النامية، الوضع الحالي يمثل تحدياً وفرصة في آن واحد. يمكن للدول التي تمتلك رواسب من المعادن الأرضية النادرة أن تستفيد من زيادة الطلب. ومع ذلك هناك خطر أن تصبح عرضة لتقلبات الأسعار والضغوط السياسية من القوى الاقتصادية الكبرى.
إن الترابط العالمي لسلاسل التوريد يعني أيضاً أن نقص المعادن الأرضية النادرة قد يؤثر في صناعات عديد من الاقتصادات الناشئة. تفتقر عديد من هذه الدول حالياً إلى القدرة على تطبيق الابتكارات التكنولوجية في قطاع المواد الخام بصورة مستقلة. ومن شأن سياسات التنمية الدولية والتعاون التكنولوجي أن يسهما في تقليل الاعتماد على الصين والولايات المتحدة، وأن يفتحا آفاقاً جديدة.
النزاع الجمركي إلى أين؟
مع استمرار اهتمام الصين بالحفاظ على إمداداتها إلى السوق الأميركية، ستسعى جاهدة لاغتنام فرص إعادة تصدير سلعها إلى الولايات المتحدة. ومن المرجح أن تجد هذه الفرصة، حيث يرغب الأميركيون أيضاً في إبقاء السلع منخفضة الكلفة على رفوف متاجرهم.
يعتقد المتخصصون أنه "نظراً إلى فرض ترمب رسوماً جمركية على الغالبية العظمى من دول العالم، يمكن لروسيا أن تصبح معيد تصدير محتملاً". ويضيفون "ليس لدى موسكو أي رسوم جمركية مع الصين أو الولايات المتحدة. تدرس بكين من كثب كيفية تعامل موسكو مع عديد من العقوبات الغربية، ومن الممكن جداً إنشاء نوع من التصدير الموازي للسلع الصينية إلى الولايات المتحدة عبر روسيا - وبهذه الطريقة، ستستفيد الصين من خبرة موسكو في نفس مجال الاستيراد الموازي الذي نستخدمه لتلبية حاجاتها الخاصة".
ومع ذلك فإن تصعيد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين سيؤدي إلى عواقب غير متوقعة في المقام الأول على هذه الدول نفسها، ولكن الاقتصاد الروسي قد يواجه أيضاً آثاراً غير مباشرة، وفقاً لخبراء روس.
حرب بلا منتصرين
يؤدي استمرار الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة إلى تفاقم الاتجاهات السلبية في التجارة العالمية، ويقول المتخصص ألكسندر لوكين، "إذا تصاعدت الحرب التجارية، فستؤدي إلى عواقب لا يمكن التنبؤ بها في كل من الصين والولايات المتحدة، حيث سترتفع الأسعار تدريجاً"، موضحاً أن ارتفاع الرسوم الجمركية يجعل الصادرات الصينية أكثر كلفة بالنسبة إلى الولايات المتحدة. ويتابع "إذا اشتريت من دول أخرى بدلاً من الصين، فسترتفع أسعار سلعها أيضاً. في غضون عام أو عامين، سيشعر المواطنون الأميركيون بارتفاع الأسعار، ومن غير الواضح كيف سيؤثر ذلك، على سبيل المثال، على الانتخابات داخل الولايات المتحدة".
ويعتقد أن هناك عواقب وخيمة قد تلحق بالصين، التي تواجه انخفاضاً في الإنتاج وما يصاحبه من ارتفاع في البطالة. ويرى المتخصص "لذلك، كل هذا مقلق للغاية، وبخاصة لهذين البلدين".
التأثيرات على الاقتصاد الروسي
وفقاً للوكين، لا تبدو عواقب الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة على روسيا كبيرة حتى الآن. وأضاف "انخفاض قيمة العملة الصينية نتيجة هذه الحرب يحفز الصادرات، مما يعني أن الصادرات الصينية إلى روسيا قد تزيد قليلاً". علاوة على ذلك، ووفقاً للخبير، قد تزداد صادرات روسيا إلى الصين من بعض السلع التي ترفض الصين شراءها من الولايات المتحدة، مثل فول الصويا.
وأوضح المتخصص قائلاً، "يستخدم الروس اليوان بصورة أساسية لدفع ثمن الواردات الصينية. علاوة على ذلك، لا تتداخل مجموعات منتجاتنا كثيراً: فنحن نبيع المواد الخام ونشتري المنتجات النهائية بصورة أساسية". واختتم قائلاً "إذا أدت هذه الخطوة (إضعاف اليوان) إلى سباق تنافسي لخفض قيمة العملة، فسيكون ذلك سيئاً لروسيا أيضاً. ومع أن هذا ليس مرجحاً جداً حتى الآن، إلا أنه لا يمكن استبعاده".
هدف ترمب هو قلب نظام التجارة العالمي بأكمله رأساً على عقب، إذا اكتشفت بكين أن هذا هو الهدف الرئيس من الرسوم الجمركية التي فرضها، فقد تقرر أن المفاوضات مع ترمب لا جدوى منها، وعندها ستتصادم القوتان الاقتصاديتان الرئيستان في العالم، بدلاً من تعزيز التعاون الاقتصادي، في معركة يفوز فيها الفائز بكل شيء من أجل التفوق الاقتصادي.
إذا حدث هذا، فسيعني نهاية الإجماع القديم وظهور مستقبل مختلف تماماً، وربما خطر للغاية.
لذلك، دعت الصين الولايات المتحدة إلى التوقف عن التهديد بفرض رسوم جمركية، وتكثيف المفاوضات للتوصل إلى اتفاق تجاري. وأكد بيان صادر عن وزارة التجارة الصينية أن الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها بكين كانت قسرية ودفاعية، وفقاً لوكالة "بلومبيرغ".
وحذرت الوزارة من أن الصين ستتخذ الإجراءات المناسبة لحماية حقوقها إذا استمرت الولايات المتحدة في سياستها. كما أشارت إلى أن التهديدات المستمرة بفرض رسوم جمركية مرتفعة ليست الطريقة الصحيحة للتعامل مع الصين.
ومع ذلك أعربت الصين عن استعدادها لتعزيز الحوار والتبادلات في شأن ضوابط التصدير مع الدول الأخرى. والهدف المعلن لهذه السياسة هو ضمان أمن واستقرار سلاسل الصناعة والتوريد العالمية.
الولايات المتحدة هي السوق الرئيسة للصين، حيث تمثل حجماً هائلاً من الصادرات الصينية. لذلك، يعطي مقدمو الخدمات اللوجيستية ومالكو السفن الصينيون الأولوية للطريق الأميركي لأسباب تتعلق بفترات التسليم وجودة الأسطول والسعر. غالباً ما ينتهي الأمر بروسيا ببقايا هذه السلسلة: طرق أقل ملاءمة وأسعار أعلى وأحياناً حتى سفن في حالة سيئة. ويتجلى هذا بصورة خاصة في الطرق المؤدية إلى سانت بطرسبورغ ونوفوروسيسك، فهي طويلة، وتخصيص سفينة عالية الجودة لها بسعة محدودة أمر غير مربح للصينيين.
لكن إذا بدأت الولايات المتحدة بخنق الصين بالرسوم الجمركية، فقد تتغير أولويات الصين. ستصبح التجارة مع الولايات المتحدة أكثر صعوبة وتكلفة، مما يعني أن الصين ستحتاج إلى إعادة توجيه نفسها نحو أسواق وسيطة والتفافية أخرى حيث تكون القيود أقل والطلب مستقر، ويمكن الوصول إليها جغرافياً بيسر، وتعد روسيا من الدول الأولى في هذه القائمة.
لذلك فإن الفوائد التي يمكن لروسيا أن تجنيها تتمثل في أن كلف الشحن ستصبح أقل، لأن السفن التي كانت تستخدم سابقاً في الولايات المتحدة ستصبح متاحة بصورة أكبر للرحلات إلى روسيا. كما أن الصين قد تبدأ بدعم الإمدادات للدول الصديقة من طريق توفير حسومات لها من أجل الحفاظ على حجم أعمالها وقدرتها الإنتاجية. ومن الممكن أن تنخفض كلف المحطات وأوقات الانتظار في الموانئ الصينية بالنسبة إلى البضائع الروسية، مع تحول الأولويات. وقد تظهر سفن وخدمات أفضل على الطرق المؤدية إلى روسيا، بعدما أصبحت خالية بسبب انخفاض الصادرات إلى الولايات المتحدة.
وهكذا، إذا تصاعد الصراع التجاري بين الصين والولايات المتحدة، فقد تصبح روسيا ثاني أهم وجهات التصدير الصينية، إن لم تكن الأولى. وإذا استفادت من هذا الوضع بحكمة، فقد يصبح ميزة لوجيستية قوية لها ولاقتصادها في المستقبل المنظور.