Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما لا تصبو إليه الصين

الأهداف الأساسية لبكين واضحة ومحدودة

تلويح بالأعلام قبل عرضٍ عسكري في بكين، الصين، سبتمبر 2025 (رويترز)

ملخص

التصور السائد في واشنطن حول سعي الصين إلى الهيمنة العالمية غير دقيق، فبكين تركز على استقرارها الداخلي وحماية أراضيها أكثر من التوسع الخارجي، مما يجعل مقاربة الولايات المتحدة العسكرية تجاهها خاطئة، ويفضل التعاون الاقتصادي والدبلوماسي لفهم مصالح الصين الحقيقية.

أصبحت حقيقة متعارفاً عليها الآن في دوائر صنع القرار في واشنطن أن الصين تطمح إلى أن تحل محل الولايات المتحدة كقوة عظمى مهيمنة على العالم وأنها تسعى بقوة إلى توسيع أراضيها. وتبنى الديمقراطيون والجمهوريون على حد سواء هذا الإجماع. فكتب إلبريدج كولبي الذي يقدم المشورة إلى "البنتاغون" بصفته وكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية في عهد الرئيس دونالد ترمب، أنه إذا سيطرت الصين على تايوان فسيكون ذلك بمثابة نقطة انطلاق لتوسيع نطاق نفوذها نحو الفيليبين وفيتنام. في حين جادل راش دوشي، نائب المدير الأول لشؤون الصين وتايوان في مجلس الأمن القومي خلال عهد الرئيس جو بايدن وأحد مهندسي سياسة بايدن تجاه الصين، بأن بكين كانت تلعب لعبة طويلة الأمد لإزاحة الولايات المتحدة من موقعها كقائدة للعالم. وقد شكل هذا التفاهم الحزبي المشترك سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين التي تركز الآن على الاستعداد للحرب والردع العسكري وفك الارتباط.

لكن المشكلة تكمن في أن هذا التصور عن الصين غير صحيح. في الواقع، إن مراجعة متأنية لما تصرح به بكين حول طموحاتها تكشف عن صورة مغايرة تماماً، فالصين قوة راضية بالوضع القائم ولها أهداف عالمية محدودة، وليست دولة تعديلية تسعى إلى توسيع نفوذها بصورة كبيرة وإعادة تشكيل النظام العالمي. ويركز قادة الصين على التحديات الداخلية واستقرار النظام أكثر بكثير من تركيزهم على توسيع نفوذ البلاد الخارجي. وصحيح أن لدى الصين مطالب في السياسة الخارجية، وكثيراً ما تمارس الضغوط على جيرانها، لكنها لا تسعى إلى غزوهم أو احتلالهم. إنها حساسة للغاية في شأن سيطرتها على الأراضي التي اعترف المجتمع الدولي، دبلوماسياً في الأقل، بأنها صينية، بما في ذلك هونغ كونغ وتايوان والتيبت وشينجيانغ. لكن طموحات الصين نادراً ما تتجاوز ذلك.

وتزداد الصين قوة وثراء، لكن قوتها المتزايدة لا تغير جوهرياً من اهتماماتها أو تطلعاتها. فأهداف الصين الرئيسة، بما في ذلك مطالبها المحددة حول الأراضي، تتوافق مع ما أرادته في منتصف القرن الـ20، عندما كانت البلاد ضعيفة وفقيرة، بل إنها تعود لزمن أقدم: فالسلطات السياسية منذ عهد أسرة تشينغ التي حكمت الصين من القرن الـ17 إلى أوائل القرن الـ20، تبنت المطالب نفسها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإذا كانت الصين قوة راضية بالوضع القائم ولها أهداف واضحة ومحدودة، ولا تشكل تهديداً خطراً للهيمنة الأميركية، فإن الولايات المتحدة تتبع نهجاً خاطئاً تجاه أهم علاقة ثنائية في العالم. فتركيز واشنطن على الردع العسكري والاستعداد للحرب يهدد بخلق نوع من المواجهة العسكرية التي لا داعي لوجودها، ويهدد بعزل الولايات المتحدة عن شرق آسيا. وبدلاً من اعتبار الصين تهديداً خطراً، تحتاج الولايات المتحدة إلى فهم مصالح بكين الجوهرية لكي تعرف أين يمكن للصين أن تكون مستعدة للتسوية وأين لا يمكنها ذلك. ومن الأفضل لصانعي السياسات الأميركيين الراغبين في التأثير بفاعلية في بكين أن يتعاونوا مع الصين اقتصادياً ودبلوماسياً عوضاً عن محاولة عزلها واحتوائها من خلال استراتيجية كبرى تقوم على أساس عسكري.

بجرأة ووضوح

أفضل طريقة لفهم ما تريده الصين هي الإصغاء لما يقوله قادتها وصحفها ووسائل إعلامها. فمع أن كثيراً من المراقبين يسخّفون التصريحات العامة باعتبارها كلاماً رخيصاً أو دعاية، إلا أن هناك أسباباً وجيهة تدعو إلى الاعتقاد بأن الصين تقول ما تعنيه من دون مواربة. في الواقع، يحرص القادة والأنظمة بشدة على إيصال أهدافهم وأساليبهم ومنطق حكمهم إلى شعوبهم وإلى العالم الخارجي على حد سواء. وحتى لو كان جزء كبير من هذه الدعاية مصمماً لتمجيد الحزب الشيوعي الصيني أو الترويج لرواية معينة، فقد أظهرت الدراسات أن الـ"بروباغندا"، حتى في أكثر صورها مبالغة، يمكن أن تقدم أدلة قيّمة على ما يدور في أذهان القادة. على أقل تقدير، تكشف هذه الـ"بروباغندا" عن التصورات التي يريد القادة الصينيون أن يعتنقها شعبهم.

وحددت الصين مصالحها الجوهرية بوضوح وثبات. ففي سبتمبر (أيلول) عام 2011، قبل أن يتسلم شي جينبينغ منصب القيادة، نشرت بكين أول ورقة بيضاء رسمية للسياسة الخارجية، حددت فيها مصالح الصين الجوهرية التي شملت الاستقرار السياسي الداخلي والسيادة الوطنية وسلامة أراضيها ومرجعية الحزب الشيوعي الصيني العليا والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وفي عهد شي، لم تتغير المصالح الجوهرية للحزب. وأدرجت المواضيع والرسائل نفسها في مجلدات كبيرة توثق أعمال شي، واستخدمت في المناهج التعليمية الوطنية للطلاب ابتداء من المرحلة الابتدائية.

وما يغيب إلى حد كبير في توصيف الصين لنفسها ومصالحها هو أية طموحات مبالغ فيها أو رغبات بارزة في أن تصبح قائداً عالمياً أو حتى إقليمياً. فخلال خطاب مهم ألقاه شي لمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني عام 2021، لم يدعُ إلى الهيمنة الصينية أو القيادة العالمية. ولم يذكر السياسة الخارجية إلا للتأكيد على معارضة الصين للأعمال العدوانية في الخارج. ولو توافرت أية فرصة لإظهار أن لدى الصين طموحات أوسع، لكان ذلك في ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي الصيني، بيد أن خطاب شي تجاهل هذه المسألة تماماً.

لا تسعى الصين إلى الحلول محل الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة عالمياً

ويدعو شي وغيره من القادة الصينيين باستمرار إلى أن تقوم الصين بدور أكبر في الحوكمة العالمية، لكن هذا لا يعني أن الصين تريد أن تحل محل الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة عالمياً. وإن اقتراح شي الأخير لما يسمى "مبادرة الحوكمة العالمية" التي طرحها في أوائل سبتمبر الماضي، يوضح بصراحة أن الصين تسعى إلى الحفاظ على النظام الدولي القائم على الأمم المتحدة، لا إلى تقويضه. كما أنها لا تريد أن تكون القوة الوحيدة المهيمنة على هذه المؤسسات. وهي واضحة، كما كانت منذ بداية الحرب الباردة، في أن هدفها هو التعددية. ويعزى تزايد نفوذ الصين في الهيئات المتعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة إلى اقتصادها المتنامي من جهة، وإلى تراجع الدور الأميركي في هذه المؤسسات من جهة أخرى. ومع نضوب المساهمات المالية الأميركية، فإن الصين تتولى حتماً دوراً أكبر.

وفي تحركاتها العالمية، تسعى الصين إلى تعزيز النمو الاقتصادي وزيادة النفوذ السياسي. إلا أن هذه الجهود الدولية موجهة نحو الداخل، وتنبع من قضايا محلية. وعلى سبيل المثال، أطلقت الصين "مبادرة الحزام والطريق" لتخفيف فائض الطاقة الإنتاجية في الصناعات المرتبطة بتشييد البنى التحتية. ويقدم القادة الصينيون "مبادرة الحزام والطريق" على أنها أداة لكسب التأييد الدولي لنماذج التنمية والحوكمة الصينية، لكن الهدف ليس نشر القيم الصينية أو تشجيع الدول الأخرى على تبني الأنظمة السياسية والاقتصادية الصينية، بل إن "مبادرة الحزام والطريق" وغيرها من البرامج تهدف إلى استخدام النفوذ الاقتصادي الصيني في حشد الدعم الدولي لمطالباتها السيادية المحددة، بخاصة في ما يتعلق بتايوان.

وخلافاً لما تقول الصين إنها تسعى إليه، يزخر خطاب السياسة الخارجية الأميركية بإشارات إلى الهيمنة العالمية، وحتمية دور الولايات المتحدة كدولة لا غنى عنها، وتطلعاتها للحفاظ على مكانتها كقوة مهيمنة عالمية. ويتفق القادة الديمقراطيون والجمهوريون، من نانسي بيلوسي إلى ميتش ماكونيل، على ضرورة سعي الولايات المتحدة إلى تحقيق الهيمنة. وأظهر ترمب رغبته في إعادة توجيه دور الولايات المتحدة عالمياً، ولكن يبدو أنه لا يزال ينظر إلى العالم على أنه ساحة يجب، بل ينبغي، أن تهيمن عليها الولايات المتحدة، واتضحت هذه الرؤية من خلال أفعاله حتى الآن مثل استخدام التعريفات الجمركية والتهديدات لإرغام حلفاء الولايات المتحدة القدامى على تقديم تنازلات. في المقابل، لا يمكن العثور على خطاب أو إجراء مماثل بهذا الحجم في أي شيء يصدر عن الحزب الشيوعي الصيني الذي يصرح بوضوح أن أقصى ما يسعى إليه هو التعددية القطبية. وفي حين أن الصين تهدد أو تضغط على دول أخرى في كثير من الأحيان، كما هي الحال في النزاعات مع كوريا الجنوبية وأستراليا، إلا أن أفعالها غالباً ما تكون مدفوعة بأحداث تشعر بكين بأنها تمس مصالحها الجوهرية بصورة مباشرة.

صعود محدود

كثيراً ما يشير النقاد إلى عبارات جديدة في الخطاب الصيني باعتبارها دليلاً على سعي الصين إلى توسيع نفوذها، وربما تنحية الولايات المتحدة. فمنذ عام 2021، على سبيل المثال، استخدم شي عبارة "الشرق يصعد والغرب في انحدار". لكن هذه العبارة وصفية ولا تعبر عن طموحات، فهي تمثل تصور بكين بأن قوة الصين تتزايد بينما تتراجع قوة الولايات المتحدة وأوروبا. علاوة على ذلك، عندما يستخدم شي هذه العبارة، غالباً ما تتبعها جملة أخرى، وغالباً ما يجري تجاهلها، وهي: "ليست لدى الصين نية لتغيير الولايات المتحدة، ولا الحلول محلها".

هذه العبارة أقل شيوعاً بكثير مما يعتقد عموماً. فعلى رغم الاهتمام الذي حظيت به في وسائل الإعلام الغربية وبين صانعي السياسات في واشنطن، فإن العبارة لم ترِد سوى في 32 مقالة في صحيفة الشعب اليومية "بيبولز ديلي"، الصحيفة الرئيسة للحزب الشيوعي الصيني التي تعد مقياساً للخط الرسمي للحزب. وعندما يقول القادة "الشرق يصعد والغرب في انحدار"، فإن ذلك يكون في الغالب لتبرير الحاجة إلى تعزيز قدرة الدولة على مواجهة التحديات الداخلية والتنموية، وليس للإشارة إلى إزاحة الولايات المتحدة من دورها العالمي. فخلال خطاب داخلي ألقاه شي عام 2023، على سبيل المثال، استخدم هذه العبارة للإشادة بنجاح أجندة السياسة الداخلية للصين وتصويرها كنموذج لتسريع النمو الاقتصادي بين الدول النامية، مع التشديد على أن هذا النموذج لا يمكن تصديره.

وعلى نطاق أوسع، لا يقترح القادة الصينيون في خطاباتهم أو وثائقهم أن يحلوا محل الولايات المتحدة، بغض النظر عن جمهورهم المستهدف. ويكشف التحليل الكمي للخطابات الـ176 التي ألقاها شي بين عامي 2012 و2024، وتناول خلالها الولايات المتحدة، عن أن الموضوع السائد هو التعاون مع واشنطن، لا تنحيتها. وحتى عند تناوله قضايا حساسة، بما في ذلك تايوان وهونغ كونغ وبحر الصين الجنوبي، يركز شي على مهمة الصين التاريخية في الدفاع عن حدودها، وليس على رغبتها في توسيع أراضيها. وغالباً ما يقرن ذكر الولايات المتحدة بأفكار مثل المشاركة والتعاون والتنمية، وليس المواجهة.

أما التقييمات النوعية التي أجريت لفهم تفاصيل خطاب القادة الصينيين وسياقه، فتوصل إلى نتائج مماثلة. فقراءتنا الدقيقة للخطابات الـ290 التي ألقاها شي ووزيرا خارجيته يانغ جيتشي ووانغ يي، بين عامي 2012 و2025، باللغة الصينية الأصلية وترجماتها الإنجليزية، لم تجد أي ذكر لرغبة الصين في أن تكون قوة مهيمنة قادرة على فرض القواعد العالمية بصورة أحادية. ويسلط القادة الضوء على التعاون ورغبة الولايات المتحدة والصين في تجنب ما يسمى "مصيدة ثوسيديدس" [مصطلح يستخدم في إشارة إلى العلاقات الصينية- الأميركية ويصف حالاً تبرز فيها قوة عظمى جديدة وتتحدى قوة مهيمنة قائمة، مما يرفع احتمال نشوب صراع عسكري بينهما لأن القوة المهيمنة تخشى فقدان مكانتها، بينما القوة الصاعدة تسعى إلى توسيع نفوذها] التي ستؤدي حتماً إلى صدام بين البلدين.

العودة للمستقبل

إن تركيز بكين على السياسة الداخلية، ومخاوفها حيال السيادة الداخلية وحول الحدود المباشرة والاستقرار الإقليمي، ليست أمراً جديداً. والخطاب المتعلق بتايوان، وهو أبرز بؤرة توتر في قضية السيادة الصينية، يعد مثالاً على الجذور التاريخية للمسألة. فعام 1895، كتب لي هونغ جانغ، مفاوض أسرة تشينغ في معاهدة شيمونوسيكي التي مثلت نهاية الحرب الصينية- اليابانية الأولى، رداً على مسودة يابانية للمعاهدة: "لقد أنشئت تايوان كمقاطعة ولا يمكن التنازل عنها لدول أخرى". وعام 1958، أي بعد أقل من عقد على وصوله إلى السلطة، عبّر ماو تسي تونغ عن موقف مشابه، قائلاً: "تايوان لنا، ولن نساوم في هذه القضية على الإطلاق".

وعلى رغم أن بعض الباحثين يرون أن اهتمام الصين بتايوان مرتبط بمصانع أشباه الموصلات فيها أو بموقعها الاستراتيجي، فإن مطالب بكين أعمق من ذلك وتنبع من سردية وطنية عريقة استمرت لقرون. فقد اعتبر الحكام الصينيون تايوان جزءاً من أراضيهم قبل عام 1949 بوقت طويل، عندما فر الحزب القومي، أو الـ"كومينتانغ"، إلى تايوان واحتفظ بالسيطرة على الجزيرة بعد أن هزمت قواته أمام الحزب الشيوعي الصيني في البر الرئيس. فخلال عهد أسرة مينغ (بين 1368 و1644) ركز القادة على مكافحة القرصنة وتنظيم التجارة عبر المضيق مع انتقال المستوطنين الصينيين بصورة متزايدة إلى الجزيرة. أما أسرة تشينغ التي سيطر حكامها من المانشو على الصين بعد الإطاحة بأسرة مينغ عام 1644، فأدارت الجزيرة باعتبارها جزءاً من مقاطعة فوجيان الساحلية ابتداء من عام 1683، ثم أعادت تصنيفها كمقاطعة مستقلة في العام نفسه.

ولم تكن جهود أسرة تشينغ لدمج تايوان في الإمبراطورية تتعلق بالثروة أو الغزو. فلم تكن هناك مملكة تايوانية قبل تشينغ يمكن هزيمتها، ولم تكن للجزيرة علاقات تبعية مع أية دولة. بدلاً من ذلك، كان دمج الصين لتايوان جزءاً من عملية إغلاق منطقة حدودية وإدارة التجارة مع الصينيين في الجزيرة ومحاربة القرصنة. وبعدما تنازلت أسرة تشينغ عن تايوان لليابان عام 1895 عقب الحرب الصينية- اليابانية الأولى، رأى حكام الصين اللاحقون أن تايوان أرضاً تنبغي استعادتها. وأوضح هذا الموقف قادة الـ"كومينتانغ" الذين مثلوا الصين (المعروفة آنذاك بجمهورية الصين)، خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها. وفي مؤتمر القاهرة عام 1943 الذي سعى إلى تحديد مستقبل آسيا بعد الحرب، اتفقت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على أن "الأراضي التي سرقتها اليابان من الصينيين"، بما في ذلك جزيرة تايوان وجزر بنغهو القريبة (وهي الآن جزء من تايوان)، يجب أن توضع مجدداً تحت السيطرة الصينية. ومع استسلام اليابان لقوات الحلفاء عام 1945، استعادت جمهورية الصين سيادتها على تايوان فيما يعرف بـ"الاستعادة" التي ترجمت بالصينية إلى كلمة "غوانغفو"، وتعني "الاسترجاع المشرف للأراضي المفقودة".

المطالب الصينية في شأن تايوان تنبع من سردية وطنية عريقة استمرت لقرون

بعد عام 1949، ادعى كل من حزب "كومينتانغ" في تايبيه والحزب الشيوعي الصيني في بكين أنه الحاكم الشرعي للصين بأكملها، بما في ذلك تايوان والبر الرئيس. ولم يظهر النقاش حول تغيير الوضع السيادي لتايوان إلا مع انتقال الجزيرة إلى الديمقراطية في تسعينيات القرن الـ20. وهكذا، من الناحية الدبلوماسية، لا يتجاوز عمر النزاع على السيادة 30 عاماً، بينما تعود المخاوف الصينية حيال تايوان لأكثر من 100 عام قبل أن تكتسب الجزيرة أية قيمة عسكرية أو اقتصادية معاصرة. وكان القادة الصينيون يرغبون في الوحدة مع تايوان حتى لو لم تكن لها أية قيمة عسكرية أو اقتصادية.

كما أن مخاوف الصين الإقليمية الأخرى تعود أيضاً لقرن في الأقل. فهونغ كونغ وماكاو اللتان كانتا خاضعتين للحكم الاستعماري البريطاني والبرتغالي بدءاً من عامي 1841 و1557 على التوالي، عادتا للسيادة الصينية في أواخر تسعينيات القرن الماضي. أما تاريخ حكم الصين للتيبت وتشينغهاي وشينجيانغ فيعود لعهد أسرة تشينغ التي غزت بعض المناطق التي كانت تابعة سابقاً لأسرة مينغ في شمال غربي الصين وآسيا الوسطى وأعادت تنظيمها كمقاطعات جديدة. وسيطرت أسرة تشينغ على التيبت عام 1720 وحكمتها حتى عام 1912، حين أصبحت مستقلة بحكم الأمر الواقع، إلى أن ضمها قادة الحزب الشيوعي الصيني بالقوة مجدداً عام 1950.

في المقابل، كانت السيطرة على بحري الصين الشرقي والجنوبي أقل أهمية بالنسبة إلى الصين. وتعود جذور النزاعات المتعلقة بالمطالبات البحرية لفوضى النصف الأول من القرن الـ20، أكثر منها للمطالبات الصينية الراسخة. فعندما حسم القادة في مؤتمر القاهرة عام 1943 النزاعات على الأراضي في آسيا بعد الحرب، وأكدوا وجوب استقلال كل من فيتنام وكوريا، لم يحددوا كيفية بتّ السيادة على الجزر البحرية والحدود المائية.

إن أصل ما يسمى "خط النقاط التسع" الذي تستخدمه الصين لترسيم مطالبها في بحر الصين الجنوبي، يحمل دلالة. في الواقع، يشمل هذا الخط جزءاً كبيراً من بحر الصين الجنوبي، بما في ذلك المياه القريبة من سواحل فيتنام والفيليبين وماليزيا. وعلى رغم اعتقاد كثير من المراقبين بأن مثل هذه المطالب جديدة، فإن "خط النقاط التسع" كان في الأصل خطأ من 11 نقطة، وظهر للمرة الأولى على خريطة رسمية لجمهورية الصين نشرت عام 1948. وربما يكون ترسيم الحدود هذا أقدم من ذلك، إذ ربط المؤرخون خريطة عام 1948 بـ"خريطة الجزر الصينية في بحر الصين الجنوبي" السابقة التي نشرتها وكالة حكومية تابعة لجمهورية الصين عام 1935. ومع ذلك، عام 1957، أزال الحزب الشيوعي الصيني النقطتين اللتين امتدتا إلى خليج تونكين، وهو المسطح المائي الذي يفصل شمال فيتنام عن جنوب الصين، في خطوة فسرت على نطاق واسع على أنها بادرة لتحسين العلاقات الدبلوماسية مع فيتنام الشمالية. وعلى رغم أن الصين لن تتراجع عن تايوان أو غيرها من المطالبات السيادية القديمة، فإنها أبدت استعداداً للتسوية في ما يتعلق بحدود أخرى.

مراوحة مكانها

لقد اعتقد بعض المحللين والمراقبين خطأ بأن الصين قوة توسعية. في الواقع، أهداف الصين لا تتزايد من ناحية النطاق أو الطموح. ففي أوج عظمتها، حكمت أسرة تشينغ 13 مليون كيلومتر مربع من الأراضي، وهي مساحة تفوق بكثير المساحة الحالية للصين البالغة 9.42 مليون كيلومتر مربع. وإن استعداد الصين لترسيم حدودها الحالية بصورة واضحة تقريباً مع جميع الدول هو دليل على أنها ترى مطالب الدول الأخرى شرعية. فالصين لا تطرح مطالب لاسترجاع ما يقارب 4 ملايين كيلومتر مربع من الأراضي، أي إنها لا تحاول استعادة كل شبر من أراضيها السابقة في منغوليا وروسيا وقيرغيزستان وطاجيكستان وغيرها من الدول.

تعزيز الوجود العسكري الأميركي في المحيط الهادئ غير ضروري ويأتي بنتائج عكسية

واستطراداً، كثيراً ما تخلت الصين عن أراضٍ متنازع عليها لتسوية الخلافات وإرساء حدود ثابتة، ما دامت مصالحها الجوهرية غير معرضة للخطر. فعلى سبيل المثال، من أجل تسوية النزاعات مع كوريا الشمالية عامي 1962 و1964، تنازلت الصين عن قمة جبل بايكتو وأكثر من 500 كيلومتر مربع من الأراضي المجاورة. وعلى رغم اعتقاد المراقبين المتشددين بأن الصين قد تطمح مستقبلاً إلى ضم أراضٍ في فيتنام في نهاية المطاف، فإن المسار التاريخي العام يوضح أن الصين تميل إلى حل نزاعاتها الحدودية بدلاً من توسيع مطالبها. فبعد أن أعادت الصين وفيتنام تطبيع علاقاتهما عام 1991، اتخذ البلدان خطوات لتسوية الخلافات الحدودية التي يعود بعضها للقرن الـ19. ووقعتا معاهدتين ثنائيتين لترسيم حدودهما عامي 1999 و2000. ولا يوجد ما يشير إلى أن الصين لديها أية نية لمحاولة إعادة التفاوض حول هذه الاتفاقات السابقة مع فيتنام أو التنصل منها. في الواقع، وعلى رغم الخلافات في بحر الصين الجنوبي، فإن العلاقات الصينية- الفيتنامية تحسنت: فشاركت قوات الجيش الصيني حديثاً ضمن عرضين عسكريين في فيتنام، أقيما في أبريل (نيسان) وسبتمبر الماضيين.

وعلى رغم أن الصين بنت بصورة نشطة مواقع عسكرية على جزر في بحر الصين الجنوبي واستعرضت قوتها ضد جيرانها الأصغر في جنوب شرق آسيا، فإنها ليست السبب الوحيد ولا الحل الوحيد للنزاعات الحدودية في بحر الصين الجنوبي. لكن التنمر الصيني، أو أية مشاريع لاستصلاح الجزر تنفذها دولة أخرى في المنطقة، لا تمثل محاولة لتهديد وجود دولة أخرى. فالموضوع محل النقاش هو نزاعات تاريخية ستتطلب دبلوماسية ماهرة لحلها. ولن تتخلى الصين عن مطالبها، لكنها ربما تكون مستعدة للتسوية في إدارة الموارد المشتركة [المشاعات]. والأهم من ذلك، أن المقاربة الصينية لحل النزاعات من المستبعد أن تقودها المؤسسة العسكرية.

التهديد الحقيقي

نظراً إلى أن واشنطن أساءت فهم ما تريده الصين، فإن السياسة الأميركية تجاه بكين انحرفت عن مسارها الصحيح. فالسياسات الحالية التي تهدف إلى عزل الصين دبلوماسياً واقتصادياً، والانسحاب الأميركي من المؤسسات الاقتصادية المتعددة الأطراف مثل الشراكة عبر المحيط الهادئ والشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، مصممين لمواجهة قوة تعديلية تسعى إلى إزاحة الولايات المتحدة والتصرف بعدوانية لتوسيع أراضيها. لكن هذه السياسات لن تكون فاعلة في التفاعل مع دولة تركز بدرجة أكبر على الحفاظ على الوضع القائم وضمان استقرارها الداخلي. وينبغي على صناع السياسة الأميركيين أن ينظروا إلى الصين ليس على أنها تهديد خطر، بل على أنها منافس طبيعي. فالمنافسة الصحية في مجالات التكنولوجيا والأعمال وحتى التعليم يمكن أن تكون مفيدة للطرفين من دون إثارة ردود أفعال قائمة على الخوف، تنبع من النظر إلى الطرف الآخر باعتباره تهديداً وجودياً.

وهذا يعني أن تعزيز الوجود العسكري الأميركي في المحيط الهادئ غير ضروري ويأتي بنتائج عكسية. فالسياسة العدوانية القائمة على القوة العسكرية أولاً تجاه الصين وبقية شرق آسيا تهدر الموارد في التحضير لسيناريوهات يستبعد حدوثها، مما يضعف القوة العسكرية الأميركية على المدى الطويل. كما أنها تزيد من احتمال تصاعد التوتر مع الصين بدلاً من خفضه. ومن الممكن تماماً طمأنة الحلفاء والحفاظ على وجود عسكري في المحيط الهادئ وضمان الأمن الأميركي من دون الحاجة إلى وجود عسكري ضخم في المنطقة.

أما محاولة استخدام القوة لتحديد مستقبل وضع تايوان، فهي خطأ أكبر. وبما أن مطالب الصين في شأن تايوان ذات طبيعة أيديولوجية وتاريخية وليست استراتيجية بحتة، فإن محاولة الردع من المرجح أن تؤدي إلى استفزاز. وينبغي أن يكون الهدف هو الحفاظ على الوضع القائم الذي أثبت نجاحه خلال العقود الأربعة الماضية. لذا، يمكن لصانعي السياسات الأميركيين اتباع النهج ذاته الذي اتبعه جورج دبليو بوش وغيره من الرؤساء، وهو التأكيد بقوة للصين أن التغيير الأحادي الجانب للوضع القائم في تايوان سيكون أمراً غير مقبول، وهو السبيل الأكثر فاعلية لضمان استمرار الوضع القائم. إن الصين واضحة في أنها لن تساوم على قضية تايوان، لكن خطها الأحمر الأساس هو استقلال تايوان. وأية خطوات يمكن أن تتخذها الولايات المتحدة لطمأنة بكين في هذا الشأن تظهر احتراماً لمصالح الصين الجوهرية الواضحة وتزيد من احتمال الحفاظ على الوضع القائم لفترة أطول.

ويذكر أن التركيز على الحرب يضر أكثر مما ينفع لأن القضايا الرئيسة ليست عسكرية بطبيعتها. فالشركات الأميركية غالباً ما تجد صعوبة في التعامل مع نظيراتها الصينية، والحكومة الصينية قد تكون متسلطة وعنيدة، والمصالح الأميركية والصينية لا تتوافق في كثير من القضايا المحورية. لكن هذا أمر طبيعي في السياسة الدولية، والقضايا المطروحة هي مكونات أساسية للمنافسة الصحية. والاعتماد على الدبلوماسية بدلاً من استعراض القوة العسكرية يمكن أن يقلل من حدة التوتر ويحل المشكلات العالمية. لدى الولايات المتحدة والصين مجال للتعاون في التحول الطاقي وحماية البيئة ومنع الجائحة التالية، على سبيل المثال لا الحصر. ولا يمكن حل أي من هذه القضايا العالمية من خلال استخدام الولايات المتحدة لنهج قائم على القوة العسكرية أولاً.

وإن التعامل الفاعل مع الصين يتطلب فهمها على حقيقتها، وليس وفق الصورة التي تخيلها صانعو القرار الأميركيون في كلا الحزبين وتعاملوا معها باعتبارها واقعاً. إن دراسة ما تريده الصين وإدراك أن أهدافها أقل توسعية وعدائية وتهديداً للمصالح الأميركية مما يعتقده معظم صناع السياسة، ليس ضرباً من الخيال ولا انحيازاً مجحفاً. فالصين تعلن للعالم، ولنفسها، ما تطمح إليه. وإذا كانت واشنطن تريد التعامل مع الصين بفاعلية، فسيكون من الأفضل لها أن تصغي.

 

ديفيد كانغ هو أستاذ في كرسي ماريا كرتشر للعلاقات الدولية في جامعة جنوب كاليفورنيا.

جاكي وونغ هو أستاذ مساعد في العلوم السياسية في الجامعة الأميركية بالشارقة.

زنوبيا تشان هي أستاذة مساعدة في قسم الشؤون الحكومية بجامعة جورج تاون.

مترجم عن "فورين أفيرز"، 19 سبتمبر (أيلول) 2025

اقرأ المزيد

المزيد من آراء