ملخص
على أثير "فيسبوك"، يكاد يسمع صوت الشهيق العميق لكثير تنفسوا الصعداء، البعض اكتفى بحمد السماء وتثمين الجهود التي بذلت من أجل الوصول لاتفاق مبدئي أو مرحلي "للسلام"، آخرون أطلقوا العنان لما وراء الحمد والتثمين، يمكن القول إن شوقاً أو توقاً جماعياً في الشارع المصري لفرحة أو نصرة أو نقطة ضوء ظل متصاعداً، لكن حبيس الصدور لفترة، وهو ما تبلور في ما جاء من شرم الشيخ من أخبار.
درجة الحرارة في شرم الشيخ تتأرجح بين 30 و32 درجة مئوية، قد لا تكون الدرجة المثالية المرجوة والمتراوحة بين 22 و24 درجة مئوية، وعلى رغم ذلك فإن قاعدة عريضة من المصريين تشعر بأن هواء "شرم"، كما يسمونها اختصاراً، ينعشهم ويسعدهم.
الأخبار القادمة من شرم الشيخ، الملقبة بـ"مدينة السلام"، أضفت حالاً من البهجة والتفاؤل في الشارع المصري، وكما غرّد أحدهم، "تشعر وكأنّ الوجوه الواجمة والملامح المثقلة بالهموم قد ابتهجت فجأة دون سابق إنذار".
ما جرى التوصّل إليه في شرم الشيخ من اتفاق سلام مبدئي، أو مرحلة أولى من مراحل تهدئة الحرب المستعرة على مدار عامين، ولو بوقف إطلاق النار حالياً، أضفى هالة ولو موقتة من الراحة على الكوكب، وعلى اعتبار أن مصر جزء من الكوكب، فقد انعكست هذه الهالة على وجوه المصريين بكل طبقاتهم وفئاتهم، وبينهم من يسأل من حوله إذا كان ما يشعر به فجأة من مقدار بهجة "خير اللهم اجعله خيراً"، وبعض من تفاؤل "وربنا يستر"، ومعيار من سعادة "اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمك"، هو شعور يشعره به وحده، أم أن هناك من يشاركه الأمر؟!.
حالة نفسية
السؤال بقدر عفويته وعلى رغم طرافته وكذلك غرابته، لكنه يلخص حالاً عامة بين المصريين منذ جرى الإعلان عن التوصل إلى اتفاق أولي أو مبدئي أو مرحلي لوقف إطلاق النار في غزة، وهو الإعلان الذي يواكبه قدر كبير من الإشارة والإشادة بالموقف العربي الموحد والذكي والصارم، وكذلك أداء أجهزة الاستخبارات المصرية.
يرتبط المصريون بجهاز الاستخبارات أو "المخابرات"، كما يسمونها، بعلاقة تشبه طبيعة الجهاز، غموض لذيذ مع جاذبية، ورهبة لا تخلو من هيبة، وأسئلة أكثر من الإجابات، ولأن الإفصاح عن أدوارها، وتسليط الأضواء على شخوصها من الأمور القليلة جداً، إن لم تكن النادرة، فقد جاءت موجة الأضواء الساطعة، والإشارات الواضحة، والنعوت المباشرة التي انتشرت على أثير الـ"سوشيال ميديا"، وكذلك الإعلام التقليدي من شاشات تلفزيونية وإلكترونية وغيرها، لتوقظ مشاعر كانت خاملة، وتستنهض همماً خيل لأصحابها أنها تبخرت في هموم الاقتصاد وغيوم الصراعات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الصراع أو بالأحرى الحرب التي ظلت دائرة على مدار عامين كاملين على بوابة مصر الشرقية ألقت بظلال ثقيلة وخيمة على قلوب المصريين وعقولهم، المثقلة أصلاً بأوجاع اقتصادية مريرة، لا تلبث أن يظهر ضوء في نهاية نفقها، حتى يضرب الكوكب من جديد وباء عالمي، أو حرب في أوكرانيا، أو حلقة دامية من حلقات الصراع الفلسطيني.
ولأن الاقتصاد يرتبط بالحالة النفسية والعصبية للبشر ارتبطاً طردياً، إذ يتحسّن الأداء ويتحقق النمو والازدهار، فتتعافى النفسية وتتحسن الحالة العصبية، والعكس صحيح، فقد تسبب هذا "العكس" في الكثير من ملامح الوجوم ومعالم العبوس. وعلى رغم عدم وجود دراسات علمية حديثة عن الحالة النفسية للمصريين، فإن رؤى العين معضدة بأدبيات ما يجري في الدول التي تتعرض لهزات سياسية شديدة (مثل أحداث يناير 2011) وتغيرات اقتصادية عنيفة، تشي بأن الحالة النفسية للقاعدة العريضة لم تكن بخير.
بحسب نتائج بحث ميداني أجراه "مسح القيم العالمي"، برنامج بحثي متخصص لدراسة القيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والثقافية في مختلف الدول، بين عامي 2017 و2020، ظهر أنه على رغم شعور غالبية المستطلعة آراؤهم بالأمن والأمان، فإن مشاعر القلق والخوف الناجمة عن الأوضاع الاقتصادية الصعبة تسيطر على الأكثرية، بدرجات متفاوتة.
ربع المشاركين في المسح قالوا إنهم يعانون أعراضاً نفسية نتيجة القلق، ورجح سبعة في المئة أن هذه الاضطرابات غالباً تحتاج إلى علاج نفسي، وعلى رغم أن النتائج ليست مفزعة، مقارنة بالنسب العالمية، فإن رؤى العين لمن يعرف المصريين ظلت تشير إلى تأثر الحالة النفسية للقاعدة العريضة سلباً، على رغم المعرفة بأن جانباً من الإجراءات الاقتصادية الصعبة هي أقرب ما يكون إلى الدواء الشديد المرارة.
مرارة الاقتصاد وانغماس كل من الدولة والمواطنين في محاولات إما التخفيف عن كواهل الناس قدر المستطاع، أو الخروج بحلول سواء ترشيدية أو تضييقية لتقليص الأوجاع، أغفلا العامل النفسي.
الكاتب الصحافي عادل السنهوري نبه إلى الوجع النفسي للمصريين، في مقال عنوانه "إستراتيجية الاقتصاد والتأثير النفسي والاجتماعي على المصريين" (2024)، تطرق إلى أهمية "التنبه إلى الأبعاد الاجتماعية والنفسية للتوجهات الاقتصادية الجديدة على المصريين، أو بصورة مبسطة، التأثيرات السلبية للجوانب الاقتصادية في المجتمع المصري وعاداته وتقاليده، وأيضاً التأثيرات النفسية في الأفراد والأسر داخل المجتمع".
وأضاف السنهوري أنه "لا يخفى على أحد ما أصاب المجتمع المصري من آثار اجتماعية سيئة نتيجة التضخم في الأعوام القليلة الماضية، والآثار السلبية على البناء والتماسك الاجتماعي والعلاقات الإنسانية والاجتماعية"، معتبراً ذلك الخطر الحقيقي الذي يهدد المجتمع، ويؤثر بقوة سلباً في نوعية الحياة".
وأشار الكاتب إلى دراسة أجرتها كلية الآداب في جامعة المنوفية عن انعكاس معدلات التضخم المرتفعة على المصريين، وكيف أن عدم القدرة على الوفاء بمتطلبات الحياة، وانعدام القدرة على التخطيط للمستقبل أدت إلى مصاعب اجتماعية ونفسية، وتغيرات عدة في التصرفات والأخلاق، وهو ما يدق صافرة إنذار في ما يختص بالأمن الاجتماعي والنفسي للمصريين.
استعادة العافية
الغريب والمدهش أن هذا الأمن النفسي الذي تعرض لهزات عنيفة، وشهد تدهورات شديدة ظهرت آثارها واضحة على وجوه كثر، وتصرفاتهم، بل وانعكس على الحس الساخر المصري الفطري المحتفظ بتفرده، لكن أضيف إليه مكون مرارة مركز، بدا منذ تواتر الأخبار من شرم الشيخ وكأنه استعاد جانباً معتبراً من عافيته.
حتى لو كانت الاستعادة موقتة، أو واقعة تحت تأثير نشوة الاتفاق، أو غبطة وقف إطلاق النار، تبقى الحقيقة المرئية بالعين المجردة هي أن الهواء القادم من شرم الشيخ أثلج صدور المصريين.
كثر يجتهدون في محاولات لتفسير نسمة هواء شرم التي عرفت طريقها إلى الشارع المصري، بمن فيهم الجزء غير المهتم بالسياسة كثيراً أو قليلاً.
كتاب فسروا النسمة في ضوء غبار أعوام طاول المدينة وأثر في الجميع، أو من منطلق اعتبارها نصراً عربياً ومصرياً استخباراتياً أو دبلوماسياً أو سياسياً أو حتى جغرافياً، أثلج الصدور وخفف الثقل عن رئات أثقلتها غيوم أعوام ما بعد "الربيع"، وشجون ما قبل التعويم والتحرير (الأسعار).
وخارج دوائر الكتاب والمحللين، وجهود تفكيك عناصر الاتفاق وتفنيد بنود المرحلة، وما يعنيه ذلك سياسياً واستخباراتياً وإستراتيجياً، يتحدث "الشيخ"، وهو لقب حصل عليه بائع الفرن في حي النزهة عقب إطلاق لحيته، عن قدرته الفجائية على التنفس بخفة وراحة منذ أخبره البعض أن "إخوتنا في غزة بدأوا في العودة إلى بيوتهم بعد ما ربنا سهلها في شرم الشيخ".
"الشيخ" يعرف أن شرم الشيخ منتجع سياحي، كان يظنه في شمال سيناء، لكن زبائن الفرن أخبروه أنها في الجنوب، فقال "شمال، جنوب، لا يهم، المهم أن إخوتنا في غزة ستحقن دماؤهم وأن الخبر الحلو طلع من شرم".
"طلوع" الخبر الحلو بالتأكيد أسعد قلوباً كثيرة، لأسباب تتعلق بغزة وأهلها بالطبع، لكن أيضاً لعوامل نفسية محلية صميمة.
على أثير "فيسبوك"، يكاد يسمع صوت الشهيق العميق لكثير تنفسوا الصعداء، البعض اكتفى بحمد السماء وتثمين الجهود التي بذلت من أجل الوصول لاتفاق مبدئي أو مرحلي "للسلام"، آخرون أطلقوا العنان لما وراء الحمد والتثمين، يمكن القول إن شوقاً أو توقاً جماعياً في الشارع المصري لفرحة أو نصرة أو نقطة ضوء ظل متصاعداً، لكن حبيس الصدور لفترة، وهو ما تبلور في ما جاء من شرم الشيخ من أخبار.
اللافت أن هذه البلورة لم تتأثر كثيراً بما يقال في الإعلام الرسمي، أو تشوبها شبهة توجيه من هنا أو تشكيل من هناك، الفرحة طبيعية، والبهجة عضوية بلا تدخلات صناعية، أو نكهات صناعية، أو حتى هندسة للمشاعر سياسياً أو إستراتيجياً أو عنكبوتياً.
تظل الشبكة العنكبوتية مرتعاً لكتائب الرأي ولجان الرأي الآخر، لكنها أيضاً مليئة بنوافذ تطل منها مشاعر المستخدمين وتقلبات الأهواء، ناهيك بكونها ترمومتراً يقيس درجة حرارة تقديرية لمشاعر القلق وكذلك ملامح الفرح.
لا يزال البعض يدخل في نقاشات جانبية حول إذا ما كانت "حماس" انتصرت أو انهزمت، وإذا كان السابع من أكتوبر نعمة أم نقمة على القضية، لكنها تظل في الهوامش، ويهيمن على المتن شعور بالراحة، ولو كان موقتاً، وإحساس بالبهجة، شبهها أحدهم بـ"إعادة شحن البطارية المنهكة".