ملخص
لم تنتظر بكين حلول موعد سريان فرض الرسوم، إذ أعلنت وزارة النقل الصينية اليوم الجمعة فرض رسوم إضافية على السفن الأميركية، سواء كانت مملوكة أو مشغلة من شركات وأفراد أميركيين، أو رافعة للعلم الأميركي.
تفتح الولايات المتحدة والصين فصلاً جديداً من حربهما الاقتصادية، لكن هذه المرة من بوابة الموانئ والممرات البحرية، في مواجهة قد تعيد تشكيل خريطة الشحن العالمي عقوداً مقبلة.
فقد أعلنت واشنطن في أبريل (نيسان) الماضي فرض رسوم موانئ جديدة تستهدف السفن التي تملكها أو تشغلها كيانات صينية، أو تم بناؤها في أحواض صينية، على أن يبدأ تطبيقها في 14 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري.
وتأتي الخطوة في إطار استراتيجية أميركية "لحماية صناعة السفن الوطنية" وتقليص الهيمنة الصينية المتنامية على النقل البحري.
ووفقاً لتقديرات أولية، قد تصل الرسوم إلى نحو مليون دولار للسفينة الواحدة التي تحمل أكثر من 10 آلاف حاوية، مع زيادات تدرجية حتى عام 2028، مما يجعلها أحد أكثر الإجراءات البحرية كلفة في تاريخ التجارة الحديثة.
رد صيني... "رسوم مضادة"
لم تنتظر بكين حلول موعد سريان فرض الرسوم، إذ أعلنت وزارة النقل الصينية أمس الجمعة فرض رسوم إضافية على السفن الأميركية، سواء كانت مملوكة أو مشغلة من شركات وأفراد أميركيين، أو رافعة للعلم الأميركي، أو بنيت في أحواض أميركية، مؤكدة أن القرار "إجراء مضاد للرسوم الأميركية التمييزية". وقالت الوزارة إن هذه الرسوم ستطبق أيضاً في 14 أكتوبر الجاري، وهي تهدف إلى "حماية مصالح صناعة الشحن الصينية، التي تتعرض لمحاولات خنق ممنهجة"، معتبرة أن الخطوة الأميركية "تضر بالاستقرار في سلاسل الإمداد العالمية وتقوض قواعد التجارة الدولية".
سباق السيطرة على البحار
تأتي هذه المواجهة في وقت تسيطر فيه الصين على أكثر من 50 في المئة من صناعة السفن التجارية في العالم، بعدما انتزعت الصدارة من كوريا الجنوبية واليابان قبل نحو عقدين.
وفي عام 2024 وحده، بنت الصين أكثر من 1000 سفينة تجارية جديدة، مقابل أقل من 10 سفن فحسب في الولايات المتحدة، بحسب تقديرات قطاع الشحن العالمي.
بدأت ملامح الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة تتشكل بوضوح في منتصف العقد الماضي، عندما أدركت واشنطن أن الصعود الصيني لم يعد محصوراً في صادرات منخفضة الكلفة، بل يمتد إلى التكنولوجيا المتقدمة والطاقة المتجددة والصناعات الاستراتيجية.
ففي عام 2018، فرضت إدارة ترمب تعريفات ضخمة على الواردات الصينية بحجة "الممارسات التجارية غير العادلة" وسرقة الملكية الفكرية، لترد بكين برسوم مضادة على مئات السلع الزراعية والصناعية الأميركية، مما أدخل الاقتصادين الأكبرين في العالم في دوامة متصاعدة من الردود المتبادلة.
لكن خلال الأعوام التالية، توسعت المواجهة من نطاق السلع إلى المجالات التكنولوجية والمالية، إذ فرضت واشنطن قيوداً صارمة على صادرات أشباه الموصلات إلى الصين، وأدرجت شركات كبرى مثل "هواوي" و"SMIC" على قوائم الحظر، في المقابل، كثفت بكين استثماراتها في تطوير بدائل محلية وسلاسل توريد مستقلة عن الغرب.
واليوم، ومع انتقال النزاع إلى قطاع النقل البحري، يبدو أن الجانبين يخوضان مرحلة جديدة أكثر عمقاً، إذ لم يعد الصراع على "الأسواق" فحسب، بل على القدرة على التحكم في البنية التحتية العالمية التي تحرك التجارة نفسها من الموانئ إلى السفن، ومن الممرات البحرية إلى خطوط الإمداد الرقمية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى محللون أن الرسوم الأميركية ليست مجرد إجراء اقتصادي، بل تمثل تحركاً استراتيجياً لاستعادة النفوذ البحري الأميركي في مواجهة تمدد بكين في الممرات والموانئ الحيوية، ضمن تنافس أوسع يمتد من التكنولوجيا إلى الطاقة والفضاء.
ويشير متخصصو النقل الدولي إلى أن تصاعد "الحرب البحرية" قد يؤدي إلى ارتفاع كلف الشحن العالمية، مما سينعكس مباشرة على أسعار السلع والمواد الخام في النصف الأول من عام 2026، خصوصاً في ظل استمرار اضطرابات سلاسل الإمداد.
حرب تجارية لم تهدأ منذ 2018
يذكر التصعيد البحري الجديد ببدايات الحرب التجارية الكبرى بين البلدين في 2018، حين فرضت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في ولايته الأولى تعريفات جمركية على سلع صينية بقيمة أكثر من 360 مليار دولار، وردت بكين بإجراءات مماثلة على الواردات الأميركية.
وعلى رغم توقيع اتفاق "المرحلة الأولى" في 2020، فإن الحرب لم تتوقف فعلياً، بل توسعت إلى قطاعات التكنولوجيا وأشباه الموصلات والطاقة الخضراء، وصولاً اليوم إلى قطاع النقل البحري.
ويقول محللون إن هذه الحرب تحولت من نزاع تجاري محدود إلى صراع استراتيجي شامل، يهدف كل طرف فيه إلى تقليص اعتماد الآخر على موارده وأسواقه.
من سلاسل التوريد إلى سلاسل البحر
تعد خطوة واشنطن جزءاً من استراتيجية أوسع لإعادة توطين الصناعات الحساسة، وتقليل اعتمادها على البنية التحتية الصينية.
ويرى مراقبون أن فرض الرسوم البحرية يأتي بعد نجاح بكين في بناء شبكة نفوذ عالمية عبر مبادرة "الحزام والطريق"، تشمل عشرات الموانئ في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، مما أثار قلق الغرب من احتمال تحول هذه السيطرة الاقتصادية إلى نفوذ جيوسياسي مباشر.
ويقول أحد المحللين البحريين إن "الولايات المتحدة تدرك أن المعركة المقبلة ليست على الأسعار، بل على الممرات"، مضيفاً أن "التحكم في البحر أصبح امتداداً للتحكم في الاقتصاد الرقمي والتكنولوجي".
قمة مرتقبة... واحتمالات التصعيد
من المقرر أن يلتقي الرئيسان دونالد ترمب وشي جينبينغ خلال منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ "أبيك" في كوريا الجنوبية نهاية أكتوبر الجاري، وسط آمال بتخفيف التوتر، لكن المراقبين يستبعدون أي انفراج كبير، إذ يعتبر كثر أن التصعيد الحالي يعكس تحولاً بنيوياً في طبيعة المنافسة بين القوتين، من "حرب الرسوم الجمركية" إلى "حرب سلاسل الإمداد والبحار".
في النهاية، ليست الرسوم الأميركية ولا حتى الرد الصيني مجرد نزاع حول موانئ أو ناقلات فحسب، بل معركة على قواعد اللعبة الاقتصادية في القرن الـ21.
فبينما تسعى واشنطن إلى إحياء صناعة بناء السفن كرمز لاستقلالها الصناعي، تمضي بكين في تثبيت أقدامها كقوة بحرية وتجارية عظمى.
ومع اشتداد "حرب الموانئ" يبدو أن أمواج الاقتصاد العالمي مقبلة على اضطرابات جديدة، ستطاول سلاسل الإمداد والأسعار وحتى موازين القوى الدولية.