ملخص
على رغم اعتقاد معظم المعنيين في إيران بالأحداث التي شهدها مسار التفاوض بين واشنطن وطهران بأن الأمور وصلت إلى طريق مسدود في ظل الشروط الأميركية المرتفعة والشروط الإيرانية المقابلة، فإن لا أحد في إيران يملك يقيناً واضحاً أو رؤية واضحة حول إمكان استئناف المفاوضات حول الملف النووي، تساعد في كسر الجمود القائم أو إمكان فتح نافذة تسمح بالعودة لطاولة التفاوض ما لم يحصل تطور مفاجئ ودراماتيكي يقلب المعادلات القائمة بصورة كبيرة وجذرية.
التقارن الحاصل بين انطلاق المسار التفاوضي الذي فرضه الرئيس الأميركي دونالد ترمب لأنهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وبين الدفع الأميركي أيضاً، لإعادة تفعيل عقوبات مجلس الأمن الدولي ضد إيران باستخدام ذراع الـ "ترويكا" الأوروبية، ويعني هذا التقارن أن البيت الأبيض انتقل إلى مرحلة الحسم في الملفات التي تؤخر تحقيق المخططات التي يسعى إلى إرسائها في الشرق الأوسط.
وإذا ما كان الرئيس الأميركي قد أبدى رغبة واضحة خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإعلان مبادرته للحل في قطاع غزة، بتعاون إيران وعدم عرقلة المسار التفاوضي لإنهاء هذه الحرب، فإن طهران والقوى التي تدور بفلكها في الإقليم قد أبدت نوعاً من الإيجابية، ولم يصدر عنها أية مؤشرات واضحة لإمكان عرقلة هذا المسار الذي بدأ، بل أبدت نوعاً من التأييد لخيارات "حماس" في التفاوض والحل السياسي، مع دعم كامل للملاحظات التي وضعها حول عدد من نقاط المبادرة الأميركية.
وهذا الموقف الإيجابي نسبياً من إيران يعطي مؤشراً إلى حجم الإرباك الذي تعيشه دوائر القرار في إيران، وطبيعة التحديات التي ستواجهها خلال المرحلة المقبلة، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو العسكري، بخاصة أن تفعيل قرارات وعقوبات مجلس الأمن، تعبير واضح عن دخول الدبلوماسية الإيرانية في مرحلة دقيقة ومفصلية، وأن إيران دخلت في مرحلة جديدة من الانزواء الدولي وحتى الإقليمي أو في الأقل حال إعادة تعريف علاقاتها الدولية بناء على هذه المستجدات والتطورات.
وعلى رغم اعتقاد معظم المعنيين في إيران بالأحداث التي شهدها مسار التفاوض بين واشنطن وطهران بأن الأمور وصلت إلى طريق مسدود في ظل الشروط الأميركية المرتفعة والشروط الإيرانية المقابلة، فإن لا أحد في إيران يملك يقيناً واضحاً أو رؤية واضحة حول إمكان استئناف المفاوضات حول الملف النووي، تساعد في كسر الجمود القائم أو إمكان فتح نافذة تسمح بالعودة لطاولة التفاوض ما لم يحصل تطور مفاجئ ودراماتيكي يقلب المعادلات القائمة بصورة كبيرة وجذرية.
هذا الانسداد الناتج من التغيير في دور الوسيط الأوروبي وسقوط رهانات طهران عليه في تدوير الزوايا في المواقف بينها وبين واشنطن، واتهام عواصم الـ "ترويكا" بنسف ما بقي من ثقة إيرانية بهذه العواصم واستبعادها من أي مفاوضات محتملة في المستقبل، ترافق مع تروٍ واضح يمارسه الرئيس الأميركي وإدارته المعنية بالملف الإيراني من إبداء أية إشارة أو رغبة حقيقية في العودة لطاولة التفاوض.
وفتح الباب أمام عودة الأصوات المعارضة لأي تفاوض مع واشنطن لمطالبة منظومة السلطة بحسم موقفها، وإعلان خياراتها باعتماد التحالف مع "الشرق"، من خلال تفعيل الاتفاقات الإستراتيجية مع الصين وروسيا، واستغلال عضويتها في التحالفات الإقليمية في منظمات مثل "إكو" و"شنغهاي" و"بريكس" و"أوراسيا" لتعطيل مفاعيل العقوبات الدولية والأميركية، بما يسمح للنظام التعامل مع أي حراك داخلي قد يقوم على خلفية الأزمات الاقتصادية.
الخيار الشرقي الذي بات متقدماً لدى الأوساط المحافظة والمعارضين للتفاوض مع أميركا، عبر عنه كثير من نواب البرلمان المحسوبين على الراديكاليين، وأن تفعيل عقوبات مجلس الأمن يشكل يوم إعلان فقدان الأمل التام من أميركا والغرب، وبداية للتحول الاقتصادي بالاعتماد على القدرات الداخلية وتعميق العلاقات مع الدول الشرقية والصديقة، من دون أن تطرح على أنفسها سؤالاً جوهرياً حول رغبة هذا الشرق وقدرته في التعاون الواسع مع إيران في ظل هذه العقوبات من عدمها، ولعل المؤشر على غياب قدرة هذه الدول أو غيرها في التعاون الاقتصادي مع إيران، ما أعلنته الحكومة التركية التزامها بعقوبات مجلس الأمن وقطع واراداتها من النفط والغاز الإيراني، ومن المتوقع أن يلجأ العراق إلى خطوة مماثلة استجابة للضغوط الأميركية وسعياً من بغداد إلى الابتعاد من دائرة العقوبات التي تهدد بها واشنطن، والتي لا تقتصر على التعاون الاقتصادي مع إيران، بل تشمل أيضاً الموقف من هيئة "الحشد الشعبي" باعتبارها ذراعاً عسكرية لإيران تهدد أمن واستقرار المنطقة وليس العراق فقط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي المقابل فإن الدبلوماسية الإيرانية، والتي لا تتحرك في هذه المرحلة من دون تنسيق خطواتها مع المجلس الأعلى للأمن القومي الذي يتولى رسم سياسات ومواقف الحكومة بعد عرضها على المرشد الأعلى وموافقته، تعمل في الخفاء وفي العلن من أجل إيجاد مخرج سياسي يسمح بعودة الحرارة لطاولة التفاوض، وهي في الوقت الذي تتمسك فيه بالسقف الذي رسمه المرشد في الملف النووي وحق إيران بالتخصيب على أراضيها، وليست على استعداد للتفاوض حول البرنامج الصاروخي، بخاصة في خفض مدياته الحربية، باعتبارها مسألة تخص وتمس الأمن القومي كما عبّر علي لاريجاني وأداة الدفاع والردع في مواجهة إسرائيل.
وعلى رغم كل الجهود التي بذلتها وتبذلها لتعويض نقاط الضعف في قدراتها الدفاعية، وعلى رغم كل الكلام حول التدفقات في الأسلحة التي تصل إلى طهران من روسيا والصين، من سلاح طيران ودفاع جوي واتصالات ورادارات، لكن القيادة الإيرانية بكل المستويات السياسية والأمنية والعسكرية، لا تريد الوصول إلى نقطة تسمح بتكرار المواجهة التي حصلت في شهر يونيو (حزيران) الماضي، لقناعتها بأن امتلاك الإمكانات العسكرية والقدرة على الرد، لا تعني أن المجتمع الإيراني الذي أبدى تضامناً في مواجهة الهجوم الأميركي - الإسرائيلي السابق، سيكون قادراً على تحمل واستيعاب تداعيات الضربة الجديدة أو أي تصعيد آخر.
ومن هنا يمكن فهم الرسالة التي وجهها وزير الخارجية عباس عراقجي إلى الرئيس الأميركي ترمب، عندما ذكره بالتقدم الذي تحقق في الجولة الخامسة من المفاوضات، وأنه لو استمع إلى المناقشات التي حصلت بين الوفدين الإيراني والأميركي، لكان الجميع اليوم يحتفلون بتوقيع اتفاق فيه مصلحة الطرفين.
هذه الإشارة أو الرسالة قد تشكل منطلقاً لإعادة تنشيط الجهود من أجل العودة للتفاوض، والذي باتت طهران مقتنعة بضرورة أن يكون مباشراً، بخاصة إذا ما استطاعت تدوير زوايا شروطها وإقناع المفاوض الأميركي بتدوير زوايا شروطه أيضاً، لتسمح بالعودة لطاولة التفاوض والبناء على ما وصلت إليه آخر جولة تفاوض غير مباشر من نتائج كأساس لاتفاق يبعد الجميع والمنطقة عن خطر مواجهة عسكرية جديدة.