Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف احتكرت إسرائيل رواية 7 أكتوبر على الشاشة؟

غياب الدراما لمصلحة الأفلام الوثائقية وتفوق تل أبيب في ترويج حكايتها غربياً

من فيلم "لا أرض أخرى" (مواقع التواصل)

ملخص

إسرائيل، التي خبرت طويلاً معنى السيطرة على "القصة الأولى"، أدركت أنّ من يملك اللحظة الأولى يملك التاريخ لاحقاً، استعانت بأذرعها الإعلامية ومؤسساتها الثقافية وشبكات نفوذها في الغرب، لتصوغ خطاباً بصرياً متماسكاً يقدّمها كضحية مطلقة في مواجهة "وحش فلسطيني".

منذ الساعات الأولى لعملية السابع من أكتوبر 2023، لم تكن الحرب في غزة حرباً بالسلاح وحده، بل حرباً على الوعي أيضاً.

في اليوم نفسه الذي كانت فيه الدبابات الإسرائيلية تتحرك نحو الجنوب، كانت كاميرات الإعلام العالمي تُدار في الاتجاه ذاته، لتصنع صورة واحدة للحدث قبل أن يُفهم أو يُروى، خلال أيام قليلة، كانت رواية إسرائيل عن "اغتصاب النساء وقطع الرؤوس وحرق الأطفال" قد غزت الشاشات الغربية الكبرى من دون تمحيص، متحوّلة إلى ما يشبه العقيدة البصرية التي أسست لأوسع حملة تضامن مع إسرائيل منذ عقود، لم تحتج هذه السردية إلى أدلة دامغة بقدر ما احتاجت إلى صور صادمة وشهادات متقطعة ودموع جاهزة أمام الكاميرا.

هكذا تحوّلت المأساة إلى فيلم متكامل العناصر، مكتمل التأثير، قبل أن تكتمل وقائعه.

 

 

لم يكن الأمر صدفة ولا عفوياً، فإسرائيل، التي خبرت طويلاً معنى السيطرة على "القصة الأولى"، أدركت أنّ من يملك اللحظة الأولى يملك التاريخ لاحقاً، واستعانت بأذرعها الإعلامية ومؤسساتها الثقافية وشبكات نفوذها في الغرب، لتصوغ خطاباً بصرياً متماسكاً يقدّمها كضحية مطلقة في مواجهة "وحش فلسطيني".

وبفعل تراكم القوة الناعمة، من هوليوود إلى الصحافة الغربية مروراً بالمؤسسات الأكاديمية، وجدت هذه الرواية طريقها السريع إلى الوعي العالمي، حيث لم يُترك مجال للتشكيك أو المقارنة أو حتى الإنصات إلى الصوت الفلسطيني.

غياب

في المقابل، كانت الرواية العربية، والفلسطينية خاصة، غائبة أو محاصرة، فبينما تحوّل الجنود الإسرائيليون والناجون من المهرجانات إلى أبطال أفلام وثائقية تُعرض على المنصات العالمية، ظلّ الفلسطينيون في لقطات مبعثرة أو محجوبة أو مشكوك فيها.

ومع توالي الإنتاجات الوثائقية الإسرائيلية المدعومة من مؤسسات إعلامية كبرى، ترسّخ الانطباع بأن ما جرى في السابع من أكتوبر هو مأساة إسرائيلية خالصة، بينما تحوّلت غزة، في التغطية الغربية، إلى خلفية ضبابية لا أسماء فيها ولا وجوه.

هكذا، انتصرت إسرائيل في معركة الصورة قبل أن تنتهي معركة الميدان، وما كان يُفترض أن يكون حدثاً مفتوحاً على تعدد القراءات، أُغلق سريعاً تحت سطوة "الرواية الرسمية" المدعومة بفيلم ووثيقة وشهادة ودمعة.

في هذا السياق، يصبح غياب الدراما العربية والفلسطينية ليس مجرد تقصير فني، بل هزيمة رمزية في صراع الذاكرة والتمثيل، فحين لا تملك صورتك، لن يراك أحد كما أنت، بل كما يريد الآخر أن تكون.

أفلام وثائقية إسرائيلية

منذ الأيام الأولى بعد السابع من أكتوبر، اندفعت مؤسسات إسرائيلية وأجنبية إلى إنتاج أفلام وثائقية قصيرة ومتوسطة الطول، لتثبيت "رواية اللحظة"، من أبرز هذه الأعمال فيلم Nova الذي ركّز على مجزرة مهرجان الموسيقى في النقب، مستخدماً لقطات حقيقية التقطها الناجون بكاميرات هواتفهم والطائرات المسيّرة، بدا الفيلم كأنه شريط رعب حيّ، لكنه بقي ضمن منطق التوثيق المباشر للصدمة، مع حضور عاطفي كثيف لا يتيح مساحة للتساؤل أو المراجعة.

أما فيلم "سنرقص مجدداً" (We Will Dance Again) للمخرج ياريف موزر، الذي عرضته هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، فيعيد رواية الحدث من وجهة نظر الناجين حصراً.

 

 

جمع موزر شهادات ومقاطع مصوّرة من الهواتف وكاميرات المراقبة، ليصوغ منها بانوراما للذعر في الساعات الست الأولى من الهجوم، حيث يختبئ الشبان في الثلاجات والمراحيض ومكبات القمامة، وسط صرخات استغاثة لم تجد من يسمعها.

تأثير الفيلم شديد، لكنه أيضاً أحادي الصوت، إذ يغيب عنه أي سياق أو منظور موازٍ، مما يثير سؤالاً عن الموضوعية، خصوصاً في ضوء تحقيقات إسرائيلية لاحقة كشفت أنّ بعض روايات الاغتصاب التي رُوّجت حينها كانت محلّ تشكيك، وأنّ عدداً من الضحايا قُتلوا بنيران الطائرات الإسرائيلية نفسها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الفيلم الثالث "Screams Before Silence" (صرخات قبل الصمت) من إعداد شيريل ساندبرغ، المديرة التنفيذية السابقة لشركة ميتا، يركّز بدوره على شهادات نساء تعرضن لاعتداءات جنسية أثناء الهجوم، مقدّماً ما يشبه المحاكمة الإعلامية المفتوحة.

عبر مقابلات مع رهائن محررين وأطباء شرعيين ومسعفين، يسعى الفيلم إلى تثبيت فكرة استخدام "الجسد كسلاح حرب"، وعلى رغم قوته التوثيقية فإنه ينتمي إلى نمط سينما الاتهام أكثر مما ينتمي إلى الفن، إذ يتعامل مع الشهادة بوصفها أداة لإسناد سردية سياسية سابقة.

في السياق نفسه، يأتي فيلم "The Children of October 7" الذي يحاور أطفالاً إسرائيليين فقدوا ذويهم أو نجوا من الهجوم، مقدّماً صورة مكثفة عن "جيل الصدمة"، ويبدأ الفيلم بلقطة الطفل كفير بيباس، الذي اختطفته "حماس" وقُتل لاحقاً، ليمزج الضحك بالبكاء، ويجعل من الذاكرة الطفولية مدخلاً عاطفياً لتثبيت الحكاية الإسرائيلية عن المأساة، وبين المقابلات ومشاهد الأرشيف، يسود خطاب يُقدّم الأطفال كرمز للبراءة المهددة في مواجهة "وحشية الآخر".

أما فيلم "Bearing Witness to the October 7th Massacre" فيمثل نموذجاً أكثر وضوحاً للتوظيف السياسي، العمل تجميعي بالكامل، اعتمد على لقطات التقطها مقاتلو "حماس" بكاميراتهم ونشرتها وحدة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي.

عُرض الفيلم في جلسات مغلقة أمام دبلوماسيين وصحافيين، لا كمادة فنية بل كوثيقة اتهام رسمية، هدفها توجيه الرأي العام العالمي وحشد الدعم، وقد أثار عرضه جدلاً واسعاً بسبب قسوته البصرية، إذ يحوي مشاهد عنف حقيقية، دفعت بعض النقاد للتحذير من خطر تحوّله إلى أداة دعائية تحت غطاء "الواقعية المفرطة".

 

 

في مقابل هذا التوجه الوثائقي الإسرائيلي المكثف، حاولت بعض الأعمال تقديم مقاربة أكثر تأملية، كما في فيلم "Of Dogs and Men" للمخرج داني روزنبرغ، الذي يجمع بين الوثائقي والدرامي. عُرض الفيلم في مهرجان البندقية عام 2024، وتدور قصته حول الفتاة أفينوعام التي تعود إلى كيبوتس نير عوز بعد الهجوم، باحثة عن كلبتها المفقودة ووالدتها المختطفة.

من خلال الأحلام والمحادثات، يتقاطع الواقع بالخيال في محاولة لتضميد الجرح، هذا العمل على رغم جذوره الإسرائيلية، يقترب أكثر من فكرة الدراما العلاجية التي تحاول استعادة المعنى وسط الفقد.

في سياق متصل، بات فيلم وثائقي عن جندي إسرائيلي سابق، محوراً جديداً للانقسام في هوليوود بشأن حرب غزة. ويتتبع فيلم "ذي رود بيتوين آس: ذي ألتيمايت ريسكيو" The Road Between Us: The Ultimate Rescue، الذي عرض في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي، كيفية إنقاذ الجنرال الإسرائيلي المتقاعد نعوم تيبون عائلته وآخرين خلال هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. ويستخدم الفيلم الذي أنتج في كندا، لقطات من الكاميرات التي كانت مثبتة على أجسام عناصر "حماس".

ويروي كيفية توجه الجنرال تيبون "من تل أبيب إلى كيبوتس ناحال عوز في محاولة لإنقاذ نجله"، وهو صحافي شهير، وأفراد آخرين من عائلته. ونُفذ توليف الفيلم وفقاً لما هو متبع في أفلام التشويق، ويذكر بفيلم الحركة "تايكن"Taken  من بطولة ليام نيسون. وقال المخرج باري أفريتش لموقع مجلة "هوليوود ريبورتر" إنه "ليس فيلماً سياسياً في الواقع. إنه مغلّف بعلم عائلة، وليس بعلم دولة".

الرواية الفلسطينية

لكن المشهد لا يقتصر على إسرائيل وحدها، فهناك أيضاً محاولات أوروبية وفلسطينية لتقديم وجهة نظر مختلفة، من بين أبرزها الفيلم الفرنسي "يلا غزة" (Yalla Gaza) للمخرج رولان نورييه الذي يقدّم غزة من الداخل، كمدينة للحياة على رغم الموت، ويروي قصة الفلسطينيين عبر لغات عدة.

في المقابل، جاء الفيلم الفلسطيني القصير "برتقالة من يافا" لمحمد المغني كرحلة رمزية عن العبور والمقاومة اليومية، حيث يتحول البرتقال إلى استعارة عن الذاكرة والهوية الفلسطينية المفقودة، يقدم العمل واقعية مؤلمة من دون مبالغة في الرمزية، ليعيد ربط الفلسطيني بأرضه كجسد يعيش الانقسام بين الحدود والمنفى.

وفي خطّ توثيقي آخر، يتناول فيلم "فلسطين الراقصة" محو التراث الفلسطيني من خلال قصة رقصة الدبكة، بوصفها جزءاً من الذاكرة الجماعية التي تحاول إسرائيل طمسها.

الفيلم لا يكتفي بالبحث التاريخي، بل يقدّم أيضاً قصص شباب فلسطينيين يصرّون على استمرار الرقص كفعل مقاومة ثقافية.

 

 

أما مشروع "من المسافة صفر" الذي أطلقه المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي بعد السابع من أكتوبر، فهو تجربة سينمائية جماعية تتكوّن من 22 فيلماً قصيراً لمخرجين ومخرجات فلسطينيين، تتراوح أطوالها بين ثلاث وست دقائق.

هذه الأفلام توثّق الحياة اليومية تحت القصف والتهجير، من خلال عيون من يعيشونها، لتعيد الاعتبار لفكرة "السينما من الداخل"، حيث لا مسافة بين الكاميرا والدم.

وفي الاتجاه ذاته، يبرز فيلم "لا أرض أخرى" للمخرجين باسل عدرا وحمدان بلال ويوفال إبراهيم وراحيل تسور، وهو إنتاج فلسطيني–نرويجي مشترك، يتتبع نضال سكان مسافر يطا ضد التهجير الإسرائيلي. العمل الذي حاز جائزتين في مهرجان برلين 2024، يجمع بين التسجيل الحيّ والمونتاج الوثائقي، ليصنع مرثية عن الأرض والهوية، ويقدّم نموذجاً نادراً لتعاون فلسطيني–إسرائيلي مضاد للسلطة الرسمية.

وفي قلب هذا المشهد، يأتي فيلم "صوت هند رجب" للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، الذي خطف قلوب الجمهور في مهرجان فينيسيا الأخير.

الفيلم مبني على تسجيل صوتي حقيقي للطفلة الفلسطينية هند رجب التي كانت تناشد فرق الإسعاف لإنقاذها بعد مقتل عائلتها في غزة، بعد 12 يوماً، وُجدت جثتها

يحوّل الفيلم ذلك الصوت القصير إلى صرخة سينمائية ضد الصمت، بدعم من أسماء كبرى في هوليوود مثل براد بيت وخواكين فينيكس وروني مارا، ليصبح العمل واحداً من أكثر الأفلام الإنسانية تأثيراً في عام 2025.

أين الدراما؟

وعلى رغم كل هذه الإنتاجات الوثائقية، تبقى الدراما الغائبة هي العنوان الأبرز لما بعد السابع من أكتوبر، فالعالم شاهد صوراً، لكنه لم يشاهد حياة، لم يرَ ما وراء المأساة سوى المأساة نفسها.

في وقت تحوّلت فيه إسرائيل إلى ماكينة توثيق لا تهدأ، استعادت فيها الدولة والمجتمع ووسائل الإعلام دور "الراوي المركزي" الذي يكتب التاريخ على الهواء، كانت المنطقة العربية، بما فيها فلسطين، تعيش فراغاً بصرياً خانقاً، لم تُنتج دراما واحدة تجرؤ على مقاربة الحدث بمعناه المركّب، بل ظلت الكاميرا معلّقة بين الخوف والرقابة والعجز.

 

 

هذا الغياب ليس مجرد مسألة إنتاجية أو مالية، إنه فراغ في الخيال، لأن الدراما لا تُصنع فقط بالكاميرات بل بالقدرة على تحويل الحدث إلى سؤال.

بينما هرعت إسرائيل لتصوير الجرح، انشغل الآخرون بتضميده، وبين الفعل والتفاعل، فقد العرب لحظتهم السينمائية، تلك اللحظة التي تصنع الفرق بين من يملك الصورة ومن يصبح جزءاً منها، بين من يكتب الرواية ومن يُروى عنه.

تاريخياً، كانت الدراما هي الفضاء الذي يعيد الإنسانية حتى للأعداء، لأنها تمنح الجميع وجهاً وصوتاً وسردية شخصية، لكنها اليوم تحوّلت إلى أداة في معركة إعلامية، تُستخدم لتثبيت مواقف سياسية لا لاكتشاف المعنى.

في المشهد الحالي، لم تعد الكاميرا تبحث عن الحقيقة، بل عن الإقناع، لم تعد تروي ما جرى، بل ما يجب أن يُصدَّق، وهنا يختفي الفن لحساب الوظيفة، ويُختزل الإنسان إلى مشهد، والحدث إلى عناوين، والذاكرة إلى شريط قصير على منصة رقمية.

الدراما الغائبة هي أيضاً دراما الوعي الغائب، ففي عالم تحكمه الصورة، يصبح من لا ينتج صورته مجرد ظلّ في شاشة الآخر.

إنّ احتكار إسرائيل للسرد البصري حول السابع من أكتوبر يعني أكثر من السيطرة على المشهد الإعلامي، إنه امتلاك الذاكرة الجمعية للعالم عن تلك اللحظة، وما دام الصوت العربي متردداً، والخيال الفلسطيني محاصراً، ستظل الذاكرة العالمية تنحاز إلى من قدّم الحكاية أولاً، لا إلى من عاشها فعلاً.

الفن، في جوهره ليس أداة لتبرئة أحد أو إدانة آخر، بل وسيلة لطرح الأسئلة التي تخاف السياسة من الإجابة عنها، لكن هذه الأسئلة لا يمكن أن تُطرح في غياب الدراما، لأنها الشكل الوحيد القادر على الجمع بين الوجدان والتحليل، بين الفردي والجماعي، بين الدم والحكاية، حين تغيب الدراما، يغيب الوعي، ويتحوّل التاريخ إلى نشرة أخبار طويلة بلا قلب.

لهذا، فإن الصراع اليوم لم يعد فقط على الأرض، بل على من يملك الصورة الأولى، من يصوغ الحكاية الأولى التي ستبقى في ذاكرة العالم، الدراما هي المعركة المؤجلة في هذا الصراع لأنها وحدها تستطيع أن تفكك الرعب إلى معنى، والدم إلى سرد، والحدث إلى ذاكرة تتجاوز السياسة، وكل ما عداها، مهما كان مؤلماً أو واقعياً، سيظل وثائقياً... أي محكوماً باللحظة، لا بالخلود.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما