ملخص
الانتصارات العسكرية لم تفتح الباب أمام مكاسب سياسية تحققها إسرائيل فيما ازدادت النقمة الدولية على ممارسات الاحتلال في غزة
عشية مرور عامين على اندلاع أطول حرب إسرائيلية- فلسطينية، وأكثرها كلفة من الناحية البشرية والإنسانية، تفتح الاتفاقية التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترمب باب أمل نحو، ليس فقط إنهاء هذه الحرب في إطارها المكاني في قطاع غزة، بل نحو إيجاد حل دائم وشامل للمشكلة الأصلية الأم، التي أدت وتؤدي إلى استمرار حال التوتر بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإلى اندلاع المواجهات المتكررة والحروب المتتالية، مما يؤثر، ليس فقط على البقعة الفلسطينية التاريخية، وإنما على إقليم المشرق العربي برمته.
بدايةً، لم يكن لخطة ترمب أن تولد وتتم الموافقة عليها من جانب الطرفين المتصارعين، إسرائيل و"حماس"، لولا توفر جملة من الشروط والظروف أبرزها ما أسفرت عنه حرب العامين نفسها من دمار وقتل في غزة، رداً على ما اعتبرته إسرائيل مساساً بوجودها، نتيجة هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وانتظام المنظومة الإقليمية الإيرانية المسلحة في ذلك الهجوم، عبر فتح جبهات إسناد من لبنان وسوريا والعراق واليمن.
لقد أدى هذا الهجوم المتزامن إلى تظهير جبهتين متصارعتين، جبهة إسرائيل التي قدمت نفسها ضحية لحرب تستهدف وجودها كدولة، فتمكنت من كسب دعم لا محدود من حكومات أميركا وأوروبا، وتعاطف صامت من جانب دول كبرى مثل روسيا والصين من جهة، وبين "جبهة إيران" وساحاتها الموحدة التي اعتمدت شعارات دعم الفلسطينيين لتحقيق مكاسب خاصة تتعلق بنفوذ النظام الإيراني الإقليمي وحمايته في عقر داره. ومع تبلور معالم الجبهتين المتصارعتين على هذا النحو، انصرفت إسرائيل، في ظروف ما اعتبرته فرصتها التاريخية لتدمير أعدائها، إلى خوض حروب تدميرية حاسمة في لبنان وسوريا وضد حوثيي اليمن وميليشيات "الحشد" في العراق، ثم توجت هذه الحروب بهجماتها ضد إيران في حرب الأيام الـ12 في يونيو (حزيران) الماضي.
في الأثناء لم تسترح حرب غزة يوماً. ففي القطاع تتجسد بالنسبة إلى التطرف الإسرائيلي الفرصة التاريخية لعملية التطهير العرقي وتفريغ الأرض من سكانها سعياً إلى تحقيق الحلم التاريخي بضم كل الأرض الفلسطينية، بما في ذلك الضفة الغربية وجعلها جزءاً من الدولة العبرية. وعلى مدى عامين قتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين (تتحدث الأونروا عن 300 ألف قتيل) وهدمت مئات آلاف الشقق والمباني السكنية، ودمرت المنشآت التحتية والمستشفيات ومراكز الخدمات العامة، وحكم على السكان بالتشرد المتتالي والجوع والموت بحثاً عن الخبز وما يسد الرمق.
مع ذلك ازداد السكان الفلسطينيون في غزة والضفة تمسكاً بأرضهم وعبروا عن رفضهم للاحتلال بقدر ما حاولوا إعلان رفضهم لمغامرات "حماس"، لكن هجمات القصف والدمار والقتل جعلت همهم الأول الحفاظ على حياتهم متنقلين عشرات المرات شمالاً وجنوباً عبر القطاع المنكوب، من دون إبداء أي استسلام لأفكار ومشاريع الترحيل النهائي.
لقد كانت نتيجة المغامرة التي تبنتها إيران وفصائل "الإخوان المسلمين" كارثة لا يتصورها عقل. اهتزت "حماس" نفسها بين قيادات لم تعلم بقرار "الطوفان" وأخرى قررته وسارت به، حتى إن إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس الإيراني كشف منذ أيام عن أن إسماعيل هنية قائد "حماس" الذي اغتيل في طهران، لم يكن على علم بقرار المعركة، بينما سارع المرشد علي خامنئي إلى الإشادة بها فور اندلاعها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انتهت المغامرة إلى إنجازات عسكرية إسرائيلية على مختلف الجبهات. اضطر "حزب الله" إلى توقيع اتفاق إذعان سيعتبره مع رعاته الإيرانيين انتصاراً، وحوصرت ميليشيات "الحشد العراقي" بحيث باتت تخشى التحرك، وانتصرت المعارضة السورية ليهزم بشار الأسد وتخرج إيران وميليشياتها من سوريا وتفقد موقعها الأساس في عمارة "الهلال الشيعي" الذي بكر الملك الأردني عبدالله الثاني في التحذير منه.
ومع إبادة إسرائيل للقيادة العسكرية الإيرانية وميليشياتها اللبنانية ثم اغتيالها الحكومة الحوثية في ضربة واحدة، بلغت "المكاسب" الإسرائيلية ذروتها فيما لم تتقدم المفاوضات في شأن الحرب في غزة خطوة واحدة، وتمضي الحكومة الإسرائيلية في خياراتها القصوى: احتلال القطاع ودفع سكانه إلى مغادرته من دون أي أفق لحل أو تسوية.
لكن الانتصارات العسكرية لم تفتح الباب أمام مكاسب سياسية تحققها إسرائيل فيما ازدادت النقمة الدولية على ممارسات الاحتلال في غزة. الصحف والمعارضة في إسرائيل حذروا من "عزلة دولية" تشتد حول الدولة وتكرر في إسرائيل الحديث عن "أيلول أسود" يحاصر الدولة كانت ذروته في الاندفاعة العالمية إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية ودعم التحرك السعودي - الفرنسي من أجل فرض حل الدولتين.
لقد رسمت المبادرة السعودية - الفرنسية أفقاً ومخرجاً، لا بديل عنهما لوقف المقتلة أولاً ثم الشروع في البحث عن حل نهائي قوامه قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي اللقاء العربي - الإسلامي مع ترمب تمت ترجمة المثابرة العربية في التمسك بحقوق الشعب الفلسطيني، في المبادرة التي تبناها الرئيس الأميركي، ثم ناقشها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتتحول إلى خطة سلام ما كان يمكن لـ"حماس" المحاصرة والمهزومة أن ترفضها، كما لم يكن في حساب نتنياهو، المستند كلياً إلى الدعم الأميركي، أن يعارضها للمضي في خطته الأصلية وقوامها إعادة احتلال القطاع وضم الضفة وتهجير السكان الفلسطينيين.
لقد فعلت موازين القوى السياسية والعسكرية فعلها لتنتج خطة التسوية المطروحة، والضمانة الأبرز في هذه المرحلة لإنجاز هذه التسوية هي في إصرار ترمب على تنفيذها بالكامل، واستمرار الموقف العربي الصلب في تعاطيه الإيجابي مع الإدارة الأميركية انطلاقاً من مجموعة الثوابت التي تبنتها القمم العربية بمشاركة منظمة التعاون الإسلامي، ومن أهداف التحرك السعودي - الفرنسي الذي أنتج إعلان نيويورك ووضع الدولة الفلسطينية على جدول الأعمال الأممي عبر الأمم المتحدة.
ولمواصلة السير في اتجاه الدولة هذه لا بد من أن يأتي يوم، وهو سيأتي حكماً، يعاد فيه النظر بالتجارب والرهانات الفاشلة البالغة الكلفة، بما في ذلك الارتباط بالمحور الإيراني وتوظيف بلدان المشرق العربي في خدمة السياسة الإيرانية التي تدعي الخلاف مع إسرائيل في كل شيء، لكنها تتفق معها على البند الأساس المتناقض مع مصالح الفلسطينيين والعرب والسلام الإقليمي، ومع الآمال التي تثيرها خطة ترمب والمساعي العربية الراهنة، وهو رفض قيام الدولة الفلسطينية.