ملخص
ينطلق الفيلم في أواخر الثمانينيات مع تقديم مجموعة "فرنش 75"، وهي منظمة يسارية راديكالية يقودها بوب كالاهون (ليوناردو دي كابريو) ورفيقته بيرفيديا بيفرهيلز (تيانا تايلور)، تنفذ الجماعة عمليات جريئة: اقتحام مراكز احتجاز المهاجرين في كاليفورنيا، وتعطيل مقار حكومية وبنوك، واستهداف شبكات الكهرباء.
في زمن تغرق فيه هوليوود بسلسلة لا تنتهي من أفلام الأبطال الخارقين والأفكار المكررة الموجهة للمنصات الرقمية، يأتي فيلم بول توماس أندرسون الجديد "معركة تلو الأخرى" (One Battle After Another)، ليشكّل استثناءً صارخاً، وربما تحدياً مباشراً للصيغة السينمائية السائدة.
أندرسون، المعروف بقدرته على تحويل الرواية الأميركية الحديثة إلى تجارب بصرية ودرامية معقدة، يعود هنا إلى نص توماس بينشون "فينلاند" (1990)، لكنه لا يقدّم اقتباساً حرفياً بقدر ما يبني عالماً جديداً يمزج بين الكوميديا السوداء والملحمة السياسية والحركة المشبعة بالبارانويا والدراما العائلية الثقيلة.
والنتيجة عمل يمتد ثلاث ساعات تقريباً، لا يطلب من المشاهد مجرد المتابعة، بل المشاركة النشطة في تفكيك الأسئلة الأخلاقية والسياسية التي يطرحها.
قصة مفككة
ينطلق الفيلم في أواخر الثمانينيات مع تقديم مجموعة "فرنش 75"، وهي منظمة يسارية راديكالية يقودها بوب كالاهون (ليوناردو دي كابريو) ورفيقته بيرفيديا بيفرهيلز (تيانا تايلور)، تنفذ الجماعة عمليات جريئة: اقتحام مراكز احتجاز المهاجرين في كاليفورنيا، وتعطيل مقار حكومية وبنوك، واستهداف شبكات الكهرباء.
تبدو هذه المشاهد في البداية أقرب إلى صفحات رواية مصوّرة تعج بالفوضى، لكنها تحمل في عمقها تعليقاً سياسياً قاسياً على واقع أميركي لم يتوقف عن إنتاج الأزمات ذاتها حتى اليوم.
إحدى أكثر اللحظات تأثيراً تأتي حين تلتقي بيرفيديا بالكولونيل لوكجاو (شون بن) في مواجهة داخل مركز احتجاز. لوكجاو، العسكري الفاسد والمهووس جنسياً، يرى في بيرفيديا أكثر من مجرد خصم سياسي، انجذابه المشوّه لها يتحول إلى مزيج من الرغبة والانتقام والسيطرة المؤسسية، مما يخلق خطاً درامياً موازياً يزيد من تعقيد الحبكة.
لكن التوازن ينكسر حين تُعتقل بيرفيديا وتُجبر على الدخول في برنامج حماية الشهود. عندها يفرّ بوب ومعه ابنتهما الطفلة ويلا إلى حياة سرية، قبل أن يقفز الفيلم زمنياً 16 عاماً إلى الأمام.
في هذه المرحلة، تتقابل المثالية الثورية للشباب مع إحباط منتصف العمر: بوب أصبح رجلاً منهكاً، مدمناً، تائهاً بين ذاكرة مجروحة وواقع يزداد قسوة، بينما لوكجاو يترقى إلى رتبة عقيد وينضم إلى شبكة عنصرية سرية تُدعى "نادي المغامرين الميلاديين"، ويلا، التي أصبحت مراهقة (تشيس إنفينيتي)، تجد نفسها بين إرث والدها الثوري الممزق وضغوط حاضر متصدع.
مع دخول الشخصيات القديمة من "فرنش 75" مجدداً إلى حياة بوب - بينهم دياندرا (ريجينا هول) - يتحول السرد إلى مطاردة محمومة، يتداخل فيها الخطر الشخصي مع العبثية السياسية: مطاردات فوق أسطح المدن، هرب عبر أنفاق وأديرة، مشاهد كوميدية داكنة كتلعثم بوب في تذكر كلمات السر الثورية بينما هو غارق في المخدرات.
هنا، يبرع أندرسون في تحويل المأساة إلى كوميديا سياسية سوداء، وفي الوقت نفسه، يفضح هشاشة الشعارات الثورية حين تصطدم بجدار الواقع.
السياسة والواقع الأميركي
على رغم طموحه الجمالي، فإن العمل لا ينفصل عن السياسة الأميركية الراهنة، في عرضه لاحتجاز المهاجرين، وصعود جماعات التفوق العرقي، وتحول المؤسسات إلى أدوات للقمع، يبدو الفيلم وكأنه يقتبس مباشرة من نشرات الأخبار.
بل إن توقيت صدوره تزامن مع حادثة اغتيال الناشط اليميني تشارلي كيرك، التي صدمت الرأي العام الأميركي، وأعادت طرح أسئلة عن خطورة الاستقطاب السياسي الذي حذر منه الفيلم نفسه.
يقول ليوناردو دي كابريو في مقابلة مع "نيويورك تايمز"، "الفيلم سياسي جداً لأنه يعكس حقيقة أننا أصبحنا جميعاً عشائريين، لم نعد نستمع لبعضنا بعضاً"، تكشف تصريحاته كيف يرى أبطال الفيلم العمل كتنبيه مبكر لانهيار لغة الحوار داخل المجتمع الأميركي، وتحول الاختلاف السياسي إلى حال عدائية تهدد وحدة المجتمع.
من جانبها، عبّرت تيانا تايلور في مؤتمر صحافي عن أملها أن يثير الفيلم "نقاشات صحية" حول مستقبل المقاومة وحدود السلطة، هذه التصريحات، إلى جانب الخطاب العام الذي أثاره الفيلم، جعلت منه ليس مجرد عمل ترفيهي بل نصاً سياسياً يفرض نفسه على النقاش العام.
شخصيات على حافة الفوضى
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تتحرك الشخصيات في العمل على خطوط متشابكة بين المأساة والفكاهة، بين الثورة والانكسار، لتشكل لوحة بشرية غنية ومعقدة. بوب كالاهون، في أداء لافت من ليوناردو دي كابريو، هو ثوري سابق محطّم، رجل عاش المجد القصير للشباب قبل أن يبتلعه الإدمان والفشل الأبوي.
دي كابريو يقدم شخصية معقدة لا تكتفي بكونها ضحية، بل تحمل في داخلها مزيجاً من البطولة المأسوية والضعف البشري والفكاهة السوداء. حركاته المرتبكة وارتجافاته، وحتى لحظات سذاجته، تعكس انهيار رجل حاول تغيير العالم وانتهى عاجزاً عن تربية ابنته أو إنقاذ نفسه، دور جميل، لكنه ليس أقوى أدوار الممثل الأميركي.
في المقابل، تقف بيرفيديا في أداء جريء من تيانا تايلور. ثورية وأم وامرأة تتحدى السلطة الأبوية والسياسية على حد سواء، مشاهدها وهي تخوض المواجهة المسلحة بينما كانت حاملاً في شهرها التاسع تحولت إلى أيقونات بصرية للفيلم، لأنها تتجاوز الإثارة إلى رمزية أعمق: الثورة كحال ولادة مستمرة، كإرث يمر من جيل إلى آخر أياً كانت الكلفة.
أما لوكجاو، كما جسده شون بن، فهو تجسيد للشر المؤسسي في أكثر صوره إثارة للرعب والضحك في آن واحد، كل إيماءة، كل حركة رأس أو نظرة وسواسية، تنضح بمزيج من الشهوة والسلطة والانحراف. شخصيته تفضح كيف يمكن للأنظمة أن تشرعن العنف والتطرف باسم النظام، وكيف يتحول القمع الفردي إلى أداة سلطوية شاملة، وهنا يمكن القول إن شون بن قدم واحداً من أفضل أدواره، بخاصة على الصعيد النفسي.
ويلا، ابنة بوب وبيرفيديا، هي عدسة الجيل الجديد، في أدائها المميز، تمنح تشيس إنفينيتي الشخصية عمقاً نادراً لمراهقة على الشاشة: فتاة ذكية، مستقلة، لكنها أيضاً محاصرة بإرث سياسي وأبوي لم تختره. من خلالها يرى المشاهد كيف تنتقل صدمات الماضي إلى الأجيال اللاحقة، وكيف يمكن للمقاومة أن تتجدد أو تتفتت.
حتى الأدوار الثانوية - مثل دياندرا التي تؤديها ريجينا هول - تضيف طبقات إنسانية، فوجودها يعيد التذكير بأن الثورة ليست مجرد شعارات كبرى، بل شبكة من الروابط الشخصية والصداقات والخيانة أحياناً. في هذه المجموعة المتشابكة، يخلق أندرسون لوحة بشرية كاملة تراوح ما بين البطولة والانكسار، ما بين العبث والفداء.
لغة بصرية
ما يميز أندرسون (1970) دوماً أن إخراجه لا يكتفي بسرد القصة بل ينسج خطاباً بصرياً موازياً. مع مدير التصوير روبرت إلسويت، اعتمد تقنية VistaVision التي تمنح المشاهد وضوحاً لافتاً في الحركة والمعارك، وتخلق إحساساً بالمسافة الزمنية التي يتنقل فيها الفيلم بين الثمانينيات والألفية، اللقطات الطويلة للمطاردات فوق الأسطح، أو المشاهد التي تدور في فضاءات مغلقة مكتظة، تضع المشاهد وسط الفوضى من دون أن يفقد إدراكه للمكان.
ولد بول توماس أندرسون، في لوس أنجليس، ويُعتبر واحداً من أبرز صُنّاع السينما الأميركية المعاصرة وأكثرهم تأثيراً، يتميز بقدرته على المزج بين السرد الملحمي والتحليل النفسي للشخصيات، إلى جانب عينه البصرية الدقيقة التي تظهر في تكوين اللقطات وحواره العميق مع الصورة.
منذ بداياته، كان شغوفاً بالسينما الكلاسيكية، لكنه طور أسلوباً خاصاً يجمع بين طموح المخرجين الكبار مثل كوبولا وسكورسيزي وروبرت ألتمان وبين حساسية جيله من المخرجين المستقلين في التسعينيات.
أعماله الأولى مثل Boogie Nights (1997) وMagnolia (1999) رسّخته كصوت جديد في هوليوود، قادر على الجمع بين البنية السردية المتشعبة والمشاهد العاطفية المكثفة، ثم جاءت مرحلة النضج مع There Will Be Blood (2007)، الذي اعتُبر واحداً من أعظم أفلام القرن الـ21، حين قدّم ملحمة عن الجشع والنفط والسلطة بصياغة بصرية وصوتية مذهلة.
لاحقًا، مع The Master (2012) وPhantom Thread (2017)، اتجه نحو دراسات أكثر حميمية ونفسية، لكنه ظل وفيًا لقدرته على تحويل الصراع الشخصي إلى سؤال كوني.
الموسيقى، كما في معظم أفلامه الأخيرة، هي من تأليف جوني غرينوود، ألحانه هنا تمزج بين التوتر العصبي والنغمات الساخرة، مما يجعلها جزءاً من السرد أكثر من كونها خلفية، تنقل المشاهد من الرعب إلى السخرية إلى الحزن في لحظات متقاربة، مؤكدة الطابع الباينشوني للعمل إذ لا يفصل بين العبث والمأساة سوى شعرة.
أندرسون وباينشون: شراكة غير مكتملة
ليس هذا اللقاء الأول بين أندرسون وبينشون، فقد سبق أن اقتبس عام 2015 رواية Inherent Vice في عمل ساخر، لكن في "معركة تلو الأخرى" يذهب بعيداً، متحرراً من النص الأصلي ليركز على أفكار أساسية: البارانويا، ومقاومة السلطة، وانكسار الحلم الثوري، النتيجة ليست نقلاً للأدب إلى السينما، بل إعادة كتابة سياسية وفنية لرؤية بينشون بما يناسب اللحظة الراهنة.
"معركة تلو الأخرى" ليس مجرد فيلم، بل بيان جمالي وسياسي، عبر مزج العبث بالمأساة، والثورة بالفشل، والعائلة بالفوضى، يذكّر بول توماس أندرسون جمهوره أن السينما قادرة على أن تكون أكثر من تسلية: أن تكون فضاءً للتفكير والصدمة والأمل في آن.
إنه فيلم يطالب المشاهدين بمواجهة أسئلة عصرهم: ما معنى المقاومة حين تتحول السلطة إلى جهاز شامل؟ كيف تنتقل الصدمات عبر الأجيال؟ وهل يمكن للفن أن يفتح نافذة للحوار وسط الانقسام؟
الجواب لا يقدمه الفيلم بصورة مباشرة، لكنه يتركه مفتوحاً عبر شخصياته الممزقة، وصوره الموحية، وموسيقاه المقلقة، في عالم يزداد انقساماً يصبح "معركة تلو الأخرى" أكثر من مجرد عمل سينمائي، إنه مرآة لواقعنا، وجرس إنذار لمستقبل قد لا يكون بعيداً.
النقاد بدورهم انقسموا بين من اعتبر الفيلم "تحفة مطلقة" ومن رأى أنه "فوضى ساحرة" لا تلائم الجمهور العريض. لكن شبه الإجماع كان على الإشادة بأداء الممثلين، خصوصاً دي كابريو وبن، وعلى البراعة البصرية التي تجعل الفيلم مرشحاً بقوة لجوائز الأوسكار في فئات الإخراج والتصوير السينمائي والتمثيل.