يقول لنا تاريخ إنجلترا كما نعرف أنه جرى في عام 1587 إعدام ماري ستيوارت، ملكة اسكتلندا بقطع رأسها، وذلك بأمر مباشر من الملكة الإنجليزية إليزابيث الأولى. والأسباب، في الدرجة الأولى سياسية: إذ من الواضح أن اليزابيث كانت ترى في ماري ستيوارت غريمة خطرة لها، قادرة على أن تصل إلى العرش البريطاني. أما خارج إطار هذا التنافس السياسي، فكان هناك أيضاً الصراع الديني والحقد الشخصي وما إلى ذلك. المهم أنه منذ ذلك الزمن المبكر تلقف الأدباء ثم الموسيقيون حكاية ماري ستيوارت وشخصيتها هذه، ليبنوا من حولها أعمالاً إبداعية كثيرة، انتمى مبدعوها إلى شتى الأمم الأوروبية، وكان واضحاً مدى انبهارهم جميعاً بتلك الشخصية. فمن ادموند سبنسر الذي حولها إلى "ملكة الجن" وأضفى على حياتها طابعاً شاعرياً مدهشاً، إلى انطوان دي مونكرتيان، إلى الاسباني لوبي دي فيغا، إلى الهولندي دن فاندل، إلى رهط من الكتاب الإيطاليين، وصولاً إلى سوينبرن، ومن ثم إلى كبار ملحني الأوبرا دونيزيتي وكاسيلا بين آخرين، كان من الواضح أن كلاً من هؤلاء يريد أن تكون له "ماري ستيوارت" خاصة به. وهكذا امتلأ تاريخ المسرح والموسيقى بأعمال كان السؤال الذي يدور من حولها دائماً هو: ... ولكن أين شكسبير؟ كيف لم يكرس زعيم المسرح الإنجليزي لتلك الملكة، معاصرته، عملاً مسرحياً خاصاً؟ مهما يكن من الأمر فإن كاتب المسرح الألماني فردريك شيلر الذي يقارن غالباً بشكسبير، سد هذا النقص وكتب، بدفع من غوته وإثر نقاشات واسعة معه، وتحت تأثير نزعته الأخلاقية، ما يمكن اعتباره أفضل عمل، مسرحي في الأقل، كتب عن "ماري ستيوارت".
تحت تأثير غوته
بدأ شيلر كتابة "ماري ستيوارت" خلال الأعوام الأخيرة من القرن الـ18، لتقدم للمرة الأولى على المسرح عام 1801 في فايمار، وكانت تلك هي السنوات التي ارتبط فيها شيلر بصداقته العميقة مع غوته. ومن هنا فإن شيلر، بدلاً من أن يسير على الدورب الممهدة فيصور في مسرحيته الصراعات بين البشر وإخوانهم البشر، آثر أن يصور الصدمة الداخلية، لدى البشر، بالصراعات التي تدور في داخلهم انعكاساً لقلقهم وتاريخهم، وربما أيضاً انعكاساً لأهوائهم، مهما كانت غرابتها. ومن هنا جاءت مسرحيته تأكيداً بأن "في هذا الصراع الداخلي القاسي، الذي لا يمكنه أن يكون شيئاً آخر غير مجرى الحياة البشرية نفسها، الإنسان عرضة للخطيئة، مهما كان صاحب مثل عليا، لكن الإنسان الأمثل هو ذاك الذي، في معرض صراعه ضد أخطائه وخطاياه، يسعى إلى إعادة توطيد المنظومة الأخلاقية المغتصبة، لكي يتمكن من استعادة براءته الأولى". ولعل في مقدورنا أن نتلمس في هذا النص بالذات، وهو نص لشيلر غالباً ما يرفق بالمسرحية، ولا سيما حين تصدر مطبوعة التأثير الأخلاقي بل الفلسفي لغوته، الذي تقول الحكاية إنه كان من أول الذين لفتوا نظر شيلر إلى الموضوع، محدداً له بعده الفكري، بل ربما السيكولوجي كذلك.
رغبة الملكة الأخيرة
ولعل ما يهمنا هنا هو أن نقول إن تلك العبارات "التحليلية"، التي تكاد تكون مشتركة بين شيلر وغوته، إنما هي التي تعبر أفضل تعبير عما تسعى إليه ماري ستيوارت، خلال الفصل الأخير من حياتها، وهي في السجن تنتظر تنفيذ حكم الإعدام فيها، معربة على أن من المستحيل عليها أن ترغب في أي شيء غير هذا، وسيعز عليها أن تموت من دون أن تحصل عليه! إنها مستسلمة إلى الموت، حتى وإن كان لا يفوتها أن تبذل محاولات أخيرة - كالواجب اليومي الذي يؤدى من دون كبير اقتناع - لكي يتم وبمعجزة ما إنقاذها من "وطأة هذا الحكم"، ليس لأن فيه مقتلها، بل لأن "تنفيذه فيه ظلم ليس لها وحدها، بل لمتخذيه ومنفذيه أيضاً". ذلك أن الموت بالنسبة إلى ماري ستيوارت، يبدو هنا وعلى أية حال في ما يخص حالتها، قرباناً أخيراً يجب تأديته في سبيل الإيمان، الذي انشغلت طوال حياتها في الدفاع عنه. ومن هنا فإن كل العناصر الأخرى في مسار حياتها وفي التراجيديا التي تعيش فيها مؤامرات القصور، ضروب المنافسة، الجرائم وجرائم الحب... وما إلى ذلك، سرعان ما تبدو شاحبة أمام ماري ستيوارت، حين تخلو إلى ذاتها أخيراً وتفكر في مصيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في انتظار الفرمان
إن مسرحية شيلر، تصور لنا هذا، بالتحديد، إذ إنها - وهي مسرحية شعرية - تبدأ مع ماري، ملكة اسكتلندا إذاً، وهي معتقلة في زنزانة في قلعة فورترنغهاي. ونحن لا يخامرنا أدنى شك، منذ البداية في أنها متهمة ظلماً بالضلوع في مؤامرة تستهدف اغتيال الملكة إليزابيث. وفي وحدتها النسبية تجلس ماري ستيوارت تفكر وتتأمل، وهي في انتظار فرمان يأتي من إليزابيث ليرسلها إلى حيث تقطع رأسها. وخلال هذا تقدم لنا ماري ستيوارت، هادئة محبة رومنطيقية دافئة. أي أنها تحمل من الصفات ما يجعلها النقيض المطلق لإليزابيث، التي لا يمكنها أن تعيش إلا محاطة بالصراعات والمؤامرات. وخلال مجرى أحداث المسرحية، تكون ثمة محاولتان لإنقاذ رأس الملكة الاسكتلندية، لكن المحاولتين تفشلان. أما الكونت الشاب مورتيمر، فإنه إذ يحاول أن يخترق القلعة لإنقاذ ماري ستيوارت فإنه يفشل بدوره، إذ تنكشف محاولته وينتهي به الأمر إلى الانتحار. أما المجابهة الحادة والرائعة درامياً التي تقوم بين ماري ستيوارت وإليزابيث، في مشهد يمثل نقطة الثقل في المسرحية، وربما يكون واحداً من أقوى المشاهد صوغاً في تاريخ المسرح الأوروبي بأسره، فإنها - أي هذه المجابهة - بدلاً من أن تؤدي - كما كان مطلوباً منها - إلى الصلح بين الملكتين، فإنها تؤدي إلى تفاقم الكراهية والحزم، وذلك بكل بساطة لأن ماري تفوز في المجابهة على إليزابيث أخلاقياً، وهو أمر ما كان يمكن لهذه الأخيرة أن تستسيغه. ومن الواضح أن هذا الانتصار الأخلاقي لماري، كان هو ما حدد مصيرها: لقد كان عليها أن "تنهزم" أخلاقياً أمام إليزابيث لكنها لم تفعل، بل لم ترد ذلك أصلاً، لأن ماري كانت اختارت التصلب في حقها وموقفها وبراءتها، حتى ولو أدى بها ذلك إلى الموت. وينتج من هذا قرارات متضاربة وملتبسة تتخذها إليزابيث، تنتهي بالتعجيل بإعدام ماري.
أبعد من الإطار التاريخي
والحال، أن هذا البعد في المسرحية، وهذا الصراع من حول ماري وفي داخلها، أضفى بعداً كونياً إنسانياً على مأساتها، بعداً تجاوز الإطار التاريخي للحدث. ولئن كان شيلر، الذي كان من المتحمسين للثورة الفرنسية أول الأمر، ثم طفق يمعن الفكر فيها، قد اختار على ضوء أحداث تلك الثورة أن يكتب هذه المسرحية، فالأمر لم يكن مصادفة. ذلك أن شيلر كان من الذين تنبهوا إلى واقع أنه مع قيام الثورة الفرنسية قامت ظاهرة جديدة، وهي تتمثل في تدخل الشعب مباشرة في السياسة، قبولاً أو رفضاً، مما خلق ما صار يسمى لاحقاً بالرأي العام. ومن هنا فإن "ماري ستيوارت" تندرج ضمن إطار التفاعل مع هذه الظاهرة، إذ إنه لا علاقة حقيقية لها بمسائل الصراع حول التاج البريطاني، بل إن المسائل الكبرى التي تتناولها هي الحرية، والإرادة الفردية والأخلاق في السياسة، وكل هذا على ضوء أفكار كانط وروسو من ناحية، ونزعة غوته الأخلاقية الإنسانية من ناحية ثانية. وهذا ما يجعل مسرحية "ماري ستيوارت" مسرحية فلسفية، تملؤها تساؤلات كانت سائدة في ذلك الحين، الذي ولدت فيه السياسة بوجه جديد في أوروبا. فإذا أضفنا إلى هذا سمة أخرى في المسرحية تطاول الخيبة: الخيبة أمام مشروع سياسي عادل، لكنه لم يكتمل بسبب قصور لدى أصحابه، يصبح لدينا عمل يتناول زمنه، ويوجه نقداً حاداً إلى الثورة الفرنسية نفسها. نقداً مبكراً يتضافر مع مواقف بيتهوفن وهيغل من الثورة نفسها.
إرهاص بالمعاصرة السياسية
وفردريك شيلر (1759-1805) ينتمي فكرياً إلى زمنه ومفكري زمنه، ومن هنا اكتسبت كل أهميتها، مسرحية كهذه لوحظت معاصرتها على الفور. و"ماري ستيوارت" كانت من آخر المسرحيات التي كتبها شيلر، الذي أنتج خلال حياته القصيرة 18 مسرحية مهمة، جعلت مكانته، في ألمانيا، توازي مكانة شكسبير في إنجلترا. ومن أعمال شيلر الكبرى "دون كارلوس" و"موت ولنشتاين" و"وليام تل" و"فتاة اورليان".