Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أممية القرن الـ20 بدأت قبل "ولادتها" بأكثر من 200 سنة

اقترحها الألماني كانط "مشروعاً للسلام الدائم" وتبناها الرئيس ويلسون قبل أن يرفضها الكونغرس الأميركي

إيمانويل كانط (1724 – 1804) (غيتي)

ملخص

يرى كانط أن الدستور الوحيد الذي يضمن السلام بين الأفراد داخل الأمة الواحدة والمجتمع الواحد، إنما هو الدستور القائم على المساواة التامة. ثم ينتقل من الحديث عن الأفراد داخل الحيز الجغرافي والوطني الواحد، إلى الحديث عن الأمم، والعلاقات بينها.

إذا كانت منظمة الأمم المتحدة التي نعرف أهميتها، على رغم النواقص التي تعتورها في الزمن الراهن، تعتبر الوسيلة الوحيدة التي تملكها الإنسانية لتسيير ما تيسر من شؤونها، لكن غالباً ما تحارب من قوى تأتي من داخلها، فتجد اليوم مثلاً أعتى أعداء تاريخها في شخص الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي ربما ينسى أو لا يعرف أن المؤسس الحقيقي لهذه المؤسسة ليس سوى سلفه الكبير وودرو ويلسون عند بدايات القرن الـ20، سيد البيت الأبيض الذي ينسى كثر بالتالي أن تأسيسه لها كفكرة إنما أتت لديه مقتبسة من الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، بل إن الذين لا ينسون هذا قد يخيل إليهم أن الالتقاء على المشروع الأممي بين الفيلسوف والرئيس كان مجرد صدفة. غير أن الحقيقة تقول لنا إن ويلسون كان في شبابه مغرماً بالفلسفة وكان "كانطياً"، في الأقل في نزوعه الفلسفي، ومن هنا نراه، منذ قرأ، بل درس في صدر ذلك الشباب نصاً لكانط حول العمل من أجل سلام دائم بين الأمم، يقرر أنه حين سيقيض له ذلك، سيجعل من المشروع دينه وديدنه. وبالفعل تمكن من ذلك حين بات رئيساً للولايات المتحدة، وطلع أول ما طلع بفكرة نقلها عن كانط تجسدت في "عصبة الأمم"، الهيئة التي قامت قبل الأمم المتحدة، متوخياً منها أن تلعب بين الأمم الدور نفسه الذي كان كانط يتوخى منها لعبه. ونعرف طبعاً أن جزءاً أساسياً من فشل العصبة نتج من عدم قبول الكونغرس الأميركي بها، مما جعل الولايات المتحدة غائبة فافتقدت العصبة لأية فاعلية، ولأي دور كان يمكن أن يناط بها.

بين الفكر والأخلاق

وهذا الدور ربما نجد جذور الحديث عنه في نص، سبق جميع النصوص في تصوره العملي والفكري والأخلاقي لمسألة السلام بين الأمم، ليس كأمنية طيبة، بل كمشروع عمل. وهذا النص الذي نشر للمرة الأولى قبل أكثر من قرنين من زماننا هذا، وضعه الفيلسوف التنويري إيمانويل كانط في عام 1895، أي على ضوء البعد الأممي الجديد والمفاجئ الذي كان صار للعالم إبان الثورة الفرنسية وما حملته من جديد، من خلال كتابات الذين أرهصوا بها. والنص الذي نعنيه هنا هو "مشروع لسلام دائم"، الذي اعتبر واحداً من أقصر نصوص كانط، لكنه من أهمها وأكثرها ارتباطاً بالواقع العملي، ولعل شيئاً من الإنصاف جدير بأن يجعلنا نقرأ هذا النص مرات ومرات، لنكتشف كل مرة أن كانط يكاد يكون فيه المؤسس الحقيقي الرائد لعولمة العالم، سياسياً وأخلاقياً أيضاً. وينطلق كانط في نصه هذا من فكرة يقول فيها إن "حال السلام التي تقوم بين البشر العائشين في جوار بعضهم بعضاً، ليست حالاً طبيعية، بل هي حال حرب: إذ حتى إذا كان القتال لا يندلع على الدوام بينهم، فإن العداوات تشكل مع هذا خطراً دائماً"، ومن هنا يرى كانط أن حال السلام بين هؤلاء البشر "ينبغي أن تفرض فرضاً". ومن هنا دور الدولة، إذ إن دستور هذه الدولة هو الذي يفرض السلام بين الجيران من أبناء المجتمع الواحد، أولاً انطلاقاً من مبدأ الحرية، ثم انطلاقاً من مبدأ تبعية كل طراف إزاء الآخر، ثم تبعية الكل إزاء تشريع واحد مشترك، وثالثاً انطلاقاً من قانون المساواة بينهم كمواطنين.


الدولة لفرض السلام

وفي هذا الإطار يرى كانط أن الدستور الوحيد الذي يضمن السلام بين الأفراد داخل الأمة الواحدة والمجتمع الواحد، إنما هو الدستور القائم على المساواة التامة. ثم ينتقل من الحديث عن الأفراد داخل الحيز الجغرافي والوطني الواحد، إلى الحديث عن الأمم، والعلاقات بينها. وهنا يشرح لنا كانط أن الأمم في العلاقات القائمة بينها تشبه المواطنين في علاقاتهم المتبادلة: إنها هي بدورها في حال حرب دائمة أو هذا ما تفرضه الطبيعة، إذ إن التهديد بالحرب والصراع قائم بصورة متواصلة. ولتفادي هذه الصراعات يتعين، طبعاً، على كل أمة أو دولة أن تدخل مع الأمم / الدول الأخرى في شراكة هي نسخة عن الشراكة التي تضبط العلاقات بين المواطنين داخل الأمة الواحدة، مؤمنة لكل فرد أن يحترم الآخرون حقوقه، طالبة منه القيام بواجباته. ومن هنا، يستنتج كانط، ضرورة قيام نوع من الفيدرالية بين الشعوب. وهذا لا يعني بالنسبة إلى فيلسوفنا، بالطبع، إلغاء استقلالية تلك الشعوب، بل قيام فيدرالية مهمتها ضمان حقوقها. وبالنسبة إلى كانط تشكل هذه الفيدرالية رابطة للسلام، هي شيء آخر تماماً غير المعاهدات السلمية التي اعتادت أن تنهي الحروب، ولكن من دون أن تلغي حال الحرب ومنطقها. ومهما يكن، لا شك أن كانط، في نصه الرائد هذا، لا يبدو كثير الأوهام، بل يقول لنا بوضوح إن الصعوبة الكبرى في وجه وجود تشريع دولي أممي يعبر عن نفسه في فيديرالية الشعوب، تكمن في واقع أن "كل دولة من الدول لديها قوانينها ودساتيرها التشريعية الداخلية"، في وقت نجدها فيه "غير مضطرة إلى الخضوع إلى قوة إكراهية خارجية تضبط علاقاتها"، إذ هنا لا وجود للحق العام ولا للضرورات المتبادلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نحو فيدرالية كونية

ومع هذا، يقول لنا كانط، في فقرة هي الأقوى، "بما أن العقل يشجب الحرب شجباً مطلقاً بوصفها أداة حقوقية، تصبح مسألة تأمين السلم ضرورة وواجباً". وهذا يعني أن السلام الدائم "حتى وإن كان من غير الممكن تحقيقه الآن وبصورة مباشرة، يتعين أن يكون غاية من واجب الشعوب تحديدها ضمن إطار تطور العلاقات في ما بينها"، وإذ يتوقف كانط هنا ليقول لنا إن هذا "الهدف تعترف به كل الأمم"، يستطرد "ولكن بما أن النشاط السياسي يقاد عادة تحت تأثير الدوافع الأنانية، نجد كيف أن حكومة الدولة القوية، تسعى في علاقاتها مع جيرانها الأضعف، ليس إلى القيام بواجب ما، بل إلى توسيع رقعة ممارستها حقها"، ولكن في رأي كانط هناك "قوة تعمل دائماً على تحطيم ما يبنيه الطمع السياسي الطموح: وهذه القوة هي الإرادة الكونية، التي تنحو دائماً إلى البرهان على وجود غائية معينة في مجرى الأحداث". وما هذه الإرادة الكونية في رأي كانط سوى "العناية الإلهية التي هي العلم العميق لقضية أكثر سمواً، وغايته أن يحقق للنوع الإنساني هدفه الأسمى". وينطلق كانط من هذا التأكيد الأخير ليقول لنا إن هذا يعني أن "على السياسة الخضوع للعامل الأخلاقي، ما دام أن الأخلاق هي الهدف الأسمى للإنسان". وهذا ما يدفع كانط إلى الاستنتاج هنا بأن "مشكلة العلاقات الدولية لا يمكن أن تجد حلها على الصعيد الحقوقي البحت، بل فقط على الصعيد الأخلاقي"، في معنى أن "تحقيق فكرة السلام الدائم بين الأمم لا يمكن أن تكون إلا هدفاً واجباً أخلاقياً يفرض نفسه على ضمائر كل أولئك الذين يسعون إلى ضبط العلاقات المتبادلة بين الأمم". وهذا ما يدفع كانط إلى مخاطبة قرائه بالقول: "اسعوا أولاً لكي تكون الهيمنة للعقل العملي الخالص ولعدالته، لتجدوا أن هدفكم الذي هو الوصول إلى خير السلام الدائم يتحقق أمامكم تلقائياً".

بين شعوب متساوية

ويقيناً، إن ايمانويل كانط (1724 – 1804) حين وضع هذا النص كان يفكر طبعاً بوضعية أوروبا في ذلك الحين، وكان أيضاً يفكر بالسلام بين شعوب متساوية حضارياً إلى حد ما، ويعيش كل منها استقلاله، أو قدراً كبيراً منه في الأقل. وآية ذلك أنه حين وضع هذا النص، إنما وضعه لمناسبة عقد "مؤتمر بال" في عام 1795، إذ لاحظ أن معاهدة السلام المنفصلة التي عقدت بين بروسيا وفرنسا لم تتمكن أبداً من وضع حد لحال الحرب في مناطق أخرى، إذ فيما كانت بروسيا وفرنسا تسعيان إلى أن تنعما بالسلام، كانت الحرب متواصلة بين إنجلترا والنمسا.
وإيمانويل كانط كان في ذلك الحين يعرف ذروة مجده كواحد من أهم الفلاسفة الألمان، إضافة إلى أن فكره الذي كان يزداد انتشاره كان في طريقه لأن يصبح فكراً عالمياً بامتياز، لكن عالمية فكر كانط لم تنبع من مثل هذه النصوص السياسية أو السلمية على أهميتها، بل من فكره النقدي الفلسفي الخالص، الذي تجلى في كثير من أعماله الكبرى، التي لا تزال إلى يومنا هذا مرجعاً فكرياً إنسانياً كبيراً، ومن هذه الأعمال "نقد العقل الخالص" و"نقد العقل العملي" و"نقد ملكة الحكم" و"أسس لميتافيزيقا الأخلاق"، ناهيك بعشرات النصوص الأخرى التي أثرت في معظم فلاسفة القرنين الأخيرين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة